لفت نظر السَّيِّد نور الدّين الطبّوبي ودعوته لاستخلاص العبر

رضا شنوفي أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية
بعد استماعي إلى التصريح الذي أدلى به السيد الفاضل، نور الدين الطبّوبي لإذاعة شمس اف ام  حول مبادرة رئيس الجمهورية التونسية، و نظرا لأهمّية ما ورد في هذا التصريح من أقوال و أطروحات، أريد لفت نظر أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل إلى النقاط التالية:

1) حول القول أن « أحنا في دستورنا بطبيعة الحال دولة لغتها العربية و دينها الإسلام»
لا شكّ أنّ السَّيِّد الطبوّبي كان يعي بأنّ الإجابة الصحيحة على مبادرة رئيس الجمهورية لا تكون إلا بالرجوع إلى الدستور، ولكنّه أخطأ، كما يخطئ عامّة المواطنين، في قراءة الفصل الأوّل من الدستور التّونسي لأنّ الفرق شاسع بين عبارة «الإسلام دينها» وعبارة «دولة إسلامية».
و يجدر التذكير، في هذا الصدد، بأنّ الدولة الإسلامية لا تتأسس على القانون الوضعي المعبّر عن إرادة الشعب، باعتباره صاحب السيادة، بل هي تقوم على قانون «مقدّس» يستمدّ حسب الفقهاء من إرادة إلهيه و لهذا السبب لا يمنح هؤلاء الدستور الوضعي قيمة معيارية وتأسيسية لأنهم لا يعترفون، في حقيقة الأمر، إلاّ بـ«دستور» وحيد : القرآن و السنة.

ومن المهمّ أن نشير في هذا المجال إلى أنّ الفصل الأول من القانون الأساسي للمملكة السعودية ينصّ على «أن المملكة العربية السعودية هي دولة عربية إسلامية ذات سيادة، دينها الإسلام ...و لغتها العربية...». هذا الفصل يشبه إلى حدّ كبير الفصل الأول من الدستور التونسي «تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها و العربية لغتها ...، ولكن الفرق الأساسي بين الفصلين المذكورين سلفا يكمن في أن القانون الأساسي السعودي لا يقف عند القول «دينها الإسلام» إذ هو يضيف «ودستورها كتاب الله و سنة الرسول». كما يؤكّد مجدّدا على نفس الفكرة في الفصل السابع المحدّد لنظام الحكم بإضافة : «تستمد المملكة العربية السعودية شرعيتها من كتاب الله و سنة الرسول». هكذا و بهذه الجملة، يتجلى بوضوح الفرق بين الدولة الإسلامية السعودية و الدولة التونسية حسب ما ورد في الفصل الأوّل من الدستور («تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها...»). إذن، لا يجوز البتة الاستدلال بعبارة «الإسلام دينها» على أنّ الدّولة التونسية هي دولة إسلامية، لأنّها لا تستمدّ أساسها من الشريعة.

و لتحديد هذا الأساس أضاف المجلس التأسيسي الفصل الثاني: «تونس دولة مدنية، تقوم(أساسها الأول) على المواطنة، و إرادة الشعب (أساسها الثاني)، وعلوية القانون (أساسها الثالث)». الأساس الأوّل ليبرالي لأنّه يشير إلى الحرية و المساواة في الحقوق والأساس الثاني ديمقراطيّ لأنه يشير إلى سيادة الإرادة العامّة كما عرّفها ج ج روسّو والأساس الثالث يشير إلى دولة القانون بما هي تجسيد لسيادة القانون الكوني و بصفة خاصّة منظومة حقوق الإنسان.

إذن، الرجاء عدم تجاهل الفصل الثاني من الدستور الذي دونه لا يجوز قطعا تأويل الفصل الأوّل، و الدليل على ذلك أن الدستور أكّد على «عدم جواز تعديل» أي منهما.

2) حول القول أحنا ... نؤمنوا بالمساواة، المرأة ليس في حاجة لهدية من أيّ إنسان – المرأة هي كيان حي، افتكّت مكانتها باستحقاق كبير»
يبدو أن السيّد الطبوبي يريد التمييز بين الذين يؤمنون حقا بالمساواة بين النساء و الرجال، دون اللجوء إلى تقديم الهدايا والذين يتظاهرون بالإيمان بالمساواة بواسطة تقديم الهدايا. و لكن بما أنّ الهدايا المقصودة هنا ليست الأوسمة التي منحت لبعض الكفاءات بل إعلان الرئيس عن عزمه على ضرورة تجسيد المساواة في قوانين جديدة فكأنّ السيد الأمين العامّ يريد أن يقنعنا بأنّ الذي يؤمن حقّا بالمساواة لا يرى ما يبرّر ضرورة هذه القوانين؛ إذ يكفي الإيمان- بالقلب و باللّسان - بالمساواة بين المرأة و الرجل.

