Print this page

حديث الأنا في حرّ الصيف والريح الشهيلي : X - الدنيا تحت أقدام النساء

تعجبني الأعراس. بعض الأعراس. أكره ما في الأعراس من فوضى ومن صخب وأحبّ رؤية الناس المختلفين وهم في زهو وفي فرح. في الأعراس، ترى الوجوه منبسطة والنساء في أحسن زينة ولباس. الكلّ في مرح، في غبطة، يتحدّثون لبعضهم بعضا، في وئام، في انشراح.

رغم ما كان بين الناس من تباين في الأعمار، في الأرزاق، في الأذواق، تراهم في نعيم وحبور. في الأعراس، ترى الناس جميعا في سعادة. قد يحصل في الأعراس بين النساء تنابز. قد يحصل في الاعراس بين الرجال جفاء. لا يفسد التنابز ولا الجفاء ما كان من مودّة، من فرح عامّ. في الأعراس، ينسى الناس ما كان من بغضاء... في الأعراس، ترى بشرا مختلف السلوك والأوصاف. هذه نساء محجّبات، مغطّاة من الرأس الى الكعاب وإلى جانبهنّ نساء في لباس خفيف، زاه، يظهر ما لهنّ من نظارة وخصال. هذه مغطّاة كأنّها في يوم الحشر وهذه تمشي الهوينا، تبرز ما لها من عراقيب شهيّة ومن عيون لوزيّة ومن صدر تفّاح. هذه نسوة حالكات بلا زينة وهذه أخرى كلهنّ مساحيق وألوان. هؤلاء تحملن ذهبا وألماس وهؤلاء عاريّات الصدر، خاليّات. نفس الفروقات تلقاها عند الرجال. هذا له لحية كثّة وبقعة في جبينه سوداء والآخر في سروال قصير يتبختر بين النساء...

طوال الحفل، أقضي الليل أتبيّن ما في الوجوه من علامة. أنظر في قدّ النساء، في ما لهنّ من زينة، من خصوصيّات. جلّ النساء في قريتي بدينات. لهنّ شحم ولحم فيّاض. أحيانا، بين النساء المكتنزات، أرى امرأة بهيّة، لها طول ورشاقة. في وجهها ضياء وفي عينيها سحر وإشراق. يمسك نظري بالمرأة. أشدّها بعينيّ. أتّبعها في ما تقول ولمّا تبتسم ولمّا تقبّل خدود النساء. أحبّ جمال البنات ويعجبني ما تأتيه البنات من دلال لمّا يتفطّنّ أنّهنّ محلّ نظر وإعجاب...

أتذكّر يوم كنت شابّا، طالبا في الجامعة. في الأعراس وغيرها من المناسبات، كنت دوما أحوم حول الصبايا والنساء. كنت والشباب مثلي في بعض كبت وكنّا نعشق الأنثى، تلك التي في أوّل العمر والأخرى التي هزّها الزمان. لا نخاف الوشاة ولا الرقباء، نمشي خلف البنات والنساء، نكدّ، نبذل السبع مستحيلات. في كتمان، في تخفّ، تراني، دون كلل، أتّبع الصبايا ساعات وساعات. ابتسم لهنّ وفي عينيّ تأهّب. أقول لهنّ كلاما وفي قلبي تحفّز وهيام... في الكثير من الأعراس، في العديد من المرّات، أفشل في المسعى وأعود خائبا، مكسور الجناح. نساء قريتي عسيرات المنال... مرّة واحدة وحيدة، نجحت وحقّقت المراد...

أتذكّر تلك المرأة الضحوكة، صاحبة القدّ والجمال. أتذكّر لمّا في زاويّة مظلمة، مسكت بيّ من خلف وقالت في أذني كلاما هياما. أتذكّر ما عرفت ليلتها من خوف ومن ارتباك وكيف اهتزّ فؤادي وبتّ ليلا سهادا. أتذكّر ما كان من بعد من لقاء وكيف تواصل اللقاء سنوات. هي ذكرياتي وفي ذكرياتي سيرة وجمال... هي امرأة لها بهاء وجسور. هي امرأة لها عين لوزيّة سوداء وصدر مهزوز وطول وكمال. هي من علّمني الحبّ وأذاقني العذاب... كنت شابّا أرعن، في هيج، في حرمان لمّا وهبتني إيّاها السماء. معها، عشت أحلى الذكريات. معها، حلّقت في الأفق، عانقت السحب والكواكب، عرفت الحياة وما كان في الحياة من نعمة ولذّات...

