منبــر: شتّان ما بين محنة دولة الأحزاب و فضيلة تعدّد الأحزاب

بقلم: رضا الشنّوفي، أستاذ الفلسفة السياسية
لم يفرد الدستور التونسي (27 جانفي 2014) الحزب السياسي بتعريف دقيق، حيث اكتفى المؤسّسون بإشارة أولى (التوطئة) تتعلّق «بحقّ التنظّم القائم على التّعدّدية» و بإشارة ثانية (الفصل 35 ) تضبط شرط التمتّع بهذا الحّق، ألا وهو أن «تلتزم الأحزاب و النقابات و الجمعيات في أنظمتها الأساسية و في أنشطتها بأحكام الدستور والقانون و بالشّفافية المالية و نبذ العنف»

ونلاحظ، على سبيل المثال، أن دستور الجمهورية الفيدرالية الألمانية الذي صدر إثر الحرب العالمية الثانية كان أيضا خاليا من تعريف الحزب السياسي؛ و مردّ ذلك، في نظري، أن كلّ دستور يتعهّد بالقطع مع الاستبداد و الفاشيّة و بإرساء نظام ديمقراطيّ ليبراليّ مكانهما، يكون ميّالا لضمان حرية تكوين الأحزاب دون الاهتمام بتبعات هذه الحرية. و لكن علمنا التاريخ أن الدول التي تأسّست على هذا الظّنّ، كثيرا ما أصبحت رهينة هذه الأحزاب لأنها لم تنتبه لضرورة وضع الآليات القانونية الضامنة للاستقرار السياسي ولثبات الحكومات. فالسّؤال هو كيف نتّقي شرّ دولة الحزب الواحد دون أن نبتلي بمحنة دولة الأحزاب؟

هناك سبيلان : الدستور والقوانين
بعد الحرب العالمية الثانية، فهم الشعب الألماني أن الديمقراطية الأصيلة تقتضي الإعراض عن التعدّدية الحزبية العشوائية لأنها هي التي مهدت لأسطورة "الرّجل القويّ" و ساعدت هتلر على إرساء دولة الحزب الواحد. لذلك و خلافا لدستور جمهورية فايمار Weimar ( 1945 -1919) اهتمّ دستور 1949 بالأحزاب السياسية و خصّها بفصل مهمّ (الفصل 21). أمّا المؤسّسون التونسيّون فلا نعلم ما هي الأسباب التي دفعتهم إلى عدم تخصيص أيّ فصل إلى الأحزاب. و الغالب على الظنّ هو اعتقادهم أنّ المرسوم عدد 87 لسنة 2011 قد حسم الأمر حيث ورد في الفصل الثاني أنّ «الحزب جمعية تتكون بالاتفاق بين مواطنين تونسيين يساهم في التأطير السياسي للمواطنين وفي ترسيخ قيم المواطنة (وظيفة 1) ويهدف إلى المشاركة في الانتخابات (وظيفة 2) قصد ممارسة السلطة في المستوى الوطني أو الجهوي أو المحلي».

الوظيفة الأولى: التأطير السياسي وترسيخ قيم المواطنة
لا أظنّ أنّ اختيار لفظ «التأطير» مناسب لإبراز الوظيفة الأولى للأحزب السياسية لأنّ التأطير يقوم على الإقرار بعدم المساواة بين المُؤَطِّرِ وَالمُؤَطَّرِ ويتعارض، إذن، من حيث المبدإ، مع «قيم المواطنة»؛ و لأنّه لا يعرّف بدقّة هدف النشاط السّياسي الذي يكمن في «تكوين الإرادة العامّة»بما هي منبع السيادة لكلّ نظام ديمقراطيّ. وعلاوة على ذلك فإنّ من مساوئ «عقلية التأطير» أنّها تؤدّي إلى أدلجة المواطنين و تحثّ المتحزّبين على تفضيل الولاء الحزبي على الولاء للوطن. و لسنا بحاجة هنا للاستشهاد بسلوكات بعض القادة السياسيين التي لم تتقيّد بمصلحة الوطن، فأخلّت أيّما خلل بالسير الطبيعي للمؤسسات و على رأسها مؤسّسة مجلس نواب الشعب.
بالتأكيد، إنّ الدّستور (الفصل 58) يفرض على كل عضو بمجلس نواب الشعب «أن يلتزم ... بالولاء التّام لتونس» و لكن كثيرا ما تشبثت الأحزاب بضرورة الانضباط الحزبي في عملية التصويت ودعت ضمنيّا مرشحيها لعضوية البرلمان إلى عدم الخضوع لضمائرهم عند قيامهم بمهامّهم. فهل يمكن لفرد ما أن يلتزم بالولاء لمصلحة المجموعة الوطنية كلّها وهو ملزم بتعليمات حزبٍ أي جزء منها؟

و قد يعترض علينا البعض بقوله أنّ مصلحة الحزب لا تتعارض مع مصلحة الوطن لأنّ الأولى هي الوسيلة و الثانية الغاية. و هذا القول مجانب للصواب لأنّ وجود الأحزاب مرتبط بمنطق التنافس على السلطة أي الفوز بأغلبية أصوات الناخبين و في هذا الصراع تختلط غالبا الوسيلة و الغاية و تصبح مصلحة الأحزاب أولوية الأولويّات. و باختصار، إن عقدنا العزم على احترام الإرادة العامّة للشعب وعلى حماية الدولة بما هي ذراعها التنفيذي،  وجب علينا أن نحمي المواطنين و النواب على حدّ السواء من إرادة الأحزاب، كلما سعت إلى الانفراد بالدولة.

