Print this page

حديث الأنا: ما الحياة إلا هزء ونفضان في الشخصيّة التونسيّة

«النوفوتال» نزل فخم. فيه حراسة يقظة ونظام. أعين الحرّاس في كلّ مكان. تنظر. تقلّب. في ما أرى، في النزل، نظافة وحرص. في الطابق الأول، توجد قاعة المحاضرات.

كنت أوّل الوافدين الى الندوة وكان الناس من كهول وطلبة يتساقطون واحدا واحدا. ها أنا جالس على كرسيّ مريح. أنتظر انطلاق الأشغال. أنظر في الوجوه. أتبيّن الناس. أنا دوما آتي في الموعد. ها أنا وحيد في البهو جالس. أنتظر. في كلّ مرّة، في كلّ موعد، أنا أنتظر. لا أحد في هذه الأرض «الطيّبة» يحترم الوقت. لا أحد يأتي في الموعد. كلّها تمشي ببركة الله وهديه. كلّها تسير كما شاءت الريح، بالرؤية. لا يعرف التونسيّون والعرب ماهيّة الوقت ولا ماهيّة الزمن. عيش العرب ترقّب. لخبطة. كلّ شيء يجري بقضاء. كلّ أمر يأتي بالصدفة. الصدفة عندنا خير من ألف ميعاد. في انتظار الصدفة، الكلّ تراه ينتظر. الكلّ يسبح. معلّق. صنم. تخلّف العرب أصله الكبت الجنسيّ وعجزهم على المسك بالزمن. لا أحد على الوقت مسيطر. الوقت شأن سماويّ. الوقت من عند ربّي وهو وحده للزمان محدّد. أنا أيضا لا أعير للوقت اهتماما. أبقى الساعات والأيّام دون غاية، دون هدف. في فراغ أحيا. في مهبّ الريح. تمضي السنون تجري وأنا في ذات المكان. قائم. ثابت. صخرة. أحيانا، أسأل نفسي ماذا أتيت في ما فات من الزمن. ماذا فعلت من نفع طوال العمر... ها أنا في آخر العمر. أنظر في ما كان. أتبيّن ما فعلت... لم أفعل شيئا. لا أرى شيئا. حياتي كلّها تهافت وقتل للزمن...

ها أنا في بهو النزل، في الطابق الأوّل، أترقّب أشغال الندوة. أتصفّح الوجوه علّي أعرف أحدا. أحيانا، ألقى طالبا كنت درّسته أو قارئا لمقالاتي في جريدة المغرب. لدى الطلّاب والقرّاء ألقى أحيانا حفاوة. يسعدني ما يقوله الناس من شكر. أسرّ بقولهم وأقول في نفسي معتزّا، مغترّا: «أنا ولا شكّ أستاذ مميّز. ما كنت درّست كان فيه صلاح ونفع. أنا ولا شكّ كاتب ماهر. ما كنت كتبت في جريدة المغرب قرأه الناس وأعجبوا بما حبّرته من عبر». تهزّني نرجسيّة. أشعر ببعض فخر. أقول في نفسي والى زوجتي والى البنيّة : «أنا أستاذ كبير. أحسن التدريس. أنا صحفي كبير. أتقن صناعة الكتابة». للأسف، لا تعير زوجتي الى ما أقول اهتماما. هي غير مقتنعة. أمّا البنيّة فكانت دوما تؤكّد وتقول: «كتاباتك في الحقيقة متوسّطة. مرّة فيها صواب ومرّات فيها هزّان ونفضان...» أشعر ببعض إحباط. أغيّر الموضوع. أتلهّى بأشياء أخرى. أجلس فوق كرسيّ غير ريح. أقول في نفسي: «لا أحد في البيت يفهم مقالاتي. لا أحد يقرّ بما لي من قدرات»...
الكتابة فعل جميل، هامّ، وإن جاءت في بلد لا يقرأ. أنا سعيد بما أتيت من كتابة. أنا فخور بما كان لي من إشعاع... هو إشعاع محدود ولا شكّ. لا يهم. سوف يحصل يوما ما أبتغي. المهمّ عندي هو أن يكون لي في الحياة الدنيا قول ولي كتابات فيها صواب. أحيانا... هذا الصباح، في انتظار الندوة، هذا عجوز اشتعل رأسه، يسألني إن كنت شيحة قحّة. فأجبته فرحا: «نعم.

