حديث الأنا: في حرّ الصيف والريح الشهيلي VIII - هل عيش المسلمين صلاة وصيام؟

أعود الى نفسي. ها أنا هنا في بيتي وحيدا. يشدّني الحرّ. تضيق أنفاسي. أتنقّل بين الغرف بلا قصد. نغلق الأبواب والنوافذ. في شبه ظلمة، في سكون، أقضي الظهيرة أتلوّى. في شبه عراء، أتنقّل من مكان الى مكان. أبحث عن هبّة نسمة.

لا هبّة نسمة في الصيف تأتي. سكون في الحيّ مطبق. لا أحد في الشارع. تختفي الطيور والكلاب والقطط. الكل ينتظر رحمة من السماء. لا ترحم السماء أحدا وهذه شمس حارقة تقتل. في الصيف، في تونس، دوما حرّ. في البيوت، في الشوارع، نار تصلي. هي حرارة مرهقة. كيف العيش وفوق صدرك حجر لا يتزحزح؟ في عينيك ظلمة قارّة. في جسمك عرق لصّاق. أنت تعب. أنت جثّة...

في الصيف، مع الحرّ، تصبح تونس فرنا كبيرا، يصلي. يصبح الناس أجساما هاويّة بلا كنه. الكلّ في طابون يحيا. الكلّ في عيش نكد... كلّما اشتدّ الحرّ، أتذكّر طابون أمّي وما كان فيه من جحيم، من عذاب. شتاء وصيفا، أمام الطابون، أرى أمّي في الظهيرة تعدّ خبزا فيحترق وجهها وتشتعل يداها حمرة. طابون أمّي عذاب أزرق. نار من جهنّم. كلّ يوم تقريبا، تمشي أمّي الى طابونها ملزمة لصنع الخبز. لا تتخلّف أمّي عن طابونها الحامي أبدا. لا أدري لماذا ترضى بالطابون وفي الطابون لهيب حارق، مضني؟ هل كتبت السماء أن تقضي أمّي عمرها أمام الفرن؟ هل كتبت الأقدار أن تكون الأفران حكرا على النساء، في هذه الأرض؟ يقولون إنّ الجنّة تحت أقدام الأمّهات. أمّا الدنيا، وهذا ما لم يذكره أحد، فهي للأمّهات أفران وإنجاب. لو كنت أمّي، لرفضت رخاء الجنّة وعذاب الأفران. في ما أرى، أمّي والنساء التونسيّات في عذاب. في ما أرى العمل الشاقّ للنساء وللرجال المقاهي والصلوات والحجّ. تلك هي الأدوار كما عاينتها طفلا...

لإعداد الخبز، كانت أمّي رحمها الله تشعل في قلب الطابون نارا حامّية. تحمشها مرّة ومرّة بسقط أشجار الزيتون اليابسة. لمّا تخمد النار وتغدو رمادا، تلصق أمّي الأرغفة واحدا فآخر وقد حمت جوانب الطابون واحترقت. كانت الطابون وسط الدار، قبالة الشمس الملتهبة. خوفا من الحرائق، لا شيء يغطّي الطابون ولا شيء يحمي أمّي. من فوق، هي الشمس تقلي. من تحت، هو الطابون يصلي. ساعة أو أكثر وأمّي تلصق الخبز عجينا ووجها وصدرها ويمينها في وسط الطابون المشتعل رمادا. أرى أمّي تحترق ولا تقول شيئا. أراها في الطابون ووجهها منقبض وثغرها باسم. لمّا تأكل النار العجين وينضج الخبز ويحمرّ، تعود أمّي الى الفرن، تحشر فيه نصفها الأعلى، تقتلع الأرغفة واحدا فآخر وهي تهتز من شدّة لظى الحرّ. أراها تتوجّع ولا تقول شيئا. كانت تتصبّب عرقا. تمسح بذيلها وجهها المحمرّ، تبلّله بماء غير بارد... أنا لا «أحنّ الى خبز أمّي». خبز أمّي عذاب. آكله فأرى وجه أمّي ينقبض وجعا، يتلوّى. رغم ما تلقاه من صلي ومن ألم، لا تشتكي أمّي أبدا. كلّ يوم أو يومين، يجب أن تعدّ خبزا للعيال. ذاك دورها ولا مردّ للأدوار في القرية. أمّا أبي فكان دوما يصلّي أو هو في الحجّ أو هو مع صحبه يقول كلاما أو هو ربّما يعدّ لنفسه زواجا. تلك هي عدالة الأرض. تلك هي مشيئة الأقدار...