هذا الموقف غريب جدّا و لا أتصوّر أن يتبنّاه أمين عام منظّمة عريقة مثل الاتحاد العام التونسي للشغل. ولعل مردّ هذا اللبس هو عدم التمييز بين المساواة بما هي قيمة أخلاقية و المساواة بما هي معيار قانوني.

وللتذكير، تتجلّى الدلالة الأولى للمساواة في مفهوم الكرامة الإنسانية أي أن نعتبر الإنسان غاية في ذاته لا مجرد وسيلة لتحقيق أهداف عرضية مثل الحصول على مال أو على جاه. وتفرض علينا قدسية الكرامة الإنسانية واجب احترام جميع المواطنات والمواطنين بصفة متساوية مهما كان جنسهم أو لونهم أو معتقدهم الديني أو الفلسفي؛ و يعلو هذا الواجب الأخلاقي على كل الاعتبارات التاريخية و العادات الثقافية التي تُصوِّرُ لبعض المجتمعات أن اختلاف الأدوار الاجتماعية يتطلب عدم التساوي في درجة الاحترام.

أما الدلالة الثانية للمساواة فهي دلالة قانونية وتتمثل في رفض منح امتيازات لبعض الأفراد دون غيرهم، على أساس حجج شرعية أو مبررات وهميّة. فخلافا للتّصوّر القديم - الذي يحدد المكانة القانونية للأشخاص و منزلتهم الاجتماعية و السياسية حسب ديانتهم – تسوّي الدّولة المدنية بين جميع المواطنين. بتعبير آخر، المساواة بما هي واجب أخلاقي تبقى مجرد إيمان ذاتي؛ أما المساواة بما هي استحقاق فَيُشترَطُ أن تتحوّل إلى أحكام ملزمة، مع استخدام القوّة إذا لزم الأمر.

3) حول القول « اليوم فيما يتعلق بمسألة حسّاسة هذا جدل عقائدي ثقافي لا بد أن نتروى فيه»
إنّ مسألة المساواة في الميراث، في هذا الزمان و في هذا الوطن، ليست عقائدية و ثقافية فحسب بل هي، أوّلا وأساسا، مسألة قانونية مرتبطة أشدّ الارتباط بجملة من القضايا الواردة في دستور 2014. فإن أردنا أن يستقيم دستورنا يجب علينا أن نبرز بوضوح تام وحدته وتناسقه وذلك بجعله يتطابق مع أحكام العقل عامّة ً و مع الأحكام الخاصّة بالتأويل القانوني. إذن، الحديث في الميراث وفي الحقوق الفردية ضرورة لا خيار.

ومسألة الميراث هي أيضا سياسية نظرا لكونها موضع خلاف و تضادّ بين مكوّنات المجتمع و يحدث هذا التضاد السياسي – الذّي يكون دائما «حسّاسا» - عندما يتعلّق الأمر بتحديد صفة جوهرية للذّات الإنسانية، مثل صفة المساواة، و غالبا ما يظن البعض أنّ وجود الفرد يؤسّس على صفات عرضية (الثقافة-اللغة-الدين- الأيديولوجيا) لا على صفات كونية (الحرية، المساواة، الكرامة...)، وهذا يؤدّي حتما إلى إصدار أحكام خاطئة مثل التي تحدّد المساواة من منظور ثقافيّ و أيديولوجيّ.

و إذا كان «لا بدّ من التروّي» ، فمن الأحسن أن ينخرط الاتحاد العام التونسي للشغل بجدّيته المعهودة في التفكير في المسائل المذكورة سلفا، ويؤكّد بذلك أنّ التروي لا يعني بالنسبة إليه الصمت و عدم الاهتمام. وعلى سبيل المثال، نحن نعلم أنّ الاتـحاد يقوم بمتابعة الأوضاع الاقتصادية بصفة مستمرّة، بالاستناد إلى دراسات قيّمة تنجز من قبل فريق من الكفاءات العليا؛ فما المانع من تشكيل فريق من الخبراء يهتمّ بمسألة المساواة؟ لِمَ لا نبحث بكلّ تؤدة و روّية في أسباب غياب المرأة في الهياكل النقابية القيادية؟ لِمَ ضمّ مؤتمر جربه 2001 للاتحاد العام التونسي للشغل 21 امرأة في حين لم يضمّ مؤتمر طبرقة 2011 إلا 13 امرأة و 5 نساء في الهيئة الإدارية؟ كيف سقط هذا العدد بعد مؤتمر جانفي 2017 إلى امرأتين صلب الهيئة الإدارية؟

هذه أسئلة فرضتها وقائع مزعجة و مؤلمة. ولكن حذار و حذار أن نكتفي بالرجوع إلى أسباب عدم تمثيلية النساء لنفسّر هذا المظهر المشين للمساواة؛ لأنّ المرفوض هو تعارض هذه الظاهرة مع الدستور، نصا وروحا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115