منبــر: الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي من أجل وضع جديد «على المقاس»

بقلم: كمال الجندوبي - وزير سابق والرئيس الشرفي للشبكة الاورومتوسطية لحقوق الانسان.
• تنشر «المغرب» مقالا لكمال الجندوبي كمال الجندوبي الوزير السابق والرئيس الشرفي للشبكة

الأورومتوسطية لحقوق الانسان وفيه يقدم تصوره للشراكة الممكنة بين تونس والاتحاد الأوروبي من منطلق قراءة للوضع الراهن داخليا واقليميا.

خلال الدورة الثالثة عشرة لمجلس الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي التي انعقدت في 13 ماي 2017، أكد الطرفان على ضرورة تحديد الإطار الجديد الذي سيحل محل برنامج العمل الحالي 2013 - 2017.
هذا الإطار سيحدد «الأولويات التي تعكس عمق العلاقات (بين تونس والاتحاد الأوروبي) ويستجيب لطموحات الطرفين في المستقبل، في سياق احترام مبدأ التفاضل كما جاء في السياسة الأوروبية للجوار المنقحة « (الإعلان المشترك بين تونس والاتحاد الأوروبي في 11 ماي 2017).
وقد دشن اجتماع (من اجل تبادل الآراء) 14 جويلية 2017 في أعلى مستوى بداية مسار من النقاش والتفاوض سيأخذ ما يتطلبه من وقت. لكن الوقت هو ما تفتقده تونس أو بالأحرى فان الزمن هو الذي لا يعمل لصالحها بحكم السياقين الأوروبي والتونسي الموسومين بالتوتر والغموض.

• اتحاد أوروبي تسوده الريبة:
لم يسبق للاتحاد الأوروبي أن كان موضع تساؤل وريبة بداخله، مثلما هو عليه الآن، مما أجج جدلا حول مستقبله، وفي الحقيقة، فان شعوب الاتحاد تشقهم الآن أزمة متعددة الأوجه لم يكن لها مثيل في الماضي، وذلك حيال بناء أوروبا، حيث أن الأزمة السياسية والديمقراطية التي اندلعت سنة 2005، حين رفض الفرنسيون والهولنديون معاهدة من اجل دستور أوروبي، قد تعمقت نتيجة أمرين: صعود الأحزاب اليمينية المعادية للأجانب والمسلمين واستمرار مظاهر العجز الديمقراطي.
وقد زادت من حدة الأوضاع مظاهر الركود الاقتصادي الذي لم تعرف له أوروبا مثيلا منذ سنة 1945 والناتج عن أزمة الديون السيادية سنة 2008
فالتعامل المجحف الذي خص به اليونان، وأيضا ذلك الضغط الذي كاد أن يتجاوز قدرة احتمال ايرلندا والبرتغال واسبانيا (وهي دول أعضاء بالاتحاد الأوربي) كان له تأثير سلبي لا فقط على الرأي العام الأوروبي بل وكذلك الدولي، وبداهة على دول الجوار.
أضف إلى هاتين الأزمتين، أزمة أخرى جيوسياسية انطلقت سنة 2011، لتغذي قلق الرأي العام بخصوص قدرة الاتحاد الأوروبي على مواجهة ثلاثة تحديات: أزمة الهجرة، ومجاورة روسيا التي أحيت شعورها القومي وأصبحت تتقاسم مع الاتحاد الأوروبي حدودا تقدر ب 2700 كم هذا إضافة للإرهاب بمظاهره كالجهادية والتطرف، الذي علاوة إلى أبعاده الجيوسياسية الخارجية، يلامس نبض الاتحاد الأوروبي ويمثل تحديا سياسيا واجتماعيا وثقافيا داخليا
وأخيرا، فان خروج بريطانيا، أو ما يسمى «بالبريكسيت»، الذي دفع بجون كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، إلى التصريح في خطابه حول وضع الاتحاد يوم 14 سبتمبر 2016، بان الاتحاد الأوروبي يمر «بأزمة وجود حقيقية» تدفعه إلى عديد الفرضيات، إذ لأول مرة في تاريخ بناء الاتحاد الأوروبي يقرر بلد(بريطانيا) بطريقة ديمقراطية مغادرته، مما يدعو الى الخشية من تداعيات أخرى أو ما يسمى «انتقال العدوى»
هل يكون انتخاب ايمانوال ماكرون، الرئيس الفرنسي الجديد، نقطة توقف لمسار الأزمة التي هزت أوروبا في السنوات الأخيرة؟ على الأرجح، يظهر أن فرنسا تريد استعادة مكانتها بتحويل القضية الأوروبية إلى مشروع سياسي: يجب ان يعاد تركيز بناء أوروبا حول المحرك الفرنسي-الألماني، وذلك من اجل ضمان توسيع انفتاحه، وكذلك لتحويل الاتحاد إلى فاعل رئيسي في مسار العولمة، في الوقت الذي يتراجع فيه دوره بحكم الأزمة الاقتصادية التي يعيشها وبحكم صعود قوى اقتصادية جديدة.
كما أن انتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية، المعروف بميولاته الانعزالية، إضافة الى «البريكسيت» يدفع بحاملي المشروع الأوروبي الى ضرورة إنعاش البناء الأوروبي الذي ستختبر وتقاس مصداقيته داخل وخارج فضاء الاتحاد.
لماذا هذا التقديم؟ نرى أن ما اوردناه من تذكير أعلاه ضروريا وذلك لتقديم سياق انطلاق الحوار حول «مستقبل الشراكة» بين تونس والاتحاد الأوروبي، لان المؤسف حقا هو الغياب شبه الكلي للمسألة الأوروبية في نقاشنا العام، وهو ما ينمّ، إما عن عدم اهتمام بالموضوع، أو، وهذا الأخطر، عن جهل شريك كانت لنا معه علاقات متطورة ونتهيأ لضبط علاقة جديدة تحدد جزءا من مستقبل بلادنا.

• تونس: قلقة وهشة:
بعد أكثر من ست سنوات على الثورة، يشعر التونسيون بالقلق، وفي نفس الآن، نحن مدعاة للقلق، فبلادنا هي التي أطلقت «ربيع» الثورات والتي تواصل، عموما، طريقها رغم الأعاصير والهزات بفضل مجتمع مدني نشيط وحيوي، تحصّل حتى على جائزة نوبل، اعترافا بدوره.وهذه البلاد هي، أيضا، التي يعتقد إنها أرسلت أكبر عدد من الشباب المتطرف آلاف الكيلومترات لدعم صفوف داعش وليكونوا وقودا لحربها المدمرة. ولنسمي الأشياء بمسمياتها، فان جزءا من شبابنا، مهما كان ضعف العدد، هم اليوم ضحية التعصب ويقع تجنيدهم للقتل. (مختلف العمليات الإرهابية بين 2015 و2016). (راجع جريدة المغرب 17 مارس 2016، كمال الجندوبي: التطرف، المفارقات التونسية)
فالجوار مع ليبيا، البلد الذي يفتقر إلى سلطة مركزية والخاضع إلى صراعات عنيفة بين ميليشيات منفلتة ومتناحرة، جعل الحرب على الإرهاب تتصدر أولويات السلطات التونسية، كما أن ضرورة حماية الممتلكات والأشخاص وكذلك الضغوطات الخارجية جعلت من المسألة الأمنية أمرا ملحا وفي نفس الوقت عبئا يحد من موارد البلاد المحدودة ويغذي الخوف والقلق. وتذكّي هذا القلق الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وكذلك محاولات الضغط على حرية التعبير والرأي وفرض رقابة عليها واستمرار العمل بتشريعات سالبة للحرية أو متخلفة في الترسانة القانونية، وذلك بالرغم من أن دستور سنة 2014 يضمن حرية الضمير وحماية الحياة الخاصة والمساواة بين الرجل والمرأة.
وبالتوازي مع الصورة المشرقة لتونس التي يُحتفى بها دوليا، كبلد الحرية الوحيد في العالم العربي، تبرز صورة اقل إشراقا حين نعي أن جزءا كبيرا من المواطنين يرزحون تحت وطأة واقع يومي مرير يتسم بتفشي البطالة الجماعية وغلاء الأسعار وتدهور البيئة واستشراء الفساد.
ذلك لان التونسيين تعرضوا لصدمات عديدة نتج عنها انخفاض حاد في النمو وتفاقم التفاوت الاجتماعي والجهوي، واستمرار، بل وارتفاع نسب البطالة، خاصة ضمن الشباب وأصحاب الشهائد العليا، الذين هم وراء العديد من التحركات الاجتماعية.
بعض الحركات الاجتماعية، ذات الرمزية، مثل عمال الحضائر وأصحاب الشهائد، لم تعرف طريقها إلى الحل ولم توجد لها مخارج، والبعض الأخر، أكثر تغطية إعلامية، مثل الكامور بتطاوين والحوض ألمنجمي توجد صعوبة كبيرة في إخمادها حتى مع الاتفاقات التي تم التوصل اليها، مما يغذي الخوف من العدوى الاحتجاجية وذلك بالرغم من التعامل الأمني والقضائي الذي خصت به قيادات هذه الاحتجاجات الاجتماعية (حوالي 400 محاكمة جارية).
أما الوضع السياسي، فانه يعيش على وقع إعادة تشكل لا تنتهي، موسومة بانقسامات وصراعات بلا هوادة، تستعمل فيها كل الوسائل: كشف قضايا، تسريبات للإعلام، أكانت مبرمجة، منظمة أو مقصودة، كل ذلك على خلفية ارث القيادة داخل القطبين اللذين يسيطران على الحياة السياسية في تونس: نداء تونس وحزب النهضة .وبالإضافة الى الضجر وغياب الرؤية اللذين طبعا مزاج الرأي العام، فان مثل هذا الوضع قد ولّد عدم استقرار حكومي، حيث تواترت سبع حكومات منذ 2011، مع تسجيل رقم قياسي لحكومة الحبيب الصيد، التي بقيت 18 شهرا.
أما في خصوص حكومة يوسف الشاهد الحالية، فإنها تعتبر الفرصة الأخيرة. وبالنتيجة لكل هذا، فقد أضعف وضع عدم الاستقرار هذا تونس أمام شركائها وأخّر اتخاذ القرارات والقيام بالإصلاحات، خاصة تلك المتأتية من تطبيق دستور 2014 وكذلك تلك الإصلاحات المعنية بمعالجة الأسباب التي كانت وراء تحركات الشباب والجهات.
نحن إذن أمام انطلاق حوار بين طرفين حول مستقبل العلاقات بينهما: اتحاد أوروبي يخيّم عليه الشك، وبلد (تونس) يعيش حالة قلق وهشاشة. انه أمر غير مسبوق وحاسم، في نفس الآن.

• التزام الاتحاد الأوروبي نحو تونس: خطاب داعم...
ما انفك الاتحاد الأوروبي يردد الاهتمام الذي يخص به علاقات التعاون مع تونس، كشريك، يُعرّف بأنه مميّز.اذ يعتبر البيان المشترك الصادر عن المفوضية والمفوضة السامية للاتحاد الأوروبي المكلفة بالعلاقات الخارجية والسياسة الأمنية، الصادر في 26 نوفمبر 2016 أن الشعب التونسي «قد شق طريقه نحو ديمقراطية حديثة» وأن «التجربة التونسية هي مبعث أمل بالنسبة لبلدان الجوار الأوروبي» وانه «من مصلحة الاتحاد الأوروبي أن يكون له بلد مجاور قوي وديمقراطي ومستقر مثل تونس».
وأن «إرادة الاتحاد الأوروبي لمساعدة تونس في انتقالها الديمقراطي تظهر من خلال السياسة الأوروبية للجوار المراجعة.»
وقد تبعت ذلك سلسلة من القرارات خاصة بتكثيف الاتصالات السياسية ومضاعفة المساعدة المالية السنوية في شكل هبات (من 186.5 الى 300 مليون أور والى حدود سنة 2020) الى مساعدة ماكرو مالية إضافية ب 500 مليون أورو، الى مساندة إنشاء أرضية للتنسيق بين المانحين في المخطط الخماسي مستوحاة من آلية مجموعة 7 زائد خمسة، وذلك في مجال الأمن ومحاربة الإرهاب (تجمع أعضاء مجموعة السبعة، الاتحاد الأوروبي، بلجيكا، هولندا، اسبانيا وسويسرا).
وتذكر وثيقة العمل المشتركة بين مصالح المفوضية والمفوضة السامية بشأن وضع العلاقات بين تونس والاتحاد الأوروبي المتبعة في إطار السياسة الاوروبية للجوار، التي نشرت في افريل 2017، أن «الاستراتيجية الشاملة للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد» التي تم اعتمادها في جوان 2016 تعترف «بالدور الذي تقوم به تونس في المنطقة كديمقراطية مزدهرة وسلمية ومستقرة...» وأن «نجاح الانتقال الديمقراطي يظل أولوية بالنسبة للاتحاد الأوروبي.» وتستعرض الوثيقة الوضع العام في مجموع مجالات التعاون بين الاتحاد الأوروبي وتونس، مشيرة إلى الإصلاحات التي تمت والتي يجب أن تتم.