و لحماية النواب، على سبيل المثال، أكّد الدستور الألماني في الفصل 38 على أن «نوّاب البرلمان الألماني... يمثّلون الشعب كلّه، دون أن تلزمهم الولايات أو التعليمات، فهم لا يخضعون إلاّ لضمائرهم». ولحماية المواطنين المتحزبين، كما أكّد في الفصل 21 على «أن يكون النظام الداخلي للأحزاب مطابقا بالضرورة لمبادئ الديمقراطية» وهذه الجملة تمثّل في الحقيقة شرط إمكان ما نصّت عليه الجملة السابقة : «تشارك الأحزاب في تكوين الإرادة السياسية للشعب».

معنى ذلك أنّ الأحزاب التي يحقّ لها أن تشارك في إرساء الديمقراطية لا بدّ أن تكون مسيرة بطريقة ديمقراطية و أن تكون قيادتها منتخبة من قبل مؤتمرين و مؤتمرات منتخبين بصورة شفافة و حرّة.
يبدو لي أن الوقت قد حان لنقول بصراحة إنّ وضع الأحزاب في تونس لا يستجيب البتّة لضوابط النظام السياسي والمشروع المجتمعي اللذين ارتضيناهما لشعبنا منذ الثورة و حتى قبلها. لذلك يجب أن نستخلص العبر من تجارب الشعوب التي نجحت في الانتقال إلى التعددّية الحزبية الأصيلة، وأن نفهم أنّ تحويل الأحزاب إلى مدارس للديمقراطية يتطلّب قوانين واضحة و صارمة و دولة قادرة على تطبيقها.

الوظيفة الثانية: المشاركة
في الانتخابات
إنّ العدد الجملي للأحزاب بلغ 208 أحزاب ولكن عدد الأحزاب التي تحصلت على مقعد أو أكثر في الانتخابات التشريعية الأخيرة بلغ 25 حزبا (14 حزبا و 11 حزبا (الجبهة الشعبية). أمام هذه الأرقام، يمكن أن نقوم بالملاحظات التالية:

1) أن 183 حزبا لم تشارك في الانتخابات بصفة فعلية.
و السّؤال هو: هل يجوز الاعتراف بحزب تخلى عن القيام بالمهمّة التي كانت ضمن شروط تحصيله على التأشيرة؟ إنّ قانون الأحزاب لجمهورية ألمانيا الفيدرالية أجاب على هذا السؤال كما يلي: «تفقد كلّ جمعية الصفة القانونية لحزب سياسيّ إن لم تقدّم، خلال ستّة أعوام متتالية، مترشّحين للمشاركة في الانتخابات الوطنية أو الجهوية»(الفصل 2 – الفقرة 2 ). هكذا و بهذه الصّرامة تتمّ مجابهة الفوضى و التصدّي للعابثين بالتعدّدية الحزبية. هناك أيضا ظاهرة أخرى جديرة بالاهتمام و هي «الأحزاب» التي تظهر قبيل الانتخابات لتختفي بعدها أو لتلتحق بجبهة من الجبهات، تحت تسمية من التسميّات. في الحقيقة، تحدث مثل هذه الظواهر في بداية الانتقال السياسي فتكون دليلا على اهتمام المواطنين بالشأن العام و سعيهم إلى أفضل السبل لإرساء نظام تشاركيّ ديمقراطيّ. أمّا تواصلها إلى ما يبدو أن لا نهاية له فلا يرجى منه خير لا للبلاد و لا للعباد.

2) أن 4 أحزاب اجتازت العتبة الانتخـابية أي 3 % من مجموع الناخبين، نداء تونس و النهضة واتحاد الوطني الحر و آفاق تونس إذا استثنينا أحزاب الجبهة الشعبية لأن وزن كل واحد منها لا يمكن أن يجتاز عتبة.3 % أما بقية الأحزاب (21) فقد تحصّلت على مقاعد باحتساب أعلى البقايا. للتّذكير، إنّ اختيار نظام الاقتراع القائم على التمثيل النسبي مع الأخذ بأعلى البقايا كان الهدف منه، بدرجة أولى، عدم تمكين حزب النهضة من الحصول على أغلبية تجعلها تنفرد بسلطة القرار السياسي صلب المجلس الوطني التأسيسي. و هذا ما حدث بالفعل. ولكن الانتخابات التشريعية الأخيرة لم تسمح ببروز أغلبية منسجمة سياسيا و قادرة على الحكم بصفة مستمرّة، رغم إنّها عكست توازنا ايجابيا بين الحزبين الأوّلين.
و أخيرا، ودون الدخول في نقاش حول تغيير النظام السياسي من عدمه فإنّ عدم استقرار الحكومات يفرض علينا التفكير الجدّي في حلول آنية و ممكنة مثل المزج بين الاقتراع على الأفراد و الاقتراع على القائمات الحزبية؛ أو تغيير العتبة من 3 % إلى %4 أو 5 % كما حدث في الجمهورية الفيدرالية الألمانية 1953 أي بعد 4 سنوات من المصادقة على الدستور و

سمح بتجاوز أزمة عدم استقرار الحكم آنذاك. فالمهمّ هو أن نعدّل نظام الاقتراع الحالي بشكل يوفّق بين الرفض المعقول لإقصاء الأحزاب «الصغيرة» و ضرورة توفّر أغلبية حاضنة لحكومة تكون بالفعل حكومة محاربة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115