أتذكّر جيّدا ما حصل في ذاك اليوم، ظهيرة، لمّا دعيت في عجل الى دار جارة، هناك. مشيت الى جارتي دون انتباه. طرقت الباب. دخلت الدار. فجأة، رأيت المرأة الأبيّة، خلف الباب، تبتسم، في أفضل وجه، في أفضل استعداد... كان الزمن شتاء. مطر رذاذ ينزل من السماء. كنت أرتجف بردا، أقطر ماء. دثّرتني المرأة. مسحت ما كان في جفنيّ من ماء. ضمّتني الى صدرها. قبّلتني مرّات... هدأ روعي. اطمأنّ قلبي. هزّني الشوق. ها أنا وإيّاها وحيدان في غرفة فيها عطر وظلمة وثمار. يشدّني الوجد. يحملني الهوى. أنا طيف. أنا روح تسري. أرتخي. أنام. ها أنا أعود الى أوّل الزمان. ها أنا رضيع بين يديّ أمّي وكلّي نشوة واطمئنان. قلبيّ، عينيّ، كلّ جسمي، كلّ حواسّي في توتّر، في غليان. أنا وتر مشدود. أنا خيط يتلوّى، يتقطّع رقّة وحنانا...

الحبّ صاعقة ينزل فجأة من طيّات السحاب. حيث شاء. متى شاء. الحبّ ليس ما كنت أعددت وما كان مع الأيّام. الحبّ هو ذاك الذي ينبعث سيلا جارفا. ذاك الذي يأتي وما كان ليأتي. ذاك الذي يحملك بغتة فترى الشمس في الليل والنجوم في وضح النهار. الحبّ وحي. لا أحد يعلم يوم نزوله ولا أحد يتبيّن ما فيه من قصّة وبيان. الحبّ ليلة القدر. يطلع مضيئا، منفجرا، من أفق السماء، دون علم، دون اشعار...
  
أحبّ الأعراس وما في الأعراس من نساء بهيّات. مرّة، في عرس، فشلت في المسعى. رغم ما أتيت من جهد ورغم ما بذلت من حرص، فشلت في تحقيق الغاية. عدت الى نفسي مهزوما، منكودا. قضّيت ليلتها في كمد وأثّر فيّ ما حصل أيّاما... هو عرس بهي في نزل كبير بالضاحيّة الشماليّة. أبو العريس رجل ثريّ. دعا الى زفاف ابنه البكر خلقا كثيرا ونشّط السهرة

فنّانون عديدون، جاؤوا من كلّ مكان. كانت نجمة السهرة ليلتها أمينة فاخت. ما كنت في ما مضى أعرف المرأة وما كنت أعير لها اهتماما. اكتشفت أمينة فاخت ليلتها وكانت رائعة، تشتعل نارا.. في تلك السهرة، لمّا نظرتها في الركح وتابعت ما تأتي من رقص ومن غناء، أبهرتني. أذهلتني. أخذت روحي وعقلي...

كانت أمينة في ما أظنّ منتشية وكانت تغنّي وترقص وتملأ الفضاء طربا وغناء. في نشاط، في اثارة، شدّ حضورها الكبار والصغار، أدهش أداؤها الرجال والنساء. أمينة فاخت فوق الركح جنّيّة، ابليس من نار. ما كنت أعتقد أنّ لنا فنانين من هذا العيار. لا أعرف ما يجري في الأعراس، في المهرجانات. قلّما أخرج ليلا. قلّما أذهب الى الأعراس. في العرس هذا، أصابتني ليلتها حمّى وأعجبت بالأداء وانطلقت أغنّي في زهو، في اندفاع. بأعلى صوت أردّد الكلمات. أرقص ولا أهدأ. ليلتها، جننت. جنّ الناس كلّهم وكلّهم فقدوا الصواب. الكلّ حولي يرقص، يغنّي، في مرح، في عرق، في صراخ. اهتزّت القاعة. هو الجنون المشترك، العامّ...

في تلك الليلة وأنا في زهو وانشراح، جلست قبالتي بنيّة شابّة ملحّفة. كان حجابها أخضر ولها عينان فيهما رخوة، قطعتا من بحر أزرق، هادىء. هي في الثلاثين من العمر أو أقلّ وأنا في الخمسين من العمر أو أكثر. هي جربيّة الموطن. تتكلّم لهجة فيها نغم ورقص. أحببت البنيّة الجربيّة. أعجبني وجهها البريء. منذ زمان، أحبّ جزيرة جربة وكنت قضّيت فيها أيّاما هنيئة. جربة أرض مختارة. فيها بحر رقراق ينساب كماء زلال وبشر كالطيف، خفيف الظلّ، يحيا في بساطة ووئام...

