مسلسل «المغرب» الصيفي نحن والفايسبوك 1: ما الفايسبوك ولماذا أصبح أساسيا في حياتنا ؟

بقلم:الصادق الحمامي
سلسلة من المقالات الاسبوعية تستكشف علاقة التونسيين بالميديا الاجتماعية بشكل عام وبالفايسبوك على وجه الخصوص. يتناول الكاتب في هذه

المقالات مسائل متعددة على غرار أسباب شعبية الفايسبوك ومكانته المتعاظمة في حياتنا الاجتماعية، وتأثيره على الحياة السياسية وعلاقته بظاهرة الإرهاب ومسائل تنظيمه أو تعديله (على غرار الميديا السمعية البصرية) ومصير المثقف والصحافة والميديا في عصر الفايسبوك.

لا مجال للشك في أن الفايسبوك أصبح مجالا من مجالات حياتنا تتشكل فيه أنشطة اجتماعية لا حصر لها. فالإحصائيات المتوفرة (أنظر الرسم البياني المصاحب للمقال) تفيد أن هناك أكثر من 6 ملايين تونسي يستخدمون الفايسبوك، لكن إذا دقّقنا النظر في هذه الإحصائيات وحذفنا الحسابات المزدوجة والتونسيين بالخارج يمكن أن نقول أن هناك قرابة أربعة ملايين تونسي يستخدمون الفايسبوك.

والفايسبوك ينتمي إلى ما يسمّى الميديا الاجتماعية وهي كوكبة من المواقع والتطبيقات تتيح إمكانات متعددة وفريدة امتدت إلى كل أنشطة الحياة والمجتمع بما في ذلك البحث العلمي على سبيل المثال (أنظر مثلا موقع أكاديميا العالمي الذي يمثل يجمع أكثر من 50 مليون جامعي وباحث).

انتشر الفايسبوك بشكل كبير وأصبح موقعا شعبيا في العالم في حين تظل مواقع الميديا الاجتماعية الأخرى محدودة الاستخدام نسبيا في تونس بالرغم من أن موقع إنستاغرام هو في صعود ملحوظ خاصة لدى الشباب.

يستخدم في تونس وفي العالم العربي مصطلح «شبكات (مواقع) التواصل الاجتماعي» لوسم الفايسبوك والتطبيقات الشبيهة به ولا نجد لهذا المصطلح استخداما مشابها في العالم. ويتضمن هذا المصطلح مغالطة كبيرة لعدة اسباب لعل أهمها أنه يختزل استخدامات الفايسبوك المتنوعة في استخدام واحد أي «التواصل الاجتماعي في حين تستخدمه المؤسسات الحكومية والاقتصادية والأحزاب السياسية ومؤسسات الميديا والأوساط التربوية والأكاديمية والفنانين وكذلك.... الإرهابيين.

والواقع أن الفايسبوك والتطبيقات والمواقع الشبيهة به ذات استخدامات متنوعة لا يمكن حصرها في فئة معينة. فالفايسبوك صممه مبتكره للمراهقين لإدارة علاقاتهم الاجتماعية وليس للتواصل فيما بينهم وارتبط انتشاره بالإمكانات التي يتيحها لهم لتعزيز رأسمالهم الاجتماعي أي شبكة علاقاتهم الاجتماعية والإمكانات التي توفرها لهم.

والأخطر في استخدام مصطلح شبكات التواصل الاجتماعي أنه يخفي الطابع المؤسسي لهذه التطبيقات والمواقع وكأنها متحررة من الغايات التجارية التي صممت لأجلها.

فالفايسبوك موقع ككل المواقع الأخرى تديره شركة غايتها الأولى والأساسية ليس تحفيز التواصل الاجتماعي ودعم التفاهم الإنساني ولكن توفير خدمات لتحقيق أرباح. فالفايسبوك والميديا الاجتماعية من هذا المنظور مرتبط بصعود الرأسمالية الثقافية التي تقوم على سلعنة التجارب الاجتماعية وعلى الرأسمال الثقافي للناس وإدماجها في الحياة الاقتصادية وتحويلها إلى موارد للحصول على الإشهار.

