استئصال الفساد سبيل التنمية

من منا لا يذكر تصريح رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد والذي جاء فيه أن الحرب على الفساد أصعب من الحرب على

الإرهاب! كان الصيد بالتأكيد عارفا بامتدادات الإخطبوط الذي التفّ على دواليب الإدارة ومفاصل الاقتصاد، ما جعله يقدّر تعقيدات ومصاعب هذه المجابهة ، وإن هوّل فيما يبدو من شأنها. فهل نؤاخذه اليوم لكونه جعل من الصعوبة مبررا لإحجام حكومته عن خوض هذه المعركة، مثلما تقاعست في مكافحة التهرّب الجبائي والتهريب ؟ أم نقول في نوع من التبرير أنه كان على تونس أن تحقق الانتقال إلى الديمقراطية التعددية ثم أن تعطي الأولوية لمحاربة الإرهاب، وأنه لم يكن ثمّة خيار في تأجيل المطلبين اللذين شكلا قادح الثورة، أي استئصال الفساد وتحقيق الكرامة بفضل التنمية والتشغيل ؟
مهما تكن الإجابة، فإنه يصعب التنصّل من الاستنتاج التالي: كون الانتقال الديمقراطي كما تمّ في تونس مثّل مناخا ملائما لاستفحال ظواهر سلبية سابقة على الثورة وبالتالي تشكّل منظومة متداخلة ومترامية الأطراف من الفساد المالي والإداري والسياسي والإعلامي هي بصدد تخريب مؤسسات الجمهورية ومقدرات التنمية معا. ونقترح في ما يلي تناول الجانب الثاني على أمل العودة لاحقا إلى موضوع إفساد السياسة والمؤسسات

الشروط التي حفت بتكوين حكومة الوحدة الوطنية حملت معها الأمل في تجاوز نواقص سابقتها بالحد من تسيّبها الليبرالي ومحاولة رسم سياسة موحدة ومنسجمة بدل توزيع الإقطاعيات الوزارية على الأحزاب، إلاّ أن هذه النوايا الحسنة سرعان ما اصطدمت بمؤشرات سلبية قيّدت تحركات الحكومة طيلة أشهر. فالإصلاح الجبائي الذي شرعت فيه حكومة الشاهد بهدف تمويل ميزانية الدولة والاقتراب بعض الشيء من العدالة أمام الضريبة وجد مقاومة من أنانيات أصحاب المهن الحرة كالأطباء والمحامين: إذ رفض السلك الأول إخضاع العيادات المربحة لمراقبة مصالح الجباية بصورة منظمة ومعقلنة، ووجد السلك الثاني آذانا صاغية لدى أغلبية نيابية تحكمها التوجهات الليبرالية والحسابات الانتخابوية. وفي ذات الوقت كانت رئاسة الجمهورية تتحرك في وجهة مخالفة للصيغة النهائية لوثيقة قرطاج التي شكلت أرضية العمل الحكومي، وذلك باستعادة مقترح المصالحة الاقتصادية المرفوض أو المتحفظ بشأنه من قبل أطراف ممضية على الاتفاقية تخشى أن يفتح الباب للتطبيع مع الفاسدين.

لا غرابة والحالة تلك أن تنحو حكومة الشاهد منحى متردّدا وانتظاريا. ومما زاد من مصاعبها التحركات المطلبية والاحتجاجية المتعاقبة بالحوض المنجمي وقرقنة والكاف وبن قردان وصولا إلى اعتصام الكامور وما شهده من ارتفاع منسوب الاحتقان وخطر خروج الأمور عن السيطرة. ولقد كان واضحا للجميع أن هذه التحركات، على ما شهدته أحيانا من مزايدات وتعجيز، إنما تصدر في الجوهر عن نفس العامل المزدوج الذي أفرز انتفاضة ديسمبر- جانفي: من جهة العجز في مجال التنمية المرفوق بمنظومة تعليم شعبوية وفاشلة وما أنتجه من جيش من العاطلين من أصحاب الشهائد، ومن جهة ثانية انتشار الفساد في صفوف الإدارة والوظيف العمومي وتخريب أسلاك بالكامل بممارسات الرشوة والانتفاع من التغطية على أعمال التحيّل والتهريب، وبما يجعل ذلك الشباب المعطّل موزعا بين إغراء الاستفادة من هذه المنظومة والنقمة الاجتماعية على ما يعيشه من بطالة وتهميش وإحساس باللاقيمة.

والواقع أن ثمة علاقة وطيدة بين إخفاقات السياسات التنموية المتعاقبة وتفاقم الفساد وأن كلاهما يتغذى من الآخر. فالفساد يثقل من كلفة المشاريع التي تكون الدولة طرفا فيها والصفقات التي تعقدها وذلك بانجازها دون مطابقة لكراس الشروط والمواصفات والتراتيب القانونية، وبما يؤدي إلى تعطيل الخدمات المرجوة منها ويسبّب خسائر كبيرة لإصلاح معاطبها، خاصة في ظل تقاعس مصالح المراقبة والإدارات المشرفة عن تحمّل مسؤوليتها. والفساد يصدّ كل مستثمر يريد أن ينشط في نطاق القانون والشفافية. والفساد يفضي إلى تحكّم أقلية مجرمة في السوق عن طريق الاحتكار والمضاربة والتحيّل وافتعال الندرة بما يؤدي إلى التهاب الأسعار أو يتسبّب في إغراق السوق الوطنية ببضائع مهرّبة تضيّق على منتوجاتنا التقليدية وتدمّر الصناعة الوطنية. والفساد يرفد الاقتصاد الموازي ويتمعش منه وهو ما يراه جميع المواطنين بالعين المجردة في حين يتطلب الأمر تنظيمه وإخضاعه للقانون وإلزامه بدفع الجباية المستحقة وباختصار فإن تحالف الفساد الإداري والمالي وارتباطه بالتهريب والتهرّب، يمثل سببا رئيسيا في عجز ميزانية الدولة عن الإيفاء بحاجيات الاستثمار والإنفاق على التعليم والصحة والثقافة والمرافق الأساسية الأخرى إلى جانب عزوف المستثمرين من ذوي الأيادي النظيفة.

لكل ذلك يمثل التقدم في محاصرة الفساد والتضييق على الفاسدين ضرورة حيوية لكي يقوم الجهد الإنمائي على أساس صلب. فالمأزق التنموي لا حلّ له على الأمد القريب والمتوسط – على الأقل- إلاّ بتدخل ناجع للدولة كفاعل تنموي وقاطرة للتنمية. إن المهمة الوطنية المطروحة والتي تتجاوز كل الاعتبارات الإيديولوجية هي إعادة النظر في المنوال التنموي الذي عمّق الفوارق بين الجهات والفئات، وهو ما يقتضي عودة الدولة إلى ما سبق أن قامت به حتى بداية الثمانينات من دور المهندس للتنمية والمستثمر ، مع مراعاة اختلاف الظروف وعدم تكرار أخطاء الماضي، وكذلك قيامها بدورها كسلطة عمومية لا تجد حرجا في تطبيق القانون على الجميع وتمكين الأجهزة الرقابية والزجرية من ملاحقة الأنشطة المضرّة بالأمن الاقتصادي. وإذا ما تجسد هذا العمل الحكومي الجادّ المنصب على مكافحة الفساد واسترجاع أموال المجموعة الوطنية، ورافقته إجراءات قوية وتدابير محكمة لإرساء الإدارة الرشيدة للإنفاق الحكومي ومنظومة التصدير والتوريد، فسيكون لنا أن نستبشر بإمكان الرفع من وتيرة النمو بعدّة نقاط، تجد ترجمتها في عشرات الآلاف من مواطن الشغل والرزق. سيرى التونسيون نهاية النفق، ولكن ذلك مشروط بالعزم والحزم والشجاعة في نهج طريق العمل والانضباط وقيام الجميع بالواجب المهني واحترام أخلاقيات المهنة وكذلك التحرّر من ثقافة الاتكال على الدولة وتحميلها كل الأوزار بما فيها مسؤولية إعالة الجميع سواء عملوا أم لا، وتوفير الشغل القار والوظيف لكل أصحاب الشهادات، وهو من باب طلب المستحيلات وركوب الشعارات والمزايدات.

