قهوة الأحد: وجوه من الإبداع (6) منير الفلاح واستقلالية العمل الثقافي

نواصل في هذه السلسلة من المقالات تقديم بعض الوجوه الثقافية الفاعلة في الساحة الثقافية وفي مجال الإبداع الفني والثقافي.ومن خلال هذا التقديم نحاول تأكيد دور المبدعين والفنانين في بناء المشروع الفكري والسياسي التونسي وفهم تفرده وخصوصيته مقارنة بالتجارب والمشاريع الأخرى في محيطنا العربي والإسلامي.وقد قدمنا في هذه السلسلة عديد الفنانين

والمبدعين المعروفين لا فقط في بلادنا بل على المستوى العالمي كالمخرج رضا الباهي والفنان نجا المهداوي والممثل والناشط رجاء فرحات والروائي شكري المبخوت الحائز على جائزة البوكر عن روايته»الطلياني» والناشط المنصف ذويب صاحب «المكي وزكية» وفي «هاك السردوك نريشو» .
كما قمنا كذلك بتقديم والتعريف بعديد الوجوه المغمورة والتي قد لا يعرفها الجمهور العريض لكنها لعبت دورا كبيرا في المجال الثقافي كالحبيب بلهادي.

وسنواصل اليوم هذا العمل بتقديم شخصية عرفت بعد الثورة بتعاليقها الساخرة على الصفحات الاجتماعية لتصبح أحد أهم الأقلام الساخرة والناقدة للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي من خلال نكاته اليومية على صفحات الفايسبوك والتي أصبحت وجهة الجمهور العريض.وهذه الشهرة دفعت إحدى الأسبوعيات الجادة في بلادنا وهي «الشارع المغاربي» إلى الاتصال به والاتفاق معه على تخصيص عمود أسبوعي نقدي ساخر اختار له من الأسماء «انتريتي نبار».هذه الشخصية هي الصديق منير الفلاح والذي أصبح أشهر من نار على علم على الصفحات الاجتماعية.

عرفت منير الفلاح منذ منتصف السبعينات وكانت لنا مسيرة مشتركة في الجمعيات الثقافية السينمائية إلى جانب العديد من الأصدقاء والناشطين الثقافيين في تلك السنوات الغوالي . وقد قررت تقديم منير الفلاح لان مسيرته ونشاطاته معبرة في جزء كبير منها على مسار الحركة الفنية والإبداعية في بلادنا.وسأرتكز في هذه المسيرة على ثلاث مسائل أساسية وهي استقلالية العمل الثقافي عن السلطة السياسية ثم محاولات بعض المثقفين خلق وإيجاد هامش حركة وحرية في المؤسسات الرسمية وأخيرا تجربة النقد السينمائي والثقافي في بلادنا .

لكن قبل الخوض في هذه المواضيع الهامة دعنا نعود إلى بدايات منير الفلاح ومسيرته الشخصية – وصديقنا هو احد أبناء مدينة صفاقس المعروفة إلى جانب نشاطها وديناميكيتها الاقتصادية بحركة ثقافية وفكرية وسياسية ونقابية هامة.ولد منير الفلاح في عائلة نقابية وكان والده احد قياديي نقابة الترصيف والشحن في صفاقس واحد رفاق القائد والزعيم الحبيب بن عاشور حتى انه وقع إيقافه اثر محاكمة 1963. وقد كان لانتماء الوالد ولنضاله النقابي تأثير كبير على المناخ العائلي ليصبح العمل السياسي احدى خصوصيات الجو العائلي.فالأخ نجيب كان احد الناشطين في حركة العامل التونسي ليتم إيقافه في منتصف السبعينات ومحاكمته.كما كان الأخ نور الدين أحد ناشطي حركة فيفري الطلابية سنة 1972 ثم ليواصل نضاله في الحركة القومية. وسيكون لهذا الجو العائلي السياسي والنضالي تأثير كبير في مسيرة صديقنا منير الفلاح والمسارين اللذين سيعرفهما منذ سنوات الشباب.أما المسار الأول فهو ثقافي وجمعياتي سيبدأ مع نادي سينما الشباب مع صديق الطفولة المنصف ذويب ونادي السينما العمالي ليتوج برئاسة نادي سينما الشباب سنة 1975.

