قانون «المصالحة الاقتصادية» يكرس الإفلات من العقاب ويمنع كشف الحقيقة

بقلم: آمنة القلالي، مديرة مكتب «هيومن رايتس ووتش» في تونس

بعد 6 أعوام من الإطاحة بنظام بن علي، تواجه العدالة الانتقالية تحديات جمة. فالإفلات من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان ما زال متفشيا، كما لم تقع محاسبة كبار المسؤولين عن القمع، بينما تتعرّض «هيئة الحقيقة والكرامة» التي تأسست في 2014 لكشف حقيقة انتهاكات الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية التي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، إلى الهجوم من كل جانب. والعنصر الجديد الذي زاد من إضعاف هذا المسار هو طرح نسخة جديدة لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية، الذي أثار الكثير من الجدل منذ 2015. هذا القانون يتعارض مع حاجة تونس إلى تسليط الضوء على آليات التسلط والنهب الاقتصادي إن هي أرادت القطع نهائيا مع هذا الماضي الاستبدادي، ومتابعة مسارها الديمقراطي.

بدأت لجنة التشريع العام بالبرلمان في مناقشة المشروع الجديد في 26 أفريل 2017. وفي حال المصادقة عليه، سيهدد هذا القانون مسار العدالة الانتقالية الذي انطلق في ديسمبر 2013. فمراحل هذا المسار تمر أولا عبر كشف الحقيقة حول انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بالنظام القمعي؛ وتتضمن أيضا محاربة الإفلات من العقاب بتحويل الملفات إلى القضاء؛ وأخيرا، تُمكن التحقيقات من التعرف على المسؤولين ومن تطهير مؤسسات الدولة وإصلاحها لتفادي تكرار نفس الخروقات.

تتوفر تونس حاليا على آليتين للتحقيق والبت في جرائم الفساد المرتكبة في عهد النظام السابق. أولا، بإمكان الجهاز القضائي متابعة ومقاضاة كل من استفاد أو شارك في اختلاسات. وثانيا، تتولى هيئة الحقيقة والكرامة، التي أُنشئت بموجب قانون العدالة الانتقالية، التحقيق في جرائم الفساد، والتحكيم فيها أو تحويل ملفات رجال الأعمال أو موظفي الدولة المتهمين بالفساد إلى القضاء. حسب الأرقام التي نشرتها هيئة الحقيقة والكرامة، فقد تلقت 2700 طلب تحكيم في قضايا مالية، من بينها 865 قدمتها الدولة، و16 من طرف مرتكبي خروقات مالية، والبقية من طرف ضحايا. في كل تلك القضايا، تقول الهيئة إنها تواجه صعوبات بسبب رفض مؤسسات الدولة التعاون معها، مما عرقل تحكيمها.

سيضع القانون الجديد حدا لهذا المسار، حيث سيحل محل هيئة الحقيقة والكرامة والجهاز القضائي في نفس الوقت. إن تمت المصادقة عليه، فلن تتمكن المحاكم من ملاحقة أو مقاضاة الأشخاص المستفيدين من العفو أو الحاصلين على شهادة مصالحة من «لجنة المصالحة» التي سيتم إنشاؤها في إطار هذا القانون. وبخصوص هيئة الحقيقة والكرامة، يُتوقع أن يُلغي القانون كل صلاحياتها المتعلقة بالجرائم المالية والفساد. لن تستطيع إذن التحقيق أو التحكيم أو تحويل ملفات الفساد إلى القضاء.

لجنة المصالحة التي سينشئها هذا القانون ستكون لها ولاية مدتها 9 أشهر. وكما هو متوقع، سيعاني عمل هذه اللجنة من إخفاقات متعددة فيما يخص تحقيق عدالة انتقالية سليمة. فهي تفتقر إلى الاستقلالية عن السلطة التنفيذية عند تعيين أعضائها؛ وسيمكنها فقط النظر في ملفات فردية لرجال أعمال فاسدين يتقدمون إليها اختياريا، ولن يكون من اختصاصها تحديد آليات الفساد في عهد النظام السابق؛ وسيكون بإمكانها العفو عن موظفي الدولة المتورطين في قضايا فساد ومنحهم حصانة من المتابعة، مما سيقوض جهود استئصال الفساد في الإدارة التونسية.

في تونس كما في غيرها من البلدان، يسير الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان يدا في يد. فحسب تقرير اللجنة الوطنية التي أُنشئت في 2012 للتحقيق في الفساد واختلاس المال العام، فقد استولت أسرة بن علي وأقاربه على أموال وأراض عامة باستخدام مؤسسات الدولة كالبنوك العامة والنظام القضائي والشرطة للحصول على أكبر عدد ممكن من الامتيازات ومعاقبة أولئك الذين يقاومون مبادراتهم في قطاع الأعمال.

مشروع القانون المقدم من رئاسة الجمهورية، حتى في صيغته المعدلة، يتنافي مع المبادئ الاساسية للعدالة الانتقالية، التي تقوم على كشف الحقيقة، المحاسبة، تحديد البعد الممنهج للاانتهاكات، وحماية الدولة من خطر تكرار الممارسات الاستبدادية.

سرية المعلومة تعرقل كشف الحقيقة
يشير مشروع قانون المصالحة الاقتصادية إلى أن المعلومات التي يتم الحصول عليها في اطار المصالحة لن تكون متوفرة للعموم. سيتم وضع الوثائق التي يتم الحصول عليها في الأرشيف الوطني، لكن القانون لا يتطرق إلى سبل الوصول إليها. سيتعين على اللجنة نشر تقرير نهائي يتضمن «نتيجة» أعمالها. لكنه لن يذكر بالضرورة أسماء المخالفين، على عكس أعمال هيئة الحقيقة والكرامة، التي يتوجب عليها نشر وثيقة تحدد «المسؤولين» عن الخروقات.

ينصّ هذا القانون على أنه ليس بإمكان أي شخص أو هيئة «استعمال المعلومات المصرح بها أو المتحصل عليها في إطار تطبيق هذا القانون لغير الأغراض التي سن من أجلها». هذه المادة من شأنها إخراج مؤسسات مثل هيئة الحقيقة والكرامة أو السلطة القضائية فعليا من المعادلة بمنع الوصول إلى المعلومات التي تتوصل إليها اللجنة. كما سيعرقل هذا الأمر أي بحوث حول الانتهاكات الحقوقية الأخرى والتي قد تكون مرتبطة بمؤسسات أو أشخاص ضالعين في قضايا فساد.

عدم تحديد آليات الفساد
يبدو أن الصلاحيات الممنوحة للجنة المصالحة تهدف إلى معالجة ملفات مصالحة فردية وليس إلى كشف آليات منظومة سمحت للأشخاص الأكثر فسادا بالاستفادة من تواطؤ في جهاز الدولة نفسه. وهذا يتنافي مع أحد أهم أهداف العدالة الانتقالية هو التعرف على المنظومة القمعية من أجل تفكيكها، وذلك بحصر آلياتها وأشخاصها والقوانين والمؤسسات التي تسمح للفساد بالتفرع في عالم المال بكل أمان. كما أن البعد البنيوي والمؤسساتي للفساد يجب أن يكون في قلب كل كشف للحقيقة بشأن جرائم الماضي. لكن مشروع القانون الجديد لا يمنح اللجنة أي صلاحية في هذا المجال. بل يكتفي بتكليفها بالنظر في الطلبات الفردية التي تتلقاها، والتأكد من صحة المعلومات وتحديد مبالغ التعويضات، وأخيرا وضع الأموال في صناديق الدولة. ومما يزيد الأمر خطورة كون هذا القانون يسمح بمثول الشخص المتهم بالفساد اختياريا أمام اللجنة. هذا يعني أن رجال الأعمال أو موظفي الدولة الفاسدين هم الذين يفعّلون عمل اللجنة، وأن اللجنة لن تستطيع استخدام المعلومات التي بحوزتها أو التحقيق بشكل مستقل في أشخاص لم يتقدموا إليها بشكل إرادي. من السخرية أننا في النهاية سنجعل الدولة رهينة حسن نية أشخاص يُعرف عنهم الفساد أو متهمين بجرائم مالية خطيرة أو تهم اختلاس مالي.

غياب الاستقلالية عن السلطة التنفيذية
يلقي القانون الجديد بظلاله على استقلالية العدالة الانتقالية. ربّما حسّن القانون المعدل تشكيلة لجنة المصالحة التي كانت السلطة التنفيذية تحتل قمة هرمها في البداية. لكن الآلية المقترحة لا تضمن استقلالا كافيا عن السلطات. سيكون كل أعضاء اللجنة غير منتخبين، وبالتالي معينين من طرف ممثلي السلطة التنفيذية، وهو الشأن بالنسبة لرئيسها الذي يعينه رئيس الدولة، أو من طرف هيئات مهنية مثل عمادة المحامين أو ممثلين عن السلطة القضائية. لن يكون للّجنة ميزانية مستقلة يصوت عليها البرلمان، بل سيتم اقتطاع الأموال اللازمة لعملها من ميزانية الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والتي تعاني هي الأخرى من مشاكل مالية بحسب تصريحات متكررة لرئيسها شوقي الطبيب.

عفو دون تحديد المسؤوليات داخل الدولة
يعرقل القانون أيضا، بعرضه العفو على الموظفين، قدرة الحكومة على وضع آلية مراقبة صلب الإدارة العمومية لتقييم نزاهة وكفاءة ممثلي الحكومة والموظفين في مزاولة مهامهم أخذا بعين الاعتبار مشاركتهم السابقة في الفساد. ينصّ مشروع القانون بالفعل على أن موظفي الدولة المتابعين أو الصادرة في حقهم أحكام متعلقة بالفساد المالي أو الإداري يمكنهم الاستفادة من العفو شريطة عدم استفادتهم ماليا من ذلك الفساد. وستكون آلية هذا العفو كالتالي: بالنسبة للأشخاص الصادرة في حقهم أحكام نهائية، يكفي تقديم طلب عفو لدى السلطات القضائية المعنية للحصول على شهادة عفو. بالنسبة للأشخاص الذين لا تزال ملفاتهم قيد الدرس، تقدم السلطات القضائية التي تنظر في قضاياهم طلب عفو للجنة المصالحة على أن تبت فيه في غضون 60 يوما. أما فئة الموظفين الفاسدين الذين استفادوا شخصيا وماليا من الفساد، فإن مشروع القانون يلتزم الصمت حيال الآليات الكفيلة بكشفهم وإجبارهم على التصريح بممتلكاتهم وتمييزهم عن أولئك الذين لم يستفيدوا من امتيازات شخصية. ويعني ذلك ان كل من تورط في الفساد، سواء بتواطؤ مباشر او غير مباشر، سيتحصل على عفو الي بدون تدقيق في مسؤوليته الشخصية، وهو ما سيعوق اصلاح المؤسسات والمحاسبة على الفساد فيها.

• خاتمة
ختاما، يبدو أن قانون المصالحة الاقتصادية يقلب مبادئ العدالة الانتقالية رأسا على عقب. فبدل تسليط الضوء على الحقيقة، سيؤدي إلى حجب المعلومات بشأن الأشخاص والمؤسسات الضالعة منذ عقود في الإضرار الممنهج بالاقتصاد التونسي. وبدل السماح بتطهير المؤسسات بكشف الموظفين الفاسدين وإبعادهم عن الوظيفة العمومية، سيمنحهم العفو دون تحقيق مسبق، مما سيعزز ثقافة الافلات من العقاب في الإدارة التونسية. وبدل إخضاع من ساهموا في الفساد للمساءلة، سيُسمح لهم بمحو خطاياهم بكل سهولة، فاسحا المجال أمام تكرار نفس الأخطاء إلى ما لا نهاية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115