ومهما يكن بخصوص الأسباب المباشرة التي مكنت الشاهد وحكومته من تجاوز المعوقات وإطلاق المعركة ضد الفساد ، فالمهم أن الحرب قد بدأت وأن الطرف المبادر بها مدرك لأهميتها ومصمّم على أن تكون معركة الدولة مع الخارجين عن القانون ومن لا يردعهم ضمير عن الإثراء بنهب البلاد والعباد. قد لا يكون ظهر الحكومة محميا بما فيه الكفاية، وقد يعنّ لبعضهم أن يساومها لقاء مساندة لفظية أكثر منها فعلية، وكل هذا يلقي مسؤولية ثقيلة على القوى الديمقراطية والتقدمية من أحزاب وجمعيات ونقابات لكي تتقارب وتشكّل ائتلافا سياسيا ومدنيا واسعا يدعم الحرب على الفساد ويستحث الحكومة على التوغل فيها ويحمّل الأحزاب والكتل النيابية مسؤولية الانخراط فيها والإقلاع عن تعطيل المشاريع التي تخدمها. ومن المهم أن تدرك المكونات الديمقراطية والتقدمية المعنية أن الأمر يتعلق بحرب طويلة الأمد، معقدة وصعبة فعلا: فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة والثقافة المهيمنة تمثل أرضية ملائمة لانتشار هذا السرطان. لا ينبغي توهم إنجاز نصر حاسم في وقت وجيز: فحاضنة الفساد أوسع بآلاف المرات من حاضنة الإرهاب. وبالمقابل، فإن الحكومة مدعوة للإنصات إلى الأطراف الواعية والداعية إلى إحلال النزاهة والنظافة والاستقامة والإخلاص في العمل قيما موجهة للسلوك. والاستماع كذلك إلى صوت الجهات والفئات التي حرمت من الحق المتساوي في مجهود التنمية وتوزيع ثمارها. وبذلك سيتيسر للحكومة ربح معركتها وللجسم الاجتماعي استئصال هذا السرطان.

• ملحـــق:
وأنا أكتب عن دور قيم النزاهة والاستقامة وما إليها في ربح المعركة ضد الفساد وفتح الآفاق للتنمية، تذكرت حادثة جرت إبّان انعقاد مؤتمر الحزب الديمقراطي التقدمي سنة 2001. فقد كنت بصدد عرض مشروع اللائحة الاقتصادية والاجتماعية عندما انتفض الجناح الماركسي الذي انضم لتوه إلى الحزب (قبل أن يغادره) بالتزامن مع انضمام التيار الإسلامي التقدمي. لم يستسغ اليساريون ما ورد بمشروع اللائحة عن أخلاق العمل والجهد والنظافة. أرغوا وأزبدوا بسبب فهم خاطئ وأفكار مسبقة تعتبر الأخلاق صنوا للانغلاق، وتحيل إلى مقولة: الدين أفيون الشعوب، وفي أفضل الحالات تعتبر أن التنظيم الاقتصادي هو الذي ينتج أخلاقه الملائمة له. ما عرفوا أن الكثير من البلدان المتقدمة حققت منجزاتها الاقتصادية بالمزاوجة بين الثورة العلمية والإصلاح الديني والأخلاقي، بل أن هذا الأخير كان في أساس العقلانية والرأسمالية الحديثة التي عرفتها أوروبا الشمالية والولايات المتحدة، وهو ما بينه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في كتابه الشهير «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، مبرزا دور الالتزام المنهجي بضوابط أخلاقية صارمة في العلاقة بالمال والعمل والإنفاق، في نشأة الرأسمالية العقلانية. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن بلدانا آسيوية مثل اليابان والصين وماليزيا بنت نجاحاتها إلى حد كبير على ترسيخ قيم العمل والوفاء للمؤسسة والتضامن والانضباط. وعليه فثمة الكثير ممّا نتعلمه من هذه التجارب الغربية والشرقية في معركتنا ضد الفساد بأوسع معانيه ومن أجل التنمية للجميع.
• التنمية ستبقى سرابا في ظل استشراء الفساد
• المعركة ضد الفساد معركة سياسية وتشريعية وأمنية وعدلية وأخلاقية أيضا.
• من أجل أوسع ائتلاف مدني وسياسي لمحاربة الفساد

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115