حديث الأنا: في حرّ الصيف والريح الشهيلي

عشيّتها كنت في البيت. ككلّ عشيّة، أنا وزوجتي وحيدان في البيت. أنا لا أغادر البيت الّا قليلا. أنا لا أحبّ الخروج. أحبّ البقاء وحيدا في البيت. في الصباح، كلّ يوم، مضطرّا، أمشي إلى هنا

وهناك لقضاء شأن، لشراء حاجة. كلّ صباح، آتي شأنا معيّنا. مكرها. أحبّ البقاء في البيت. لا أحبّ الشارع وفي الشارع همجيّة وعضرطة. لا أحبّ الناس ولدى الناس ألقى بذاءة وعجرفة. أفضّل البقاء في بيتي. كلّ عشيّة ألقاني في البيت. أنتظر. لا أنتظر أحدا. لا أنتظر شيئا. أقتل الوقت. أحيانا وحيدا. أحيانا معي زوجتي...

عشيّات الصيف طويلة. أيّام الصيف مملّة. في الصيف حرارة لا تطاق. في الشارع نار تقلي. الكلّ يسرع الخطى، يحتمي، يختفي من لظى الشمس. الشوارع خاليّة. لا طير يطير ولا بشر يمشي. تونس، في الصيف، ظهيرة، خلاء مخليّ. الكلّ إلى الشواطئ يلتجئ. الكلّ في البحر يسبح. امتلأت الشواطئ بشرا. جاء البشر من كلّ برّ. غصّ البحر. فاضت الشواطئ. أكره العوم في الزحام. أخاف الدهماء لمّا تتجمّع. فسد البحر وهذه جحافل الناس كالجراد تغزوه. جاءت من كلّ صوب. أهلك المصطافون البحر. أفسدوا كلّ شيء. في الشواطئ قذارة لا توصف. في التونسيين قذارة كبرى...

يوم الأحد الماضي، احترقت الأرض. كان يومها يوما سعيرا. كان يومها يوما من أيّام جهنّم. فرّ الناس من نار جهنّم. غزا الناس الشواطئ والبحر. أنا وزوجتي والبنيّة أكلنا القيظ. تركنا البيت وذهبنا الى البحر. به نحتمي. به نستعين. في كاب زبيب، وسط الحقول والأجنّة، أملك أرضا. اشتريتها منذ سنين عدّة. بنيت بيتا صغيرا على البحر مطلّا. أقصده كلّما شدّتني حرارة الصيف وفي الفصول الأخرى. وصلت البيت. بيتيّ قبالة البحر. أحبّ البحر. أبتهج بلقائه نهارا وليلا. أنظره فتهدأ نفسي وهذا موج، تحت قدميّ، يسري. نزلت أنظر في البحر. أنظر في الشاطئ الرمليّ. أنظر في الأفق البهيّ. فاض يومها البحر بشرا. امتلأ الشاطئ الصغير وغصّ. هذه بغال موثوقة وهذه عربات منصوبة وهذه نسوة ورجال وصبية جاؤوا من كلّ فجّ. حطّت الخيام كما شاءت الصدف. انتصبت المظلّات في كلّ ركن. اتخذت كل عائلة مكانا. البحر يومها جميل، زيت زيتون أزرق. أنا ممنون بهذه الأرض التي اشتريت. أحبّ هذه البقعة ومن حولي جنان وأجنّة. هذا بيتي الصغير على البحر يطلّ. لست مضطرّا أن أنصب مظلّة أو أن أتي على بغل وعربة. خطوات قليلة تفصلني على اليمّ. كنت في المدارج، أنظر في البحر لمّا سألني صبيّ مبلّل، في عينيه شعلة وفي يديه خبز: «هل هذا بيتكّ؟» قلت «نعم». قال «صحّة. أنت كلّ يوم، صباحا، عشيّة، دون عناء، في البحر تسبح». ابتسمت للصبيّ وقلت «وأنت من أين أتيت؟» قال «من بعيد. من الماتلين». صدق الصبيّ. أنا رجل محظوظ وهذا بيتي على البحر يطلّ. بلا عناء، أرتمي في البحر، متى شئت، صباحا، عشيّة ويوم الأحد. أحيانا، أسبح في الظلمة، ليلا. لكن ما لا يعلم الصبيّ أنّ الصحّة تمنعني من السباحة صباحا، عشيّة. كلّ يوم...