وكانت هذه الفترة إحدى المراحل الذهبية في الحياة الثقافية لمدينة صفاقس حيث كانت للمدينة ثلاثة نوادي سينما وهي نادي سينما الشباب ونادي السينما العمالي ونادي سينما Louis Lumière وكان للمدينة في تلك الأيام عشر قاعات عرض سينمائي وحركية المدينة الثقافية لم تقتصر على السينما بل امتدت إلى كل مجالات الإبداع والفكر – فكان مثلا لنادي الفكر بدار الشباب إشعاع كبير من خلال المحاضرات الفكرية التي كان ينظمها لتلامذة الباكالوريا.

وسيتواصل النشاط الثقافي لمنير الفلاح عند قدومه إلى تونس العاصمة لمواصلة تعليمه الجامعي – فسيقع انتخابه في هيئة نادي سينما تونس سنة 1976.ثم سيرتقي إلى المسؤولية على مستوى جامعة نوادي السينما ليصبح احد أهم مسؤوليها على مدى 11 سنة بصفة مسترسلة من سنة 1976 إلى سنة 1987 ليتقلب في عديد المناصب من ضمنها رئاسة هذه الجامعة ليصير احد أهم وجوهها وليمثلها في هذه السنوات في عديد اللجان الرسمية الساهرة على السينما التونسية.وستتواصل تجربة التنشيط الثقافي والسينمائي من المجال الجمعياتي إلى المجال المهني ليحمل منير الفلاح مسؤولية التنشيط والسهر على العديد من التظاهرات الثقافية كمهرجان قرطاج وطبرقة وصفاقس والعديد من دور الثقافة كباب العسل ودار الثقافة ابن خلدون وصفاقس وباجة وبنزرت.والى جانب المسار الثقافي سيكون لمنير الفلاح مسار سياسي هام سيبدأ من حلقات النقاش والتكوين اليسارية في مدينة صفاقس ليتواصل مع عديد التجارب السياسية الأخرى في سنوات الدراسة الجامعية والعمل المهني.
ولا يمكن الحديث عن المسار الشخصي لمنير الفلاح بدون الإشارة إلى علاقة الحب والهيام التي جمعته مع شريكة عمره منيرة يعقوب الناشطة الثقافية والسياسية إلى درجة انه لا يمكن الفصل بينهما ولا يمكن النظر إلى أحد دون بروز الآخر في الصورة .
هذه في بعض السطور بعض المحطات الأساسية في مسيرة الناشط الثقافي والسياسي والناقد الساخر منير الفلاح.

دعونا الآن نعود إلى المسائل الأساسية التي تطرحها هذه المسيرة. المسالة الأولى تخص مسار استقلالية العمل الثقافي عن السلطة والتي تمثل إحدى خصوصياته الأساسية في بلادنا .وتعتبر تجربة الثلاث جمعيات السينمائية أي الجامعة التونسية لنوادي السينما والمختصة في النقد السينمائي وجامعة السينمائيين الهواة المختصة في التكوين السينمائي والتي تخرج منه العديد من السينمائيين التونسيين وجمعية السينمائيين التونسيين تجربة هامة في هذا المسار والتمشي الاستقلالي عن السلط السياسية.

وقد بدا هذا التمشي مع جامعة نوادي السينما لينتقل إلى الجمعيات الأخرى .ولئن تكونت هذه الجامعة على يدي الأجانب فان معركة تونستها وافتكاكها من الأجانب بدأت في بداية الخمسينات مع أول رموز هذه الحركة كالطاهر شريعة ومصطفة نقبو والمنصف شرف الدين والنوري الزنزوري والذين سيتحملون مسؤوليات هامة في المؤسسات الثقافية لدولة الاستقلال.
وستبدأ معركة استقلالية الجمعيات الثقافية وبصفة خاصة الجمعيات السينمائية في بداية السبعينات في وضع تميز بتطور التوجه الاستبدادي للسلطة ومحاولتها السيطرة على كل المنظمات المستقلة وخنقها.إلا أن هذه الفترة عرفت كذلك تزايد وتطور النشاط الشبابي المناهض للأنظمة الوطنية ولدولة الاستقلال في إطار الثورات الشبابية التي بدا يعرفها العالم منذ نهاية الستينات وسيكون هذا الإطار السياسي العام التربة التي ستنطلق منها معركة الاستقلالية في جامعة نوادي السينما بقيادة نجيب عياد والمنصف ذويب وعدد آخر من الناشطين.وستقود النقاشات إلى مؤتمر سوسة الذي سيتبنى أرضية العمل الثقافي التي ستعطي توجه الثقافة الوطنية والديمقراطية لجامعة نوادي السينما.
وستعرف حركة هواة السينما نفس التطور فسيقود عبد الوهاب بودن في بداية السبعينات ثم لطفي العيادي وبعض الناشطين الآخرين حركة إصلاحية ستؤكد على استقلالية الجامعة.

وستلتقي هذه الحركة الإصلاحية في الثلاث جمعيات سينمائية والتي ستنتقل إلى اغلب الحركة الثقافية في تلك الفترة على ثلاثة مبادئ أساسية وهي استقلالية العمل الثقافي عن السلطة وتكريس الممارسة الديمقراطية في صلب الجمعيات الثقافية والمساهمة في دفع ثقافة وطنية بعيدة عن الثقافة الاستهلاكية السائدة.

وهذه الاستقلالية ستدفع المنظمات الثقافية إلى اخذ مواقف سياسية كمساندة جامعة نوادي السينما لقرار الإضراب العام للاتحاد العام التونسي للشغل ومقاطعة الجمعيات السينمائية لمهرجان قرطاج السينمائي في دورة 1978 ولعل أهم موقف كنت شاهدا عليه في تلك الأيام كان في مهرجان السينما الهاوية في قليبية سنة 1979.وقد طالبت وزارة الثقافة آنذاك بحذف فيلمين من المسابقة الرسمية.وقوبل هذا الطلب برفض السينمائيين الهواة والمشاركين في المهرجان .وقد قررت لجنة التحكيم التي يترأسها نجيب عياد قراءة بيان للتنديد بالرقابة في حفل الاختتام وبحضور الوزير محمد اليعلاوي آنذاك قبل إعطاء قائمة الجوائز.وكان آنذاك إلا أن الوزير رفض قراءة البيان وطالب بإعطاء قائمة الجوائز إلا انه أمام مواصلة رئيس اللجنة قراءة البيان ما كان من الوزير إلا القيام ومحاولة افتكاك قائمة الجوائز فرفض رئيس اللجنة إعطاءها وانسحب مع كل أعضاء لجنته تاركا الوزير والمدعويين الرسميين ليتبعهم اغلب الحاضرين في القاعة.وستكون هذه الأحداث نقطة انطلاق لازمة كبيرة بين الوزارة والجمعيات وقد ساهمت الجمعيات السينمائية في تطوير الصناعة والمشهد السينمائي في بلادنا ووحدت مواقفها ورؤاها من خلال لجنة التنسيق والعمل السينمائي والتي تم تكوينها سنة 1976 وصارت تجتمع اسبوعيا للنظر في كل ملفات السينما- وقد لعبت هذه الجمعيات دورا هاما في صياغة القوانين الجديدة التي نظمت القطاع في الإنتاج والتوزيع والصناعة لتكون هذه التشاريع نقطة انطلاق الصناعة السينمائية في بلادنا.وستقدم هذه الجمعيات عديد المقترحات التي ستلعب دورا كبيرا في بروز بلادنا على الساحة السينمائية العربية والإفريقية في وقت تراجع فيه الإنتاج في جل هذه البلدان.ومن بين هذه المقترحات اذكر منحة المساعدة على الإنتاج أو aide à la production .

إذن مكنت المعركة الاستقلالية للجمعيات الثقافية من الابتعاد عن السلطة لتكون قوة نقد واقتراح وتساهم بالتالي مساهمة فعالة في تطور السياسة الثقافية والسينمائية في بلادنا.كما أعطت هذه الاستقلالية روحا وديناميكية ونكهة خاصة لعمل هذه الجمعيات الا ان هذه الاستقلالية ستتقلص تدريجيا لتنتفي منذ منتصف التسعينات مع غلق المنافذ امام الجمعيات ليتم تهميشها.
المسالة الثانية التي أريد الحديث عنها من خلال مسيرة منير الفلاح هي محاولات بعض المثقفين دخول الأطر والمؤسسات الرسمية من اجل تقديم برامج وأنشطة مغايرة ومناهضة للإنتاج الثقافي السائد وهذه السياسة هي ما يمكن أن نسميه بـentrisme أو دخول المواقع والفضاءات الرسمية لتطويعها لاختيارات مغايرة.
ونجد في مسيرة منير الفلاح عديد المحطات في هذا المجال انطلقت مع إشرافه على دور الثقافة وخاصة دار الثقافة ابن خلدون في بداية التسعينات والتي فتحها للمفكرين كعبد الحليم المسعودي وعديد المبدعين المغضوب عليهم في تلك الفترة مثل الفاضل الجزيري والفاضل الجعايبي والمرحوم الشاعر الكبير اولاد احمد والفرقة الملتزمة الحمائم البيض.
إلا أن هذه التجربة سرعان ما انتهت بقرار من السلطة.وستكون لمنير الفلاح تجربة ثانية في هذا المجال عند تعيينه مدير البرامج في الإذاعة والتلفزة التونسية بين سنتي 1999 و2001 وكانت هذه المحطة فرصة لإعطاء روح جديدة للبرمجة من خلال إدخال برامج جديدة «كنسمة صباح» والبرنامج السينمائي « ما يطلبه المشاهدون» الصديق خميس الخياطي وعديد اللقاءات والمساجلات الفكرية مع أهم المفكرين العرب وعديد السهرات الأخرى.وستنتهي هذه التجربة كسابقاتها بإبعاده من التلفزة بقرار سياسي.

وستجدد هذه التجربة بإدارته مهرجان طبرقة سنة 1991 والذي خصصه للإبداع السينمائي وقام بدعوة عديد المفكرات كليانا بدر للمساهمة في الندوة التي نظمها تحت عنوان «المسموح والمسكوت عنه في الكتابة النسوية « ثم سيتولى إدارة مهرجان قرطاج سنة 1996 ليحاول ان يجعل منه منبرا للثقافة الجدية والمغايرة.
هذه التجارب مهمة وتعطينا فكرة عن المحاولات التي قام بها بعض الناشطين الثقافيين لدخول المؤسسات الرسمية ومحاولة إيجاد هامش حرية للمشروع الثقافي الجدي ومحاولة التصدي للثقافة الاستهلاكية إلا أن هذه المبادرات وإن تابعها النظام بحذر فانه انتهى إلى خنقها وإنهائها.

التجربة الثالثة والهامة في هذه المسيرة هي تجربة النقد السينمائي من خلال إصدار مجلة «شاشات تونسية» التي أصدرها منير الفلاح ورفيقة دربه منيرة يعقوب لسنوات طويلة بالرغم من الصعوبات والتي عادت إلى الصدور منذ أشهر بدعم من الصديق المنصف الشابي صاحب دار «نقوش عربية» للنشر.وقد جاءت هذه المجلة لتعزز الدور الذي لعبته لسنوات مجلة «الفن السابع» لصاحبها مصطفى نقبو – وسيتواصل عمل النقد السينمائي بظهور جمعية تهتم بالنقد وتجمع حولها العديد من النقاد والباحثين المهتمين بهذا المجال .وقد ساهمت هذه التجربة والحركة النقدية في دعم الحس السينمائي في بلادنا واهتمام الجمهور بالإنتاج السينمائي وإقباله على القاعات عند ظهور الأفلام التونسية.

هذه في بعض السطور التجربة الهامة والثرية لمنير الفلاح في ميدان التنشيط الثقافي .وقد اردنا من خلالها تقديم والتعريف بمساهمة الجمعيات الثقافية المستقلة في بناء المشروع الثقافي والإبداعي التونسي الجدي، والذي واجه لسنوات طويلة الثقافة الاستهلاكية .وقد أردنا خاصة إبراز ديناميكية العلاقة مع السلطة والمؤسسات الرسمية وعلاقة الكر والفر بين البحث عن الاستقلالية ومحاولة استغلال هامش الحركة الذي تسمح به المؤسسات الرسمية من حين لآخر لدعم التوجه الثقافي الجدي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115