هو أنا» فيقول وفي نظره امتنان وفي فمه ابتسامة: «قرأت لك عديد المقالات... هل أنت اليوم بخير، في صحّة؟» أفهم ما يعنيه الرجل العجوز. أظنّه قرأ ما كنت كتبت منذ أكثر من سنة. أشكر الرجل متابعته لما أكتب. تهزّني وقتها نشوة... أن يقرأ لك الناس، وإن قلّة، هو عطر وبلسم. أن تلقى لدى الناس فكرك هو صدى جميل، هو حياة ونعمة ... لن أتوقّف عن الكتابة. سوف أبقى أكتب. الكتابة، مهما اتخذت من أشكال ومن أنماط، هي كينونة. هي حصن منيع في وجه الزمن...

دوما أدعو زوجتي أن تكتب ما ترى وترسم ما لها من شجون ومن نظر. لزوجتي قلم بهيّ. لكنّها لا تكتب. هي تخشى الكتابة. لا تحبّ الظهور. أحيانا، مرّة كلّ سنتين، تكتب لي رسالة طويلة. ترسلها اليّ وفيها لوم وعتاب. فيها تحذير وتنديد بما كنت أتيت من فعل مخلّ ومن قول سائب... دوما، أدعو زملائي في الجامعة الى الكتابة. أحثّهم حتّى يقولوا ما في قلوبهم من فكر ومن حلم. أن يكتبوا لأنفسهم وللناس ما يحملون من علم ومن معرفة. لا يكتب الأساتذة الجامعيون الّا نادرا. يعيد الأساتذة في الأقسام دروسهم. يلوكون ما حذقوا من منوال وما جمعوا من نظريّة. دور الأساتذة هو الكتابة. دور المثقفين هو الكتابة. في تونس، الكلّ يخشى الكتابة. الكلّ لا يكتب. في الكتابة كشف للذات. تعريّة وفي بلاد العرب، العين حقّ والسترة واجبة...

دخلت القاعة وقد امتلأت القاعة بشرا من ذكور وإناث. من كلّ الأعمار. انطلقت الفعاليّات. بدأت المحاضرات وهذا رئيس الجلسة يقدّم الملتقى وما كان للملتقى من دواع ومن مقاصد. لم أعر لقول الرئيس اهتماما فهو يعيد أشياء بديهيّات، مملّة. لعلّه يضيّع الوقت حتّى يلتحق بالقاعة من تأخّر... في ذاك الصباح، استمعت الى ثلاث أو أربع مداخلات كلّها تشرح ماهيّة الشخصيّة التونسيّة، خصائصها. من زوايا مختلفة. أمّا الأولى فألقاها الأستاذ الجامعيّ الطيّب الطويلي وعنوانها «الشخصيّة التونسيّة والتديّن». كان الأستاذ يقرأ أوراقه وقد تتالت وتعدّدت أوراقه. كان جالسا وفي يده المصدح. يتلو علينا ما جمع من تعريفات وتصنيفات وجزئيّات ومراجع. في الحقيقة، اجتهد الرجل وجاءت محاضرته مملوءة بيانات وإشارات. لكن، رغم الجهد، لم ألق في المحاضرة ما كنت أرجو من تحريك للفكر وهزّ للسواكن. لم يوفّق الاستاذ في شدّ اهتمامي. كان يسرع في الكلام وعيناه دوما مرشقتان في الأوراق. لا أرى وجهه. انقطع بيني وبينه الخيط الرابط. ضاع الاتّصال. انطلق فكري سارحا في شؤون الدنيا، في ما سوف آتي غدا وما سوف أفعل...

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال