خمسون سنة على حرب 67: الهزيمة وبداية الاستبداد

كانت الساعة تشير إلى السابعة و45 دقيقة صباحا يوم 5 جوان1967 (منذ خمسين سنة خلت) عندما انطلقت الطائرات الحربية الإسرائيلية فوق المجال الجوي المصري لتبدأ ما أسمته القوات الإسرائيلية حربا

استباقية ضد القوات المصرية.اختيار هذا الوقت لبدء الهجوم من قبل القوات الإسرائيلية لم يكن بمحض الصدفة بل كان توقيتا اختارته المخابرات الإسرائيلية بكل دقة باعتبار الوقت الذي تعود فيه الطائرات المصرية لقواعدها بعد جولتها الاستطلاعية ويركن فيه الطيارون لقليل من الراحة وقد اغتنمت القوات الإسرائيلية عاملين أساسيين ليكون عامل المفاجأة كاملا ولتتمكن من تحقيق أكبر خسائر بالقوات المصرية.العامل الأول هو تعمدها الطيران على علو منخفض حتى لا تتمكن أجهزة الرادار المصرية والمراقبة الجوية من رصدها والعامل الثاني يكمن في كون الجيش المصري لم يحصل على طائرات مقاتلة متطورة من الاتحاد السوفياتي وأن الطاقات الدفاعية المصرية كانت محدودة وغير متطورة.

ستقوم الطائرات الإسرائيلية في هذا اليوم الذي سيبقى أسوأ يوم في التاريخ العربي المعاصر ب500 هجمة ستتمكن فيها من تحطيم 309 طائرة حربية مصرية من مجموع 340 طائرة على الأرض.كان هذا النجاح منقطع النظير بالنسبة للقوات الإسرائيلية التي لم تخسر في هذا اليوم إلا 19 طائرة لأسباب فنية وليس خلال المعارك.

وقد استغلت القوات الإسرائيلية هذا النجاح وتدمير سلاح الجو المصري في الأرض لتدفع بـ 70.000 ألف جندي و700 دبابة لمهاجمة الجيش المصري المرابط في سيناء- وأمام غياب التغطية الجوية فقد تراجع الجيش المصري بطريقة فوضوية وهرب من أرض المعركة فاسحا المجال للجيش الإسرائيلي للسيطرة على سيناء واحتلالها بالكامل.

لكن المذهل أن الإذاعة المصرية وبصفة خاصة صوت العرب أعلنت منذ بداية النهار بداية العمليات العسكرية وأشارت إلى تحقيق انتصارات كبرى حققتها القوات المصرية والتي أخذت طريقها وبدأت تتقدم نحو تل أبيب.فخرج الناس إلى الشوارع في القاهرة وفي كل المدن المصرية والعربية للاحتفاء بهذا النصر المبين.وتواصلت هذه الاحتفالات كامل اليوم وحتى اليوم الثاني للحرب.إلا أن هذا الفرح بدأ يخبو مع تواتر الأخبار والأنباء حول تراجع الجيوش العربية وبداية الهزيمة ليتحول الفرح إلى غضب وإحباط وشعور بالخيبة لن تمحى ملامحه إلى يومنا هذا.

بدايات هذه الحرب انطلقت مباشرة بعد الاعتداء الثلاثي سنة 1956 الذي قامت به فرنسا وبريطانيا العظمى وإسرائيل ضد مصر بعد قرار تأميم القناة من قبل جمال عبد الناصر.وبالرغم من الهزيمة العسكرية فقد تمكنت القيادة المصرية من الحصول على دعم سياسي كبير على المستوى العالمي ساهم في إعطاء مشروعية كبيرة لا فقط للقيادة المصرية بل كذلك للقوى السياسية القومية بكل أطيافها والتي ستصبح القوى الأساسية للمرحلة الوطنية فبعد فترة قصيرة من الهدوء رجعت المناورات العسكرية والعمليات منذ بداية الستينات .وتصاعدت المطالب الشعبية من أجل التحرير ومواجهة العدو الصهيوني وقام جمال عبد الناصر بتجميع القوى المصرية في سيناء في ماي 1967 وطالب الولايات المتحدة بإعادة انتشار قواتها .وفي نفس الوقت أعلنت دول المواجهة دعمها لمصر في المعركة القادمة .فقامت سوريا ومصر بإمضاء معاهدة دفاع مشترك سنة 1966.تلتزم بمقتضاها كل دولة بالتدخل على الأخرى في صورة اعتداء أجنبي –كما قامت مصر بإمضاء اتفاقية أخرى للدفاع المشترك أيام قليلة قبل بداية الحرب بالضبط يوم 30 ماي 1967.