قام الصخب في البحر وانطلق الصغار في الصراخ، يتدافعون فوق الرمال، في ماء البحر. أنظر في الصبية وكانوا من كلّ الأعمار وكلّهم في فرح وزهو. تتلألأ أعينهم غبطة كأنّها نجوم مضيئة في ليلة مظلمة. دوما يضحكون، يصرخون، يسبحون، يلطمون الماء بالأيدي، بالأرجل، ألف مرّة، بكلّ حزم. النسوة أيضا كنّ في غبطة. يسبحن وقد لبسن ثيابا فضفاضة، مغطّيّة. حتّى الرجال وكانت وجوههم كالحة، مسودّة، تراهم مع الصبية في مرح، يغوصون في الماء مرّة ويحكّون صدورهم وبطونهم لنزع قذارة متمكّنة. أمّا الرجل هناك فها هو وبغله في الماء يسبح. من حولك، ترى الناس، كبارا وصغارا، في انشراح، في سعادة كبرى...

لمّا كنت صبيّا في عمر هؤلاء الصبية، أذكر. تذكّرت أشياء حلوة. أنا اليوم بالذكرى، أحيا... في صيف سنة خلت وكنت في العاشرة، رجوت أمّي، أيّاما عدّة، أن تأذن لي فأمشي وإخوتي الى البحر. كانت قرية منزل كامل في منطقة منخفضة. كانت بقعة حاميّة وكان الصيف فيها طويلا، مملّا. بعد إلحاح كثير، أذنت أمّي وقصدت وإخوتي بحر المنستير وهو الأقرب إلى القرية. صباح ذاك اليوم، أذكره جيّدا، أعددنا البغل والعربة وحملنا عدّة السفر خبزا وبسيسة وللبغل تبنا. كانت رحلة مضنيّة، ممتعة. كانت المسافات بعيدة وتواصل السفر على العربة نهارا، تحت شمس محرقة. لا يهمّ العذاب إذا كانت الغاية حلما. لا شقاء ولا بأس إذا كان أمامك البحر...

وصلنا المنستير عشيّة. تعبت وإخوتي والبغل أيضا. وصلنا. ها هو البحر أمامي. أملأ به عينيّ. أشمّ رائحته الزكيّة. أشقّه بجناحيّ، طولا وعرضا. كان البحر جميلا، أزرق، ممتدّا. كان البحر وردة بهيّة. أنا أعشق البحر. أحمله في قلبي مذ كنت صبيّا... في بقعة منزويّة، على الرمل، أخذنا مكانا. هذا البغل وسائقه جنبا إلى جنب. هذا أنا وأخي الأكبر وأخي الأوسط حذو العربة. في الحين، نزعت ثيابي ودخلت الى البحر أجري. لا أدري هل كان لي سروال أرتديه أم كنت عاريّا في البحر أسبح. لا يهم. هي عشيّة ولا أحد من حولي ينظر. ها أنا أغوص في الماء الأزرق. أشدّ الموج. أقف قبالة اليمّ، وجها لوجه. يلطمني الموج فألطمه بصدري، بيديّ. أعض عليه بقوّة. أغوص في الأعماق فأرى حوتا صغيرا يجري. أدخل البحر من كلّ جهاته. يدخلني البحر من كلّ زاويّة. ما أحلى البحر لمّا يحملك بين يديه، يلامسك، يدفعك الى أسفل، الى أعلى. يحبّ البحر اللعب مع الصغار. أحبّ اللعب مع البحر. ها هو يداعبني، يرقص بيّ، يدلك جلدي، يغمرني غمرا...

ثلاثة أيّام كاملة قضّيتها واخوتي وسائق العربة والبغل. في البحر نسبح ونسبح ولا نتوقّف. في الشاطئ، نأكل ما توفّر. على الشاطئ، ننام كلّ ليلة ونأتي أشياء أخرى. النوم على الرمل مرهق. من الرمل أعدّ مخدّة. أضع رأسي فتضيع المخدّة. النوم تحت العربة، حذو البحر، رغم العسر، حلو. هناك روث البغل وبوله. هناك شخير سائق العربة. هناك أمور أخرى. لا يزعجني شيء. لا روث ولا بول. من قضّى نهاره تحت الشمس يسبح، ليله قصير ونومه أعمق. لولا الجوع في الأحشاء ضارب لقضيت الليل في البحر أسبح... ثلاثة أيّام حلوة، ممتعة، أذكرها وكأنّها اليوم. عندما أرى هؤلاء الصبية، هنا، على هذا الشاطئ، وهم في صخب، في عوم، تعود بيّ الذكرى...

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115