نظرت في البنيّة وتذكّرت الجزيرة وما فيها من بحر كالنعناع ومن بيوت بيضاء وجنان فيها خضرة وثمار. كانت المرأة وضّاءة الجبين. لها نضارة وبهاء. شدّني وجهها المشرق. هي القمر يصبّ نوره في البحار. هي الشمس في أوّل النهار. أنظر الى الفتاة فتأبى الفتاة النظر إليّ. أحدّق فيها فأراها في حرج، لا تبادلني عينا ولا اهتماما. لا أعبأ بما تأتيه الجربيّة من صدّ. يعجبني صدّ الصبايا. يدفعني إعراضها إلى المضيّ إلى الأمام. أحبّ التحدّيّات وفي التحدّيّات ثبات وحياة. لن أفرّط فيها أبدا. لن ألقي سلاحي. دوما إليها أنظر. دوما أتابع حركاتها، لمّا تقول ولمّا تبتسم ولمّا تمشي الى الركح ترقص مع الناس. كنت أتّبع خطاها وأمشي خلفها. تبتعد عنّي. أقترب منها. تعود الى مكانها. أعود لأجلس قبالتها. أنظر في عينيها. أغنّي بأعلى صوت علّها تنتبه وتراني...

حذو الصبيّة، جلست امرأة عجوز نحساء. كانت العجوز نحيفة الجسم، لها أنف معقّف وشعر أبيض مغطّى. كانت لصيقة للبنيّة. لا تفرّط فيها أبدا. تنظر في الناس يمينا ويسارا، من الخلف ومن الأمام. عيناها من نار، تخيف الصغار وتربك الكبار. دوما تتلفّت. دوما تراقب. مالها العجوز دوما تقلّب النظر، لا يستقرّ لها قرار؟ كانت تتابع نظري. تصدّه. إن وقفت وتعقّبت خطى الصبيّة أمشي خلفها الى الركح، تقف العجوز، تمشي الى الركح، ترقص وعيناها إليّ مشدودتان. إن همّت البنيّة وقامت لقضاء أمر، أقوم، أتّبع خطاها فألقى العجوز أمامي، تتصيّد، تلاحق خطواتي. أرهقتني العجوز. قطعت كلّ سبلي. أبطلت كل جهدي... لم أيأس. ازداد بالبنيّة هيامي. ازداد ثباتي. بقيت أترصّد الفرص. أتّبع نظر البنيّة. أمشي حيث تمشي. أغنّي وأرقص حتّى الصباح. فشلت كلّ جهودي. خاب مسعاي. أنظر الى الصبيّة فأرى العجوز تقف صدّا منيعا، تحاصرني، تنهاني...
  
انتهى ذاك الزمن. اليوم، أمشي الى الأعراس مكرها. أمشي اليها أخذا بالخاطر. في الأعراس، أتابع ما يأتيه الناس من سلوك وما يحملون من اشارة. أعاين ما في النسوة من طوق، من حياة. أنا أحبّ النظر في النساء وهنّ في أحسن هيئة، في أحسن لباس. النساء هنّ نور الاعراس. هنّ تاج المناسبات. أمّا الرجال فألقى فيهم خشونة وغلظة وأحيانا سذاجة. لا يعير الرجال الأفراح اهتماما. لا تعنيهم الأعراس. الأعراس من تدبير النساء وهنّ الساهرات على التنظيم والاعداد. هنّ من يعطي للحفل حسنا وبهاء. أمّا الرجال فهم غالبا خارج الظرف والزمان. الرجال هم الذكور، هم «الفحول» في الاسطبل وتراهم في شدّة، في يبس، وجوههم كالحة، سوداء، في أغلب الأحيان. لا يعرف الرجال لينا ولا فرحا. في المجتمعات الذكوريّة، على الرجال أن «يتخوشنوا» لأنّ الحياة عسر وفناء...

زينة الأعراس النساء. زينة الحياة النساء. مستقبل الدنيا وحاضرها النساء. حاضر تونس نسائي وغدها نسائيّ ومستقبلها نسائيّ. تونس هي اليوم تحت أقدام النساء. في ما أرى، النساء هنّ الحاميات للبلاد. في ما أرى، النساء هنّ الرافعات للرّايات، اللاتي يشتغلن باليل والنهار، الناجحات في الوظائف والدراسة، الحاميّات للبلاد من كلّ سوء، من كلّ فكر ظلام. النساء عندنا هنّ الكادحات كدحا، هنّ المناضلات الصادقات... لمّا أرى ما يحصل في الأعراس من بهجة وعظّ على الحياة، لمّا أرى النساء وهنّ في كلّ شغل ومكان، في كلّ المعارك... أعتقد أن لا مستقبل في هذه الأرض للفكر الظلامي، للعيش السلفيّ، لنظام الإخوان. يسرّني أن لا يكون للفكر السلفي وللإخوان مستقبل في البلاد. وليعلم الاخوان وليدرك الناس يمينا وشمالا أنه لا مستقبل للبلاد بلا نساء. أن لا حياة في الأرض بلا نساء...

(انتهى)

 

المشاركة في هذا المقال