إلا أن قرار ناصر بغلق مضيق تيران أمام البواخر الإسرائيلية في 23 ماي 1967 سيكون نقطة التحول التي دفعت العدو الإسرائيلي للهجوم والقيام بحرب استباقية لم تكن مضمونة النتائج حتى بالنسبة للقادة الإسرائيليين. ويبدو أن قرار الدخول في الحرب قد فرضته القيادات العسكرية في الجيش الإسرائيلي على القيادة السياسية ليقع تعيين أحد قادة الجيش موشي دايان كوزير للدفاع وهو ما اعتبره الملاحظون إعدادا وبداية تحضير للحرب.

كل هذه التحضيرات والإعداد السياسي والعسكري قادت قيادة الجيش إلى إطلاق هذه الحرب صباح 05 جوان 1967 وبعد الهجوم والتقدم غير المتوقع على الجبهة المصرية ستطلق إسرائيل عملياتها على الضفة الغربية لتسيطر عليها يوم 7 جوان وتسيطر كليا على مدينة القدس وتقبل الأردن وقف إطلاق النار في نفس اليوم.

وسيواصل الجيش الإسرائيلي عملياته على الجبهة السورية وستقرر القيادة العسكرية المرور إلى عمليات أرضية والتوغل في الأرض للاستيلاء على مرتفعات الجولان يوم 9 جوان.ولم تكن نتائج الجيش الإسرائيلي على هذه الجبهة بنفس الأهمية كالتي تم تحقيقها في الجبهات الأخرى .إلا أن القيادة السورية طالبت من الغد الجيش بالانسحاب مما سمح للجيش الإسرائيلي بالتقدم والسيطرة على مرتفعات الجولان بدون مقاومة وسط هروب وتقهقر القوات السورية وقبلت سوريا وقف إطلاق النار في نفس اليوم بعد أن قبلته مصر يوم 8 جوان 1967.وهكذا انتهت هذه الحرب بعد ستة أيام من انطلاقتها بهزيمة مشينة ومخزية للجيوش العربية.ففي اقل من أسبوع تمكنت إسرائيل من التوسع وأصبحت مساحتها اكبر بثلاثة أضعاف مساحتها قبل الحرب بعد سيطرتها على شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة ومرتفعات الجولان والضفة الغربية وكامل القدس.

كانت هذه الهزيمة صدمة كبيرة للشعوب العربية التي كانت واثقة من قدرة الأنظمة الوطنية على هزم إسرائيل وعلى إعادة حقوق الشعب الفلسطيني وبناء دولته الوطنية وظهر جمال عبد الناصر يوم 9 جوان ليعلن هزيمة الجيوش العربية وتحمله مسؤولية هذه الهزيمة ويقرر الاستقالة من كل مسؤولياته الرسمية .إلا أن آلاف الناس خرجوا في نفس اليوم في مسيرات عفوية جابت شوارع القاهرة واهم المدن المصرية لتطالبه بالتراجع عن قراره والاستعداد للحرب من جديد لتحرير الأراضي المغتصبة.

وقد نجح المخرج الكبير يوسف شاهين في تصوير الوضع الذي عاشته مصر في فترة ما قبل الحرب في شريطه الكبير» العصفور «فقد قدم شاهين صورة عن المجتمع المصري في تلك الفترة وأكد على حالة الفساد الشائع والتي قادت إلى الهزيمة .واتى المخرج على المظاهرات التي خرجت في الشوارع لإثناء الريّس عن الاستقالة لينتهي الشريط على أغنية الشيخ إمام عيسى الشهيرة» مصر يمّا يابهية» نجح الشريط والمخرج بحسه الفني والسياسي في تصوير خلجات الشعب المصري والأمل الكبير الذي خلقته القوى الوطنية في قدرتها على محاربة التخلف ومواجهة الاستعمار .ليتحول هذا الأمل إلى إحباط وقنوط وخيبة أمل لا مثيل لها ميزت التاريخ العربي المعاصر إلى حد الثورات العربية الأخيرة التي نجحت في دحر شيء من اليأس والمرارة التي خلفتها هذه الهزيمة.

لملمت الأنظمة العربية شيئا من جراحها ونظمت الجامعة العربية مؤتمر قمة في سبتمبر 1967 في الخرطوم والذي عرف بمؤتمر اللاءات الثلاث حيث أكدت هذه الأنظمة رفضها للسلم مع إسرائيل والاعتراف بها والمفاوضة معها.

إلا أنه وبالرغم من هذا المؤتمر وتأكيد الأنظمة العربية على إعداد العدة للمواجهة القادمة مع العدو للصهيوني فان هزيمة 1967 كانت نهاية حقبة وبداية أزمة الدولة الوطنية ومشروعها التحديثي وستفتح صفحة هامة من الأزمات والمواجهات بين الأنظمة والشعوب العربية والتي تواصلت إلى حد الثورات العربية مع سقوط هذه الأنظمة.

فقد أشارت هذه الهزيمة إلى الأزمة العميقة للمشروع الوطني وعجزه عن بناء البرنامج الوطني الحداثي الذي أكدت مختلف القوى الوطنية انحيازها له منذ مرحلة الكفاح الوطني والمعركة ضد الاستعمار. وقد أشارت إلى أن أحد أسباب السيطرة الاستعمارية في بلادنا هي فشل الثورات الإصلاحية وحركة النهضة العربية في القرن التاسع عشر ونتج عن هذا الفشل هيمنة الفكر التقليدي والهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية البالية والتي لعبت دورا كبيرا في خروج بلداننا من التاريخ.إذن تكمن أسباب الهيمنة الاستعمارية والى جانب التوسع الامبرالي في أسباب داخلية عميقة من ضمنها التأخر الاقتصادي وهيمنة هياكل ومؤسسات سياسية واجتماعية جالية.

وهذه العودة دفعت اغلب مكونات الحركة الوطنية وحركة التحرر العربية إلى جعل برنامج التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي مرادفا هاما وأساسيا لبرنامج التحرر الوطني وخروج المستعمر وقد انطلقت اغلب حركات التحرر الوطني والتي وصلت إلى السلطة في اغلب البلدان العربية في الخمسينات اثر الاستقلال.

إلا أن هذا البند ومع التأكيد على أهمية الثورة والتغيير التي قام به على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فقد اقتصر مشروعه على الجانب التحديثي وأهمل الجانب السياسي ومسالة الحريات فاقترن مشروع الحداثي بالدولة القوية والتي ستنتقل تدريجيا إلى موقع الاستبداد.

وكانت هزيمة 1967 نقطة تحول تاريخية وهامة في المسار التاريخي للبرنامج الوطني فقد ابرزت للعيان هنات البرنامج الوطني وعجزه على انجاز برنامج التحرر الوطني الذي اخذ على عاتقه مواصلة تحقيقه وبصفة خاصة تمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية وبناء دولته .

ومنذ هذه الهزيمة ومع تنامي النقد والمعارضة للمشروع الوطني والأنظمة الوطنية سيزداد الاستبداد وسيكون التضييق على الحريات والديمقراطية هي الردّ الذي ستقدمه هذه الأنظمة أمام عجزها المتواصل وتزايد أزماتها الاقتصادية بصفة خاصة منذ بداية الثمانينات وستكون بالتالي هزيمة 1967 نقطة تحول كبرى في التاريخ السياسي المعاصر للمنطقة فعجز الأنظمة وتزايد أزماتها سيفتح مزيدا من الاستبداد والقمع وخنق الحريات.