وعلى هذا النحو فإن الفابسيوك هو جزء مما يسمّى أي مجموعة عمالقة صناعة الإنترنت GAFA التي تتكون كلها من غوغل وأبل وفايسبوك وآمازون ويمكن كذلك أن نضيف إليها ميكروسفت وتويتر، وكلها شركات أمريكية، تسيطر هذه على العالم الرقمي وتتحكم في النفاذ إليه بما أنها تتيح الأجهزة والمنصات والتطبيقات.

والفايسبوك من هذا المنظور تجسيد لا مثيل له لمفهوم العولمة، حتى ولو كان يسجننا أحيانا في عوالم ثقافية وهوياتية ولغوية ضيقة (سنعود إلى هذه المفارقة كيف يمكن للفايسبوك وهو رمز العولمة أن يعزز هوياتنا الضيقة في مقالات لاحقة ). لا يهتم الفايسبوك بما يتفاعل حوله الناس وما ينشرونه في فضاءاتهم لأنه على نحو ما يبحث عن ابتلاع البشرية كلها إن أمكن له ذلك في عالمه. يمكن أن تكون على صفحتك الشعبية التي يتابعها مئات الآلاف داعية نشط لهدم الرأسمالية الغربية وناقدا لا يشق لك غبار للعولمة ومدافعا شرسا عن الهوية والقيم الاصيلة أو حتى مناصرا للخلافة الإسلامية لكنك تقوم بكل هذا في الفايسبوك التي لا تمثل بالنسبة إليه سوى مستخدم ينتج تفاعلات Interactions تساهم في تغذية نشاطه الكوني الذي يقوم بفضله باستقطاب الإشهار.

وعلى نحو ما فإن الفايسبوك يشبه العالم الافتراضي الذي تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي جون بودريارد والذي ألهمت كتابته النقدية للتكنولوجيا فلم الماتريكس matrix : فنحن سجناء العالم التكنولوجي الذي يحاكي العالم الواقعي والذي يستخدمنا كطاقة له لسيتمرّ.

كثيرا ما يغيب عن مستخدمي الفايسبوك هذا الوعي بالطابع المؤسسي والصناعي والتجاري الربحي والإستراتيجي للفايسبوك المتصل بتطوّر الرأسمالية ويتعاملون معه وكأنه مجالا نشأ من فراغ أتاحته إرادة غير معلومة وهلامية لتعزيز التواصل البشري.

ما سبب شعبية الفايسبوك ؟
ثمة عدة اسباب يمكن أن تفسر شعبية الفايسبوك الذي يستخدمه قرابة المليارين من البشر كل شهر حسب آخر الإحصائيات (يوم 24 أوت 2015 استخدم فايسبوك مليار إنسان في نفس اليوم).

من الأسباب التي يتحدث عنها الباحثون يمكن أن نذكر طبيعة مواقع الميديا الاجتماعية والفايسبوك على وجه الخصوص التي تتشكل حول الفرد وليس حول الجماعات ( كالمنتديات) أو حول قضايا بعينها بل وضعت الفرد في المركز بل هي منظومات فردنة egocentric تسمح للجميع النجوم

والمغمورين أن يتجلّوا في المجال العام وأن يغادروا ظلمات الحياة الفردية وأن يحظوا بالاعتراف وبالظهور.

,وإذا كان لدمقرطة الظهور مزايا فهي أيضا يمكن أن تجعل من الفايسبوك فضاء الثرثرة مما جعل إمبرتو أيكو يقول أن الميديا الإجتماعية «أتاحت حق التعبير إلى جموع من الحمقى كانوا يتحدثون في الحانة بعد أن يحتسوا كأس نبيذ دون أن ينزعج منهم أحد لأنهم كانوا يصمتون كلما طلب منهم ذلك. أما الآن فإنهم متساوون في حق التعبير مع من تحصل على جائزة نوبل، إنه غزو الحمقى».

يمكن أن نبحث ايضا عن أسباب أخرى تفسر انتشار الفايسبوك وشعبيته منها ما هو مرتبط بسياسة المواقع التكنولوجية التي تتمثل في جعل الفايسبوك منصّة مفتوحة ومحايدة لا تفترض إكراهات تقنية: فيجد المستخدم نفسه بعد التسجيل أمام صفحة بيضاء يمكن أن يضع فيها ما تشاء. هكذا نفهم في هذا الإطار لماذا رفض الفايسبوك لفترة ما التعاون مع الحكومات لمقاومة الاستخدامات الإرهابية ثم ما يسمّى الأخبار الزائفة fakenews التي تعاظم تأثيرها على الحياة السياسية في الديمقراطيات الغربية.

وعلى هذا النحو يمكن أن تفعل ما تريد على الفايسبوك : تبيع، تشتري، تناصر قضية ما، تسرد وقائع حياتك اليومية وتفاصيلها التافهة، تعلن عن وفاة قريب أو عن زفاف ابن، تشتم، تنشر صور لوقائع حياتك اليومية وتكشف عن عالمك الذاتي الحميمي ، تعلن عن موقف ما إزاء شأن عظيمة، تتخاصم، تجامل تناجي الله، تناضل ضد «الغرب الكافر»، تدعو إلى الخلافة، تختفي وراء ملمح مزيف، تنقد، تختفي، تستمع إلى الموسيقى أو تنظر إلى الفيديوهات، أو تقضي وقتك في النظر إلى صور الآخرين وتتمعن في عالمهم وتقتفي آثار حياتهم....

وقد سعت البحوث الأكاديمية إلى فهم ما يدفع الناس إلى استخدام الفايسبوك وتوصلت إلى خلاصات طريفة لعل أهمها أن الفايسبوك إضافة إلى أنه يسمح لنا بإدارة علاقاتنا الاجتماعية والتحابب social grooming كتهنئة الأصدقاء بعيد الميلاد أو في المناسبات الدينية والاجتماعية
وكشفت البحوث الأكاديمية أن أنشطة الناس على الفايسبوك خاصة غير النشطة كالاكتفاء بالإطلاع على ما ينشره الآخرون من مضامين ذاتية أو من روابط نحو مواقع مؤشر على العزلة الاجتماعية أو بكل بساطة عن الضجر والملل.

وساهم انتشار الهواتف الذكية في إتاحة الفايسبوك والميديا الاجتماعية خاصة لدى الفئات الاجتماعية التي لا يمكن لها أن تقتني كمبيوتر مما عزز دمج الفايسبوك في الحياة الاجتماعية فتحول استخدامه إلى نشاط روتيني من أنشطة الحياة اليومية. فلا غرابة إذن أن نرى الناس يستخدمون الفايسبوك في كل وقت : في السيارة عند انتظار إشارات المرور أو في المقهى مع الأصدقاء في غرفة النوم أو في الحافلة أو حتى في القسم.... فالفايسبوك لم يصمم للمثقفين أو للنخب بل للناس العاديين وهو ليس ميديا بالمعنى التقليدي للكلمة بل فضاء تتشكل فيه أنشطة حياتنا الرقمية digital life الجديدة .

«ثورة الفايسبوك»
وقد ساهم التونسيون بشكل أو بآخر في شعبية الفايسبوك وفي الترويج له كموقع مرتبط بالثورات والحرية والتحرر السياسي فشعار «ثورة الفايسبوك» جعل من الموقع محرك الثورة والوسيلة التي بواسطتها سقط النظام السياسي السابق. وهي مقولة تختزل بشكل سيء ورديء أدوار الفايسبوك في أحداث الثورة التونسية وتفسيرها بشكل تبسيطي، أي أنها تختصر الصيرورة المعقدة التي أدت إلى التغيير السياسي في سبب بسيط وكأن الفايسبوك أداة سحرية يمكن أن تطوع إلى كل الغايات الممكنة في حين يرى فيه باحثون على غرار الباحث الأمريكي مارك لينش Marc Lynch أن الميديا الاجتماعية ساهمت في إفساد الانتقال الديمقراطي في مصر وتونس.

