المحكمة الإدارية تصرح بعدم دستورية بعض أحكام قانون المحكمة الإدارية: عصام بن حسن - أستاذ محاضر بكلية الحقوق بصفاقس

صدر بتاريخ 15 ماي 2017 قرار استعجالي عن الدائرة التعقيبية الأولى بالمحكمة الإدارية أقرّ من خلاله القاضي الإداري بعدم دستورية أحكام قانون المحكمة الإدارية التي لا تحترم

مبدأ التقاضي على درجتين المكرس بالفصل 108 من دستور 27 جانفي 2017.

تتلخص وقائع هذه القضية في سقوط المتقاضي من سطح منزله. فتمّ إجراء عملية جراحية بمستشفى شارل نيكول على مستوى العمود الفقري، لكنّ حالته تعكّرت مباشرة إثر خروجه من غرفة العمليات بسبب عدم تطهير الجرح جيّدا من بقايا الدم الذي مسّ النخاع الشوكي نتيجة التدخل الجراحي، وهو ما جعل الفريق الطبي المباشر له يقرّر إخضاعه إلى عملية جراحية ثانية دون الحصول على موافقته أو موافقة عائلته، نتج عنها إصابته بشلل نصفي أقعده عن الحركة. فرفع قضيّة ابتدائية أمام المحكمة الإدارية انتهت بصدور الحكم عدد 126923 بتاريخ 6 جويلية 2015 عن الدائرة الابتدائية السابعة يقضي بإلزام المكلف العام بنزاعات الدولة في حق وزارة الصحة بأن يؤدي له مبلغا قدره تسعون ألف دينار لقاء ضرره البدني ومبلغا قدره ثلاثون ألف دينار بعنوان ضرره المعنوي والجمالي. فتقدّم إلى رئيسة الدائرة الاستئنافية الخامسة بالمحكمة الإدارية، بعد أن تمّ استئنافه لديها تحت عدد 211537، عارضا لها أنه مقعد عن الحركة وليس له أي مورد رزق وأنّ حالته الصحية تستوجب مصاريف للعلاج والمتابعة الطبيّة وشراء الأدوية باستمرار والقيام بحصص تدليك صحي، وهو ما يستوجب منه مصاريف كثيرة، وطلب منها على هذا الأساس أن تأذن له بإلزام وزارة الصحة بأن تدفع له تسبقة على الحساب قدرها أربعون ألف دينار من جملة الغرامات المحكوم بها لفائدته. فقضت رئيسة الدائرة الاستئنافية الخامسة بتاريخ 5 ديسمبر 2016 «بالإذن استعجاليا للمكلف العام بنزاعات الدولة في حق وزارة الصحة بأن يؤدي للطالب مبلغا قدره عشرون ألف دينار على الحساب يخصم من مقدار التعويضات المحكوم بها لفائدته بعنوان ضرره البدني في الطور الابتدائي بمقتضى الحكم الصادر عن الدائرة الابتدائية السابعة بالمحكمة الإدارية في القضية عدد 126923 بتاريخ 6 جويلية 2015».

فتمّ تقديم مطلب في نقض هذا الحكم الصادر عن رئيسة الدائرة الاستئنافية الخامسة أمام الدائرة التعقيبية الأولى. فذكّر قاضي التعقيب في البداية بأحكام الفصل 85 من قانون غرة جوان 1972 المتعلق بالمحكمة الإدارية والذي ينص على أنه لا تقبل الاستئناف الأذون الصادرة عن رؤساء الدوائر الاستئنافية، مما يلزم الدائرة التعقيبية بأن ترفض، تطبيقا لأحكام قانون المحكمة الإدارية، النظر في هذه القضية لأن القرار الصادر عن رئيسة الدائرة الإستئنافية لا يمكن النظر فيه أمام الدوائر التعقيبية.