هل الحياة ممكنة في فرن؟ هل الحياة ممكنة في حرّ الجحيم؟ هل تنبت أرض الجحيم شجرا؟ بلا شجر، تنعدم الحياة. الحياة شجرة. الانسان شجرة. حيث الشجر تنفجر الحياة ويكون العيش. الصحراء لا تنبت شجرا. هي لا تنبت فكرا. هي عدم، هي قحل. هناك علاقة بين الشجر والبشر. كلّ يؤسّس للأخر. أنظر في الصحاري العربيّة شرقا وغربا، هل ترى فيها شجرا حيّا؟ في الفيافي تنعدم الحياة. في الصيف، تأكل الشمس الناس والشجر وتحرق كلّ شيء حيّ. لا حياة في الفيافي. لا فكر في الفيافي. يحيا العرب، جلّهم، في الفيافي. تأكلهم شمس محرقة... كيف للعرب، وحرّ الموت حولهم منتشر، أن يؤسّسوا للحياة؟ كيف لهم أن ينبتوا نبتا، أن يبنوا في الأرض عمرانا وفي الأرض شمس نار؟ لا حياة ممكنة في هذه الأصقاع. لا مستقبل للناس في مثل هذه البقاع...

طوال الصيف، تراني والناس من حولي، صباحا وظهيرة، في شبه غيب. نمشي بلا غاية أو قصد. ننتظر نهاية الشمس والحرّ. في بيتي، منذ الصباح، أنتظر أن تنكسر أشعّة الشمس وينتهي اللظى. مع الظلام، يخفّ القيظ. مع الظلمة، ينخفض الحرّ. حينها، تهدأ الأنفس قليلا. نتنفّس قليلا. تعود شيئا فشيئا الحياة. أفرح بقدوم الليل وأحمد الله على ما هبّ من نسمات. نشكر الله على كلّ شيء. عندها، يطلع علينا الناموس جحافل وهذه قذارة منشورة في كلّ مكان وركن. تونس قذرة. التونسيّون قذرون رغم ما يقوله الخطباء في الجوامع من قول. الكلّ يردّد: «النظافة من الإيمان». عن أي نظافة يتحدّثون وعن أي إيمان يتكلّمون؟ كذب القول. لا يكفي القول. لا ينفع ما جاء في القرآن من قول... المهمّ هو ما ترى لدى الناس كلّ يوم. المهمّ هو ما يفعله المسلمون في السرّ وفي العلانيّة، ما لهم من فكر ومن علاقات ومن ممارسات مختلفة. ذاك هو الاسلام الواقع كما نحياه وكما هو يجري. ليس الاسلام ما كتب في الصحف وما قاله الأنبياء وأهل الذكر...
انخفض الحر قليلا. انطلق الناموس يلسع. وبينما ترى الناس تسعى، تقاوم الناموس، تصدّه، يعلو الصخب فجأة في الأرض وتقرع الطبول في المصادح وهذه أعراس واحتفالات تهزّ الدنيا، تنتشر، تعمّ الأزقّة. في كلّ ليل، يهجر الناس البيوت وقد ضاقت. يمشي الكلّ إلى الشوارع، إلى المقاهي، إلى الساحات، إلى الأعراس. يروّحون عن النفس، يجتهدون لمحو ما كان في النهار من خنق ومن عذاب أزرق...