وروجت كذلك مقولة «ثورة الفايسبوك» بالمعنى التجاري للفايسبوك ، تلك الشركة التي حققت أكثر من 3 مليارات دولار ونصف عام 2015 من الأرباح، حتى أنها تكاد تختزل إيديولوجية الاتصال برمّتها، تلك الإيديولوجيا التي جعلت من الميديا الجديدة والإنترنت وثورة الاتصال والعولمة الاتصالية مطلب من مطالب التحديث والتقدم وإكراها من الإكراهات التي تسلط على الإنسان المعاصر أينما كان، وهي الإيديولوجيا التي ارتبطت موضوعيا بتعزيز صناعة الاتصال الأمريكية التي تتيح لنا البنية التحتية التواصلية التي نستخدمها اليوم.

هكذا يتبين لنا أن اسباب انتشار الفايسبوك وشعبيته متعددة المصادر ومرتبطة بسياق تطور التكنولوجيا والحداثة وبمسار العولمة الاتصالية، ذي القدرة على إدماج الناس حتى الذين يناهضونها، لكن أيضا بمصادر داخلية خاصة بالمجتمعات نفسها.

في هذا الإطار لا يمكن أن نفسر شعبية الفايسيوك في المجتمع التونسي دون الرجوع إلى السياق الداخلي. فالفايسبوك تحول إلى موقع شعبي لأن الإمكانات التي يتيحها مرتبطة كذلك بتحولات المجتمع التونسي، بالحريات السياسة والاجتماعية التي تتيح للتونسيين التعبير عن مواقفهم السياسية والفكرية وتحويل الفايسبوك إلى مجال للفعل السياسي وإظهار حياتهم الخاصة وعوالمهم الحميمية حتى في أدنى تفاصيلها.

كما يجب أن نفكر أيضا في ما يتيحه الفايسبوك في الحياة اليومية للتونسيين من إمكانات للترفيه ومتابعة الأحداث في سياق يتسم بقلة الإقبال على أنشطة أخرى كالمطالعة وقراءة الصحف وممارسة الرياضة وزيارة المتاحف وارتياد المسرح والسينما وكان الفايسبوك يعوض عن كل هذه الأنشطة غير المرغوب فيها او غير المتاحة تماما كما كان التلفزيون الوسيلة الوحيدة لاستهلاك الثقافة.

يجلس التونسيون ساعات طويلة إلى كمبيوتراتهم أو يستعلون هواتفهم ساعات لا حصر لها منغمسين في فضاء الفايسبوك لا يفارقونه حتى وإن كانوا مع الآخرين في البيت والمقهى أو في سهرة عائلية.... يتابعون أحداث البلاد عبر الفايسبوك ويشاركون فيها أحيانا بواسطة ألمحادثات والنقاشات التي لا نهاية لها حول كل شيء : المزاح حول موجة الحرارة التي اجتاحت بلادنا الأسبوع الماضي، التعليق على أخبار حملة مكافحة الفساد، تبادل التهاني بعيد الفطر وتهنئة الاصدقاء بنجاح أبنائهم في الباكلوريا أو بعيد ميلادهم.... في حين يكتب البعض الأخر تدوينات من نوع أخرى فكرية أو سياسية يعتقدون أنهم قادة رأي وأن ما يكتبونه من تدوينات ضروري حتى يفهم أصدقاؤهم عالمهم، تدوينات تحوز على إعجابات (like) متفاوتة وسريعا ما يغمرها سيل المضامين الذي لا يتوقف.

في المقابل فإن ما لا نقوم به هو التفكير في نتائج كل هذا علينا كأفراد وعلى عيشنا المشترك وإدراك هذا الفضاء الذي نسبح فيه بحرية (أو هكذا نعتقد) دون أن نفهم من يصممه ويشكله ومن يضع غاياته.
------------
• الصادق الحمامي: أستاذ محاضر بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار، له عدة مؤلفات في مجال الميديا والاتصال منها : «الميديا الجديدة»، منشورات جامعة منوبة 2012 والإعلام التونسي أفق جديد، دار بارسبكتيف للنشر 2012
الموقع : sadokhammami.com/ar
• الحلقة المقبلة : هل يمكن تنظيم (تعديل) الفايسوك ؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115