لكن الدائرة التعقيبية الأولى أقرّت أنه من تاريخ دخول دستور الجمهورية التونسية الصادر في 27 جانفي 2014، صارت أحكام الفصل 85 من قانون المحكمة الإدارية لا تتلاءم مع مقتضيات الفقرة الثانية للفصل 108 من الدستور التي تنصّ على أن القانون يضمن التقاضي على درجتين. وأضافت المحكمة «أنّ مبدأ التقاضي على درجتين الذي اقتضاه الدستور التونسي يعدّ أحد الحقوق الأساسية التي كفلها الدستور للمتقاضي، كما يندرج في إطار المعايير الدولية للمحاكمة العادلة والتي لا بد للقاضي أن يسعى إلى تحقيقها، في حدود الامكانيات المتاحة له، والحال أنّ المشرّع سكت عن هذا الحق مدة تتجاوز الأجل المعقول من تاريخ دخول الدستور حيز النفاذ.

وحيث أنّ القاضي مطالب بإيصال الحقوق إلى أصحابها، وبإعمال اجتهاده في إطار النصوص النافذة واحترام هرم النصوص القانونية وضمان علوية الدستور، عملا بأحكام الفصل 102 من هذا الأخير التي جعلت من «القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات.

وحيث طالما أنّ الاجراءات في مادة الأذون الاستعجالية هي إجراءات مبسّطة تقوم بالأساس على اختصار الآجال وضرورة احترام مبدأ المواجهة، فإنّ عدم تدخّل المشرع لضمان هذا الحق الدستوري في التقاضي على درجتين، لا يحول دون إمكانية نظر هذه الدائرة في المطلب الراهن طالما أنّ جميع المعطيات والشروط القانونية لضمان مبدأ المحاكمة العادلة، ومنها على وجه الخصوص، المواجهة، متوفّرة وتمّ احترامها».

تفرز قراءة هذه الحيثية الهامة للمحكمة الإدارية أربع ملاحظات على الأقل:
الملاحظة الأولى: لقد سبق للمحكمة الإدارية بعد 2011 بأن نظرت في دستورية بعض القوانين بمناسبة نزاع معروض أمامها. فقد أقرت الجلسة العامة القضائية بالمحكمة الإدارية منذ 7 نوفمبر 2013 باختصاصها بالنظر في دستورية القوانين عن طريق الدفع معتبرة أنه «لئن كان دور القاضي الإداري يتمثل في التثبّت من مدى حسن تطبيق القانون، فإنّه من واجبه في غياب محكمة دستوريّة تبتّ بصفة أصليّة في مطابقة القانون للدستور، النظر في مدى احترام النص التشريعي لمصادر القانون التي تعلوه والمتمثلة في الدستور والمبادئ الأساسيّة ذات القيمة الدستوريّة وكذلك المعاهدات النافذة ليخلص عند الاقتضاء إلى استبعاده كلما تمّ الدفع بذلك أمامه». كما راقبت المحكمة دستورية بعض أحكام القانون الإنتخابي المؤرخ في 26 ماي 2014 وذلك في الحكم عدد 6 بتاريخ 10 أكتوبر 2014. وفضلا عن ذلك فقد جاء في القرار التعقيبي عدد 314524 بتاريخ 31 ماي 2016 أنه «طالما لم يسبق لقاض دستوري أن بتّ في دستورية الفصل 105 من القانون عدد 30 لسنة 1960 والمتعلق بتنظيم أنظمة الضمان الاجتماعي، و بما أنه لا يمكن لهذه المحكمة في ظلّ عدم استكمال تركيبة المحكمة الدستورية إيقاف النظر في النزاع الماثل وإحالة الإشكال الدستوريّ عليها عملا بأحكام الفقرة الرابعة من الفصل 120 من الدستور، فقد تعين إقرار اختصاص هذه المحكمة في النظر في دستورية الفصل المذكور. وأضافت المحكمة أنه ولئن تمنع إجراءات التعقيب إثارة مطعن قانوني لأوّل مرّة في هذا الطور، فإنّ التمسّك بعدم دستوريّة القانون بوجه الدفع يعتبر من متعلّقات النظام العام، ضرورة أنّ الدستور يحتلّ المرتبة الأعلى في هرم القواعد القانونية، و يشكّل ركنا أساسيّا من أركان الجمهوريّة ومقوّما جوهريّا من مقوّمات دولة القانون».

بيد أنه لا بد من الإشارة أن المحكمة ولئن راقبت في مجمل هذه القضايا دستورية بعض القوانين، فإنها أقرت عدم تعارضها مع الدستور خلافا للقضية الحالية المؤرخة في 15 ماي 2017 والتي أكدت من خلالها الدائرة التعقيبيّة الأولى عدم دستورية الفصل 85 من قانون المحكمة الإدارية بالنظر لمخالفته لأحكام الفصل 108 من الدستور. كما أنه لا بد من التأكيد أنه وخلافا للقضايا الأخرى نظرت المحكمة الإدارية في هذه القضية في دستورية القوانين عن طريق الدفه بصفة أصلية وليس بإثارة من أحد أطراف القضية وهو ما ينسجم مع ما سبق أن أكدته الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وكذلك المحكمة الإدارية في قرار 31 ماي 2016 من أن مخالفة النص التشريعي لحكم دستوري يعتبر من متعلقات النظام العام.

الملاحظة الثانية: لقد طبقت المحكمة الإدارية في هذه القضية الفقرة الثانية من الفصل 108 من الدستور والذي تِؤكد على أن القانون يضمن التقاضي على درجتين. وبالرجوع لأحكام الفصل 148 ثانيا من الدستور في مطته الثالثة نجده ينص على أنه «تدخل أحكام الفصل الأول من الباب الخامس المخصص للقضاء العدلي والإداري والمالي باستثناء الفصول من 108 إلى 111 حيز النفاذ عند استكمال تركيبة المجلس الأعلى للقضاء». وعليه، وبخلاف جلّ أحكام القسم الأول التي لا تدخل حيزّ النفاذ إلا عند استكمال تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، فإن أحكام الفصول 108- 111 من الدستور تدخل حيز النفاذ مباشرة وذلك لتعلقها بالحقوق الأساسية للمتقاضين. وبالتالي يكون القاضي الإداري أمام أحكام دستورية نافذة تكرس مبدأ التقاضي على درجتين وأحكام تشريعية نافذة منصوص عليها بقانون المحكمة الإدارية تقرّ بعدم جواز استئناف بعض الأحكام الصادرة في المادة الإستعجالية. فماذا سيطبق القاضي؟

أجابت المحكمة بأن القاضي مطالب بإيصال الحقوق إلى أصحابها، وبإعمال اجتهاده في إطار النصوص النافذة واحترام هرم النصوص القانونية وضمان علوية الدستور، عملا بأحكام الفصل 102 من هذا الأخير التي جعلت من «القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات»، مما يفرض على القاضي تطبيق النص الأعلى درجة عند تعارض النصوص المنطبقة على النزاع. فعلوّ الدستور على سائر التشريعات الأخرى يعني إعمال حكم الدستور باعتباره النص الأعلى. فقد أكد القاضي الأمريكي مارشال منذ 1802 أنه لئن كان من واجب القاضي تطبيق القانون، فعليه التحقق من القانون المراد تطبيقه. فإذا ثبت للمحكمة أن القانون المراد تطبيقه مخالف للدستور الذي هو أعلى تشريع في الدولة فلها أن تمتنع عن تطبيق هذا القانون. ولا يعتبر ذلك تدخلا في صميم العمل التشريعي لأن السلطة التشريعية ينتهي دورها بإصدار القانون ويأتي الدور بعد ذلك للسلطة القضائية صاحبة الولاية في تطبيق القانون عند حدوث النزاعات والتي من واجبها إقامة العدل بين الأفراد. فكيف لها إيجاد العدل وهي تطبق قوانين غير عادلة؟