في الصيف، تنقلب الحياة في بلاد العرب. يصبح الليل نهارا والنهار نعاسا. كذلك يفعلون في شهر رمضان كلّه. في شهر الصيام، ترى الناس في نوم في النهار وفي الليل ينهضون للعيش حتّى مطلع الفجر وحين يدعو المؤذّن للصلاة فجرا. تلك بعض الممارسات لتجنّب الحرّ، صيفا. تلك بعض حيل المسلمين للإفلات من الأحكام ومن الشرع. كذلك، يؤوّل الأوّلون القرآن وما جاء في سوره من حدود ومن بيانات مختلفة...

في آخر الليل، تنتهي الأعراس وينتهي الصخب فيأخذك التعب ويحملك النعاس ردهة. لن تنام طويلا. تنهض فجأة وفي قلبك رعب لمّا يصرخ الآذان في المصادح. كل الجوامع من حولك بمصادحها المعلقة في السماء تدعو للصلاة، تذكّر، تؤكّد أنّ «الصلاة خير من النوم». يكره المسلمون النوم. في بلاد المسلمين، لا ينام الناس مثل بقيّة الناس. لا ينام المسلمون لا نهارا ولا ليلا. في أوطان العرب، هناك، في النهار، حرّ يقضّ المضاجع وفي الليل أعراس فيها طبول مفزعة وناموس غاشم وهناك أيضا دعوات للصلاة تدفعها، الى عنان السماء، مصادح معلّقة. في كلّ يوم، طوال العام، هناك خمس صلوات موقوتة بين ليل ظلام وظهيرة وغروب وعشاء. المصلّون، في ما أرى، هم دوما في صلاة بين سجود وركوع. المتّقون في أرض الاسلام تعبون...

صاحبي عمار متقاعد، مثلي. دخل الدين حديثا، منذ بضع سنوات. كان دخوله الى دين محمّد قويّا، شديدا. لعلّ صاحبي يريد تدارك ما فات من الزمن وما كان له في الصلاة من سهو. لعلّه خائف من النار. لعلّه يريد الجنّة مقاما... في ما مضى، كان عمار طالبا من اليسار. لا يؤمن بالحدود ولا يأتي العبادات. ثمّ كان الشغل وما في الشغل من مناورات. ثم شدّه الشيب فانقلب فجأة مسلما، يأتي في ورع والتزام كلّ العبادات، نهارا وليلا. يصلّي الخمس في أوقاتها ويصوم الشهر ويحجّ ويأتي ما استطاع من حسنات وفعل خير. لا أدري ما الذي غيّر فجأة عمار. ما كنت عرفت صاحبي في مثل هذا الورع. كان عمار في ما مضى «عيّاشا»، مثلي أنا وكبقيّة الشباب. كان يحبّ الثورة والخمر والبنات أيضا. ما الذي أصاب عمار؟ ما أعلمه هو أن عمار أصبح بين عشيّة وضحاها من المتّقين الحريصين على الدين وعلى الصلوات...

أنا مسلم وبوك علي مسلم وصاحبنا سليم هو الآخر يصلّي ولكن دون حرص أو تشدّد في الأداء وفي الوقت. كان عمار يصوم الشهر ويصلّي التراويح كلّ ليلة ويتهجّد في العشر الأواخر. يقول عمار «في التهجّد ثواب» ويضيف «وكذلك صيام ستّة أيّام في شهر شوّال وعشرة أيّام في ذي الحجّة...» الى غير ذاك من الأيّام. يصوم عمار في كلّ شهر عدّة أيّام. غدت حياة عمار عبادات. يومه وضوء وصلوات. أيّامه صلاة وصيام... تعب، في ما أرى، عمار. هو يقول عكس ذلك ويضيف أنّ الدين أعاد إليه رشده وأنّه اليوم في أحسن حال. أظنّه يبالغ، صاحبي. كلّما دعوناه الى المقهى، يقول عمار «إنّي صائم». لا ينام عمار في الليل كثيرا ولا في النهار. كلّما هاتفناه نلقاه في النوم غارقا. نمشي معا للتسوّق في أريانة فتراه يتعثّر وفي مقلتيه نعاس. حتّى يخفي ما في عينيه من إرهاق تراه دوما يرتدي نظّارات سوداء...

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115