هل تنتقل الحرب الباردة إلى الشبكات الاجتماعية ؟

تعيش الولايات المتحدة الأمريكية على وقع التحقيق الذي قرر الكنغرس فتحه حول علاقة الرئيس ترامب بالسلطات الروسية ومدى تدخلها في الانتخابات الأمريكية الأخيرة وأهمية التأثير الذي مارسته على نتائج

هذه الانتخابات. لنعد قليلا إلى الوراء وبصفة خاصة إلى نهاية الحملة الانتخابية الأمريكية في نهاية سنة 2016 فقد عرفت هذه الفترة عديد التسريبات التي أكد العديد من الملاحظين أنها رجحت كفة المترشح الجمهوري دونالد ترامب أمام هيلاري كلينتون مرشحة الديمقراطي.

وهذه التسريبات كانت نتيجة لعملية اختراق وقرصنة على أعلى مستوى قامت بها إحدى المؤسسات المعروفة للمخابرات وقد نجحت مؤسسة Fancy Bear في اختراق المراسلات الالكترونية للحزب الديمقراطي وبصفة خاصة للجنة الانتخابات في الحزب.وتشير هذه الرسائل إلى محاولات قيادة الحزب التأثير على الانتخابات داخل الحزب لاختيار مرشحهم للرئاسية.وقد عملت قيادة الحزب على دعم وترجيح كفة هيلاري كلينتون أمام صاندورز لقناعتهم بأنها أكثر قدرة على هزم مرشح الحزب الجمهوري.وقد ساهم هذا الاختراق وترويج هاته المرسلات على نطاق واسع في التقليص من حظوظ هيلاري كلينتون بتقديمها على أنها مرشحة النخبة المنقطعة عن واقع الطبقات الشعبية ودعم غريمها دونالد ترامب وتقديمه على انه المرشح الحقيقي لهذه الطبقات والتي عانت من هيمنة النخب المعولمة ومن سياساتها خلقت هذه الأحداث كثيرا من الشك حول تأثير الأجهزة الروسية على الحياة السياسية الأمريكية وبصفة خاصة على الانتخابات الرئاسية والتي تشكل احد أهم مظاهر الحياة الديمقراطية الأمريكية ان لم نقل اهمه.وقد وصل الخبراء في الانترنت بسرعة لتحديد طبيعة المجموعات التي قامت بهذه الاختراقات أو القرصنة.وترتكز عملية التحديد على جانبين – الجانب الاول هو سياسي ويهم الأهداف التي تحددها هذه المجموعات لعمل القرصنة وبصفة خاصة مجموعة Fany Bear وcosy Bear والتي هاجمت بصفة خاصة الدول والمنظمات والهيئات المعادية لروسيا وللرئيس بوتين.أما الجانب الثاني في تحديد هذه المجموعات فيهم عديد المعطيات الفنية كنقطة انطلاق عملية القرصنة والتقنيات المستعملة وساعة القرصنة إلى غير ذلك من الخصائص الفنية والتقنية الأخرى. وقد اجمع الخبراء من خلال دراسة هذه المعطيات بما لا يدع للشك على أن مصدر هذه القرصنة والاختراقات هي الأجهزة الروسية والتي تحاول التأثير في السياسة لصالحها ولدعم مصالحها .وقد أكد عديد المراقبين والأخصائيين أن هذه العمليات تدخل في إطار الجوسسة والتي بدأت تدخل العالم الافتراضي وتنتقل في عالم الشبكات الاجتماعية أو عالم 2.0. وقد اعتبر بعض الملاحظين أن هذه الحرب الافتراضية تشكل عودة إلى عالم الحرب الباردة والتي تراجعت رحاها منذ سقوط جدار برلين سنة 1889 ونهاية الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية – وقد اصدر أستاذ العلوم السياسية Robert Legvold في جامعة كولومبيا الشهيرة في نيويورك كتابا هاما اسماه «Return to old war» أو «عودة للحرب الباردة» منذ أشهر قليلة.وأشار الكتاب أن الحرب الافتراضية وعديد عمليات القرصنة والجوسسة وصلت مستوى لم تعرفه منذ نهاية الحرب الباردة.وبالتالي فان هذه الحرب الجديدة قد تفتح حالة جديدة من الاحتقان والعودة إلى مربع العنف بين الغريمين التقليديين اي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.وقد أعادتنا هذه المشاحنات إلى ظروف الحرب الباردة التي وضعت العالم على حافة حرب عالمية جديدة لعقود طويلة.وقد انطلقت الحرب الباردة اثر نهاية الحرب العالمية الثانية وتقسيم العالم إلى معسكرين. المعسكر الاشتراكي تحت زعامة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الرأسمالي تحت زعامة الولايات المتحدة الأمريكية.وقد شهدت هذه المرحلة التاريخية فترة من التنافس بين المعسكرين.وسعى كل معسكر إلى بسط هيمنته وتوسيعها على عديد المستويات منها السياسي والعسكري والاقتصادي وقد وصل هذا التنافس وهذا الصراع مستوى على درجة كبيرة من الخطورة مهددا بذلك السلم العالمية.وكان العالم على شفا حفرة من حرب عالمية جديدة في عديد المناسبات كأزمة برلين مباشرة اثر نهاية الحرب العالمية الثانية وأزمة كوبا ونشر الصواريخ السوفياتية هناك وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة تهديدا مباشرا لأمنها كما يمكن أن نشير كذلك إلى التدخل السوفياتي في أفغانستان والتي كادت أن تتحول إلى أزمة عالمية وقد نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في تجنب التدخل المباشر وقامت بدعم الحركات الإسلامية المسلحة والتي واجهت الجيش الأحمر في حرب ضروس انتهت بهزيمته وانسحابها تاركة المجال لطالبان وأممية الإرهاب بالاستقرار هناك والانطلاق من هذه القاعدة لتنظيم حربهم الإرهابية ضد العالم الحر وسيكون حليف الأمس أي الولايات المتحدة الأمريكية احد أهم ضحايا هذا الإرهاب منذ اعتداءات 11 سبتمبر 2001.

وكانت هذه الحرب الباردة وراء النمو الكبير الذي عرفته الترسانة العسكرية وصناعة السلاح في العالم.ولم تقتصر هذه الترسانة على الأسلحة الكلاسيكية بل شملت نموا كبيرا للأسلحة النووية والتي ستزرع الرعب والخوف في العالم.وسيعيش العالم سنوات صعبة أمام توازن الرعب الذي ستخلفه الحرب الباردة والذي سيكون وراء هيمنة الخوف والحذر على العلاقات الدولية .

وقد عرف العالم في هذه الفترة نموا كبيرا لحركة الجوسسة بين المعسكرين .وقد تمكن رجل المخابرات البريطانية العقيد جامس بوند او العميل 007 في أفلامه من تجسيد هذه الوضعية الصعبة التي مر بها العالم من حالة اللاحرب واللاسلم.

ولن يتراجع هذا الخوف إلا مع سقوط الاتحاد السوفياتي مع انهيار جدار برلين في 1989 وانتهاء المنظومة الاشتراكية والتي شكلت احد قطبي الصراع الدولي.وقد شهدت هذه المرحلة الجديدة تراجع الصراع العالمي وعمليات الجوسسة لتبرز إمكانية بناء عالم جديد أو نهاية العالم القديم كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الأمريكي فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ ليبرز عالم جديد مبني على التوافق.

إلا أن هذا الحلم سرعان ما تبخر لتعود الصراعات بين الدول وبصفة خاصة القوى العظمى لتطفو من جديد على السطح وتهدد من جديد السلم العالمية فأصبحت الخلافات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والبلدان الصاعدة الآخرى محلّ انشغال كبير على المستوى العالمي ورجعت عمليات الجوسسة والقرصنة لتطفو على السطح من جديد وتهدد الأمن والسلام العالميين. والى جانب الأسلحة التقليدية ستعرف هذه «الحرب الباردة الجديدة» ظهور مجالات جديدة للصراع والهيمنة.ولعلّ أهمها هو الشبكة الاجتماعية والانترنيت والتي ستستغلها أجهزة المخابرات والجوسسة اكبر استغلال وتعتبر الحرب التي شنتها الأجهزة القريبة من المخابرات الروسية على الحزب الديمقراطي إبان الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة احد فصول هذه المعركة والحرب الجديدة.

ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو كيفية التعاطي مع هذه الحرب وعمليات الاختراق والقرصنة الافتراضية ؟ وللإجابة عن هذا السؤال يمكن أن نشير إلى الإستراتيجيتين – الإستراتيجية الأولى هي هجومية وترتكز على ضرورة الرد على هذه العمليات بعملية قرصنة بنفس المستوى أو بأكثر حدة.ويمكن لبلدان كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية تطبيق هذه الإستراتيجية وخوض هذه الحرب باعتبار إمكانياتها التقنية أما الإستراتيجية الثانية فتكمن في اجتناب هذه الحروب والمراهنة على الاتفاقات الدولية لتجاوز الخلافات والصراعات. ويبدو أن عديد البلدان الكبرى ومن ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية قد اختارت هذا الطريق ولعلّ أهم تجربة في هذا المجال هي الاتفاق الذي وصلت إليه الصين والولايات المتحدة الأمريكية في مجال الجوسسة الافتراضية .فبعد سنوات من الحرب الافتراضية وصل البلدان إلى اتفاق في سبتمبر 2015 يلتزمان بموجبه بعدم دعم أي جوسسة افتراضية في المجال الاقتصادي . وتراهن عديد الدول الكبرى منذ هذا التاريخ على التعاطي مع هذه الحروب الجديدة بطريقة قانونية ورفض إشعال فتيل الحرب ولو كان افتراضيا.

إنّ هذه الحروب الافتراضية تشير إلى أنّه وان كانت الشبكة الاجتماعية والانترنت مجالا كبيرا لفرض الحريات الشخصية وللخروج وكسر قيود عالم الحداثة فانه عالم لا يخلو من المخاطر والصراع ومحاولات الهيمنة.وقد عرفت بلادنا تجربة قاسية مع الشبكات الاجتماعية في حربنا على الإرهاب باعتبار أن هذه الحركات استعملت هذه الآلية الجديدة في التواصل والقيام بعملياتها الإجرامية.وبالتالي وان نحن ندعو إلى توسيع هامش الحرية على الشبكة فانه لابدّ من أن نكون حذرين لتجاوز أخطارها وتحدياتها وجعلها مجالا رحبا للتعبير عن الحرية والسلم والديمقراطية والتعايش بين البلدان والشعوب .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115