• لكنها رسالة تتسم بالغموض:
في الحقيقة هناك تناقض بين الانفتاح المعلن من الاتحاد الاوروبي وبين التمسك بالسياسة الأوروبية للجوار، حتى وان تمت مراجعتها، كإطار للحوار، ذلك لان هذه السياسة تتضمن أولويات أوروبية: التنمية الاقتصادية، الأمن، الهجرة والتنقل.
فالمكافأة على التقدم في الديمقراطية، التي تستند على مبدأ التفاضل، رغم نجاعتها في أوقات الأزمة، إلا أنها لا تؤسس لحوار سياسي حقيقي، ولا يمكن أن تكون النتيجة الوحيدة المتوقعة من الحوار:
- لا بحكم صياغتها، وكأنها طُعم، إذ تحيل إلى أن التونسيين قد اختاروا الديمقراطية بحثا عن المساعدات المالية،
- ولا بحكم اتساقها، وكأن الاتحاد الأوروبي يريد تأمينا، وذلك تحسبا لأي تهديد،
- ولا بحجمها، حيث انها ضعيفة مقارنة بالمساندة التي يقدمها الاتحاد الاوروبي لبلدان اوروبا الوسطى والشرقية في مسيرتهم نحو الديمقراطية.
وهناك تناقض اخر في علاقة بين الاتحاد الاوروبي وتونس:
من ناحية، يعتبر الانفتاح البصمة الجينية لبناء اوروبا وذلك عبر تنمية التبادل وبعد ذلك تدريجيا عبر ضمان «الحريات الأربعة، ومن ناحية أخرى، غلق الحدود أمام بعض المنتوجات دون أخرى، وأمام فئات دون أخرى، فتحها أمام رجال الاعمال والطلبة وغلقها امام المهاجرين الباحثين عن شغل.
وحتى بعض مسلّمات الاتحاد الاوروبي هي في حاجة الى اعادة نظر: الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي، شرطان أساسيان لتنمية الديمقراطية. لكن في الحقيقة معضلة ثنائية الاستقرار أو الديمقراطية تستحق موقفا مسبقا، هل تستوجب جودة الحكم الديمقراطية؟ هذا الموضوع يعتبر من المسكوت عنه على المستوى الأوروبي.
اذن فان الإطار العام للحوار في حاجة الى مبادئ توجيهية يقع الاتفاق عليها بين الطرفين حتى يمكن للحوار السياسي ان يحقق النجاح وذلك في واقع يتطلب فيه هذا الحوار حول مستقبل الاتحاد الاوروبي نقاشا حول نشاطه الخارجي، خاصة وأن أحد اهم عوامل مصداقيته تقاس بمدى التزامه تجاه جيرانه. فمن البديهي اذن أن يكون هناك ربط بين السياسة تجاه تونس والمشروع الاوربي.
لكن هل يرغب التونسيون في هذا الارتباط مع المشروع الاوروبي؟

• ماذا يريد التونسيون؟
هذا السؤال يحيلنا الى البحث في طريقة ضبط تونس لعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، ماضيا وحاضرا، وذلك يحيلنا الى سؤال اخر وهو ما إذا كان لتونس استراتيجية واضحة تجاه الاتحاد الأوروبي؟
من المؤكد اننا نفتقد تفكيرا استراتيجيا كما كنا في عهد بن علي اذ اكتفينا بان نرى في الاتحاد الاوروبي مصدر تمويل وسندا لأمننا الاقليمي. تلك كانت سياسة النظام التي كانت تريد أن تحدّ من «تأثيرات» التقارب الأخرى. لكن مع الثورة وتركيز المسار الديمقراطي، نحن في حاجة الى اعادة ضبط رؤية دقيقة وإستراتجية جديدة، لأنه لا يمكننا إتباع المسار نفسه، مما سيقودنا الى طريق مسدود.