وستعرف البلدان العربية نموا كبيرا للمعارضة السياسية والتي ستوجه نقدا كبيرا للأنظمة الوطنية وستطرح نفسها كبديل سياسي لها- وهنا نودّ التأكيد على الثلاثة بدائل التي قدمتها الأحزاب والحركات السياسية لتجاوز أزمة الأنظمة الوطنية وعجزها المتواصل .

المشروع الأول هو الذي حملته قوى اليسار الجديد والتي ظهرت في منتصف الستينات لتصبح قوى هامة منذ ثورات الشباب في ماي 1968 في فرنسا ومناهضة حرب الفيتنام.ومن ضمن هذه القوى نذكر حركة برسبكتيف العامل التونسي وحركة 23 مارس والى الإمام في المغرب وتنظيمات الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية في الثورة الفلسطينية وغيرها من التنظيمات الشبابية الثورية.ودافعت هذه التنظيمات على برنامج ثوري يرى أن الخروج من أزمة البرنامج التحديثي الوطني يمر عبر مسار تغيير ثوري حقيقي يربط مسالة التحديث بالمطالب الاجتماعية وبتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية .

أما البرنامج الثاني فهو المشروع الديمقراطي الذي ظهر في نهاية السبعينات والذي حملته بعض منظمات المجتمع المدني التي بدأت في النمو والترعرع كرابطة حقوق الإنسان في بلادنا وبعض الأحزاب الديمقراطية والتي انشقت في اغلبها عن أحزاب الحركة الوطنية في الحكم مثل حركة الاشتراكيين الديمقراطيين في بلادنا .وقد اعتبرت هذه الحركات أن أزمة البرنامج الوطني تكمن في فصل التحديث عن الحريات وجعل البرنامج الحداثي يقتصر على تحديث الهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقد نادت هذه القوى بإتمام هذا البرنامج بفتح بلداننا على مبادئ الحرية والتعدد والديمقراطية.

أما البرنامج الثالث فهو مشروع الإسلام السياسي والذي بدأ الظهور منذ بداية الثمانينات في اغلب البلدان العربية في شكل تنظيمات تابعة لحركة الإخوان المسلمين ويرى هذا المشروع أن أزمة البرنامج الوطني تكمن في غربة مشروع الحداثة عن بلادنا .والحل يكمن في رأيها في العودة للمشروع الإسلامي وبناء الدولة الإسلامية والتي تعتمد الشريعة الإسلامية .

تنافست هذه المشاريع الثلاثة من أجل مجابهة أنظمة الحكم التي ازداد بطشها واستبدادها كما التقت في بعض الأحيان في جبهات معارضة كما أشارت تجربة حركة 18 أكتوبر في بلادنا.إلا أنها عجزت عن تغيير الأنظمة والتي واصلت لسنوات طويلة الهيمنة على النظام السياسي في بلداننا جاعلة من خنق الحريات وسيلتها وطريقها في مواصلة بقائها في السلطة.

وقد ساهم هذا التعاطي مع الحركة الاجتماعية في تزايد أزمة أنظمة الحكم في المنطقة العربية .وجاءت ثورات الربيع العربي كردّ على هذه الأزمات وعلى عجز الأنظمة على القيام بالإصلاحات والتغييرات الضرورية.ويمكن اعتبار في هذا الإطار هذه الثورات كردّ وإجابة على هزيمة 1967 وأزمة الأنظمة الوطنية وقد أخذ هذا الردّ وهاته الإجابات من المشاريع السياسية المختلفة التي عرفتها المنطقة ليكون مشروع الجمهورية الثانية في قطيعة مع الاستبداد منخرطا في مبادئ الحرية الديمقراطية ومنفتحا على مبادئ الحداثية والعدالة الاجتماعية وفي نفس الوقت منغمسا في تاريخه وارثه الحضاري العربي والإسلامي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115