الملاحظة الثالثة: قد يكون لهذا القرار تبعات هامة وربما خطيرة حسب البعض باعتبارها وحسب الأحكام الإنتقالية للدستور، فأنه من تاريخ استكمال تركيبة المجلس الأعلى للقضاء فإن كل الأحكام المتعلقة بالقضاء العدلي والإداري والمالي ستدخل حيز التنفيذ. وفي هذه الحالة يمكن للقاضي الإداري أن يصرح بعدم دستورية بعض أحكام قانون المحكمة الإدارية المخالفة للدستور كتلك التي تمنح للقضاء العدلي النظر في نزاعات إدارية أصيلة كالنزاعات المتعلقة بالإنتزاع للمصلحة العامة وكذلك النزاعات الجبائية، مما قد يفرز حالات تنازع اختصاص بين القاضي العدلي ونظيره الإداري.

الملاحظة الرابعة: لا جدال أن الفصل 85 من قانون المحكمة الإدارية والذي يمنع استئناف بعض الأذون الإستعجالية يتعارض مع أحكام الفصل 108 من الدستور الذي يقر بمبدأ التقاضي على درجتين. لكن هل يملك قاضي التعقيب في هذه الحالة أن يسند لنفسه اختصاصا دون أن يقر له القانون بذلك؟ ألا تؤوّل النصوص المسندة للإختصاص تأويلا ضيقا؟ كيف يقرّ قاضي التعقيب في هذه القضية بصلاحية البت في الأحكام الصادرة عن رؤساء الدوائر الإستئنافية والحال أن هذا الإختصاص لم يسنده له أي نص قانوني؟ ألم ينص الفصل 116 من الدستور على أن القانون هو الذي يضبط اختصاصات القضاء الإداري؟

في الواقع لم تتقيد المحكمة الإدارية حتى في عهد الإستبداد بالإختصاص الضيق التي أرادت السلطة أن تحصرها في حدوده. فأقرت لنفسها بالنظر في الدفع بعدم شرعية الأوامر الترتيبية التي كانت تصدر عن رئيس الجمهورية بالرغم من تحصينها من دعوى تجاوز السلطة. كما لم يتوانى القاضي الإداري عن اعلان اختصاصه بالنظر في نزاعات المنشآت العامة بالرغم من اسناد الإختصاص بصورة صريحة للقاضي العدلي في هذا المجال.

ويبدو أن الأمر لا يقتصر على القاضي الإداري، فقد أصدرت محكمة الإستئناف بتونس قرارا إستئنافيا إستعجاليا بتاريخ 4 افريل 2014 استندت فيه صراحة إلى الفصل 108 من الدستور لتقرّ للمستأنفين حقّهم في الرّجوع في الأذون الصادرة عن القاضي المراقب لأعمال الإئتمان مؤكدة «الإعتراف لكل ذي صفة ومصلحة بالحق في مناقشة ما يصدر من قرارات قضائية قد تمسّ بحقوقه وإنكار هذا الحق هو إنكار لحق التقاضي». وعليه فقد تبنى القاضي العدلي مفهوما موسعا ربط من خلاله بين الحق في التقاضي والحق في استئناف الأحكام القضائية الإبتدائية الدرجة.

يبقى نجاح تجربة القضاء في تونس رهين استيعاب السلط في الدولة لفكرة الرقابة وقبولها للسلط المضادة، بما يتناغم مع ما ورد بمقدمة ابن خلدون في الفصل المتعلق بالظلم مؤذن بخراب العمران والذي جاء فيه أن قدرة الظالم هي اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة. بيد أنه لا بد من الإقرار أن المسألة تتجاوز الشأن الدستوري والقانوني وتتطلب أرضية فكرية وإجتماعية وخاصة سياسية تؤمن بالسلط المضادة وبالأجهزة الرقابية وتنبع من الفكر التنويري لبلادنا التي دخلت الحداثة القانونية وحققت سبقا تاريخيا. وهذه الحداثة المسنودة من فقه القضاء وخاصة الإداري، أهّلها لتتبوّأ موقعا متميزا في المنطقة العربية .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115