• أي مستقبل لتونس؟
لا يمكن لنا ان نتفادى نقاشا معمقا حول المستقبل الذي نتمناه لتونس في علاقتها بالاتحاد الأوروبي، وبالرغم من غياب برنامج واضح للحكومة حول الموضوع، إلا أننا لا يمكن ان ننطلق من صفحة بيضاء لتحديد موقف حكوماتنا من المفاوضات مع بروكسل.
إذ لابد من الأخذ في الاعتبار انتظارات مواطنينا، التي هي في اغلب الأحيان غير واقعية ومتناقضة، يجب، أساسا، توضيح هذه الانتظارات عبر إجراءات واضحة يمكن تحديدها: مشاورات عامة، استفتاء حول مشروع واضح، نقاشات برلمانية، بل وحتى انتخابات جديدة.
كما لا يجب أن نكتفي بتحديد إستراتجية اقتصادية وتجارية جديدة، فمخطط التنمية 2016 - 2020 خطوة مهمة، لكنها غير كافية، إذ لابد، واعتمادا على دستور تونس الجديد، أن نعمل على ابتكار نموذج سياسي واقتصادي واجتماعي ، ينبني على أسس دولة شفافة ، تعيد الثقة في المبادئ الديمقراطية التي قوضها فقدان الثقة في النخب ، دولة تضع في أولوياتها محاربة الفساد وإرساء التوازن الاجتماعي والجهوي، وباختصار ، دولة تعيد الأمل في التعايش في تونسنا العزيزة.

• حول بعض الفرضيات والمسارات:
يمكن لنا صياغة بعض الفرضيات والسيناريوهات الخاصة بعلاقة تونس بالاتحاد الأوروبي على اعتبار أن بلادنا تستوفي الشروط المطلوبة، ولكن لابد من تقدير نتائج ذلك. يمكن، مثلا، افتراض ان تكون العلاقات مبنية فقط على قوانين منظمة التجارة العالمية، لكن لابد، في هذه الحالة، من تقييم نتائج الانفتاح التام على التنافس ومن تقييم الطبيعة العشوائية للتحرير الشامل للاقتصاد المفروض عبر المفاوضات التجارية العالمية وعبر ضغط منظمة التجارة العالمية، ومن تقييم نتائج المسافة التي ستحدث مع الاتحاد الأوروبي، من حيث الوصول المحدود للسوق الأوروبية وتعذّر الوصول الى برامج الاتحاد.
وهناك، أيضا، وضع وسطي بين «الانضمام» و»الشراكة المعززة»، وذلك على غرار النرويج وسويسرا، بقي أنه لابد من التأكد من أن تونس تريد أن تكون عضوا غير فاعل في السوق الموحدة، أي أن تساهم، أساسا، في ميزانية الاتحاد الأوروبي وان تبقى خارج محكمة العدل الأوربية، دون أن تكون لها إمكانية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مثلما هو متاح الى بلدان المنظمة الأوروبية للتجارة الحرة التي تضم أيسلندا والنرويج وإمارة لينخشتاين وسويسرا.
وضعية الشريك المميز الحالي يمكن أن يكون سيناريو مقبولا، فهل لنا تقييم نتائج ذلك؟تونس هي البلد الوحيد في جنوب وشرق المتوسط التي ألغت الرسوم الجمركية ، والنتيجة ان كان تأثير هذه الخطوة من التحرير التجاري، أحيانا، محل نقد: أدى تخفيض التعريفات الجمركية إلى خسائر في الإيرادات للمالية العامة ، قدرت بين سنتي 1996 و2010 بـ3 بالمائة من الدخل القومي الخام وانخفضت حصة الصناعات التحويلية بخمس نقاط ، في الوقت الذي كان هناك تعويل على النهوض بالمبادلات الصناعية و ارتفاع في معدلات البطالة بالنسبة لحاملي الشهادات و تفاقم العجز في الميزان التجاري ، كل هذا أدى إلى القناعة انه لا يمكن تنمية الصناعة في محيط التبادل الحر.البعض يربط هذه النتائج بالمشاكل الهيكلية المتأتية من تعصير الاقتصاد والمجتمع التي تترجم أساسا بتطور الإنتاجية للفرد، التي ما انفكت تتراجع مقارنة بالدول الأسيوية.
يبقى سيناريو «وضع على القياس» لكن أي وضع؟ وبأية شروط؟ لابد من الاستنتاج التالي وهو انه، بعد سنوات عديدة من محاولات اعتماد السوق الموحدة الأوروبية، ظلت قدرات تكيّف الاقتصاد التونسي محدودة، مما يعني إذن، انه لابد من البحث عن خطة إدماج أكثر مرونة وضمن مهلة أكثر اتساعا.
سواء كان انضمام إلى السوق الأوربية المشتركة، أم شراكة معززة أم جوار، بين هذه وتلك، لابد من التفكير في «وضع على القياس» يدمج النموذج التونسي، هذه المفارقة التونسية لبلد يحقق انتقاله الديمقراطي وسط محيط لا يستوعب الكثير من القيم الديمقراطية.

• هذا الوضع يستوجب جمع ودمج ثلاثة شروط:
- رغبة معلنة من طرف البلاد التونسية لإدراج أوروبا في مستقبلها، وذلك بتفعيل بعدها المتوسطي، مع الإبقاء على بعدها المغاربي والعربي والإسلامي والإفريقي،
- سياسة جوار أوروبية مراجعة، مرسومة أولوياتها بصيغة تشاركية تنسجم مع هذه الرغبة على المدى البعيد،
- تعاون معزز يلامس عددا من المجالات بين تونس ومجموعة من دول الاتحاد الأوروبي، يستكمل سياسة الجوار ك «مجموعة أدوات»، ويبقى مفتوحا على دول أخرى، مثل سويسرا والنرويج.
وفي انتظار استكمال هذه الشروط ، يمكن تحديد أهداف وبعض من قواعد اللعبة التي تساعد على بعث إشارات قوية ، مثلا يمكن تحديد هدف تعميم التأشيرات على المدى المتوسط ، وكذلك إدماج تونس في المشاورات الرامية إلى إنشاء صندوق تنمية اقتصادية موجه الى البلدان النامية ، على غرار مخطط يونكر الذي يرمي الى تنشيط الاستثمار في الاتحاد الأوروبي علاوة على ذلك ، يمكن التفكير في تنسيق بين الاتحاد الأوروبي وتونس في الهيئات الدولية ، مثلا مجلس حقوق الإنسان، وعلى هذا الأساس يجب أن نفكر في إحداث آلية تفكير لتعزيز الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وتونس.
لكن الأهم بالنسبة لتونس هو توفير الظروف التي تؤسس إلى التفكير الداخلي، اي على المستوى الوطني ، وذلك حول المكانة التي ترغب إعطائها للاتحاد الأوروبي ضمن مستقبلها القريب والبعيد، ولا يعني ذلك إبعاد تونس عن محيطها المغاربي والعربي والإفريقي على العكس تماما، لابد لنا من إعادة النظر في السياسات الجديدة مغاربيا وعربيا وإفريقيا ومتوسطيا ودوليا وذلك على ضوء التغييرات التي أحدثتها الثورة .
ولأجل سماع صوتها، لابد أن تطوّر تونس رؤيتها الإستراتيجية الخاصة وان تأخذ في الاعتبار مشهدا دوليا تغلب عليه أكثر فأكثر الواقعية، وعليها، في تقديرنا، أن تراعي السياقات والمتطلبات التي يقتضيها هذا المشهد، لان اليوم، مصير الشعب وازدهاره وأمنه تتحدد شروطه أكثر فأكثر على صعيد إقليمي وحتى على مستوى دولي. التفكير الاستراتيجي يجب أن يعكس مصالح الأطراف الأساسية من مواطنين و أحزاب و برلمان ومنظمات وهذا ما يضع أمامنا تحديات كبيرة ويتطلب حوارا معمقا بين مختلف الفاعلين، بحيث يدرك كل طرف بوضوح متطلبات الواقع، وخاصة سرعة وتيرة التغيير الاجتماعي والتكنولوجي وتأثيرها المأمول على مختلف القطاعات والسكان.

وينبغي لهذا الحوار الداخلي أن يؤدي إلى توافق لنضمن أن كل الفاعلين التونسيين قد أدركوا أهمية التفكير المعمق والخطة الاستراتيجية، ولندرك كلنا أهمية هذا التوجه الخاص بالنسبة لتونس، التوجه الذي يضع تونس ضمن أولويات العلاقات الخارجية للاتحاد الاوروبي.
ذلك يتطلب منا فهما أعمق للاتحاد الأوروبي وأعضائه، مهما كانت توجهاتهم الإستراتيجية، ولابد لنا من فكرة واضحة عن الطريقة التي يجب ان نتوخاها للإقناع بسداد مخططاتنا، لنقدّم مقترحات «لا يمكنهم رفضها».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115