قراءة في خطاب رئيس الجمهورية

بقلم: عبيد البريكي
• الإطار العام للخطاب:
تعددت ردود الفعل في علاقة بما يحدث فى بلادنا في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها سواء على المستوى الإقتصادي أو السياسي أو الإجتماعي فبرزت الآراء والقراءات المتضاربة والتي ميزها العنف اللفظي و تبادل التهم و رفض الآخر و اختلطت فيها الأوراق وتبعثرت

والتقت أطياف حول موقف واحد رغم إختلافها في المنطلقات والأهداف٬ فعاد شعار «وينو البترول»، والتقت أحزاب حول رفض قانون المصالحة دون فرز بين من يبحث عن مصالحة فعلية شاملة تخرج تونس من التطاحنات الإيديولوجية التي استمرت سنوات و بين من يرمي إلى إجهاض المسار الثوري و التجربة الديمقراطية, على نقائصها, التي استشهد من أجلها ابناء شعبنا وضحى من أجل التأسيس لها و حمايتها شهداء وأمنيون و جنود في مقدمتهم الشهيدان شكري بلعيد و الحاج محمد البراهمي. اختلطت الاوراق و تبعثرت فاصبحنا

لا نميز بين من يدعم حكومة الوحدة الوطنية إلتزاما بوثيقة قرطاج ومن يبحث عن الثغرات و النقائص ليعزز موقعه التفاوضي في الخارطة السياسية التي بدأت تهترئ تدريجيا و التي بكافة مكوناتها و أطيافها و أحزابها أفقدت ثقة المواطن العادي فيها وفي آفاقها وفي مدى قدرتها على إنقاذ البلاد مما تردت فيه. لم تعد وثيقة قرطاج التي تضمنت مبادئ عامة تمثل لبنة أولى لبرنامج عمل تحدد فيه المهام الآنية العاجلة و المهام الجوهرية ذات النتائج الآجلة٬ لم تعد محل إجماع ممن التقوا حولها من الأحزاب, حيث منها من قطع صلته بها و بالحكومة المنبثقة عنها,و منها من تمسك و سحب الثقة من الحكومة المنبثقة عنها, و منها من تمسك بها و بالحكومة و منها من هو متمسك بها وينشط مع القوى المعارضة للحكومة. اختلافات و تباينات متداخلة و إحتجاجات إجتماعية منها ما ظل سلميا مشروعا و منها ما انحرف عن أصله فتحول إلى قطع الطرقات و تعطيل المصالح الفردية و الجماعية رغم أنه محدود في المكان والزمان, و هو المناخ الذي جاء في خضمه خطاب رئيس الجمهورية في 10 ماي 2017 ,فإلى أي حد كان الخطاب استجابة للتحديات المطروحة؟ هل عكس

الوعي بما يتهدد مجتمعنا اليوم من مخاطر؟ إلى أي حدّ تضمّن حلولا أو تصورات تخلق مناخا من الثقة و الاطمئنان لدى الرأي العام بكل مكوناته؟ هل تضمن إجابات عن الأسئلة المحيرة حول ما يجب أن ننتهجه لتجنيب تونس منزلقات قد تعود بنا الى مربع الصفر؟ وأسئلة أخرى تستدعي محاولات الإجابة عنها وقفة تأملية في منهج الخطاب و محتوياته بعيدا عن ردود الفعل التي ميزت نقاش النخب و التي انقسمت إلى رافض مطلقا للخطاب معتمدا أسلوب التهجم و السب و الشتم و بين من يدافع عنه دون تعامل نقدي مع ما ورد فيه من توصيف واقتراحات.

• الموقف من الحكومة و إنعكاساته:
أعتقد أنه قبل الخوض في الخطاب و تأثيراته لابد من التعريج على نقطة مفصلية٬ الاتفاق حولها محدد في تحليل بقية القضايا وهي الموقف من الحكومة. لقد تعالت عديد الأصوات داعية الى إسقاط الحكومة وإلى انتخابات مبكرة٬ لأنها في اعتقادهم السبب في كل ما تعيشه البلاد من مشاكل و لكن ماهي تبعات حل الحكومة و من المستفيد من إحداث الفراغ السياسي في ظل إستمرار التوترات الإجتماعية؟
المستفيدون هم دعاة العودة إلى ما قبل 2011 في ظل واقع الإحباط الذي يهيمن على عموم الشعب و خيبة الأمل التي بدأت تتسرب إليهم نتيجة ما آلت إليه الأوضاع, هذا إذا استثنينا النخب على اختلاف انتماءاتها و مصالحها.
من المستفيدين المهربون و الفاسدون الذين لا ينشطون إلا في ظل إحتداد التوترات الإجتماعية و الفراغ السياسي.

3. المستفيدون الخلايا الإرهابية النائمة و رابطات حماية الثورة وأعداء الديمقراطية دعاة العلم الأسود

4. المستفيدون القوى المالية الدولية التي تبحث عن دولة تتدرج نحو مزيد من الضعف لإملاء شروطهم في التفاوض و مزيد إحكام السيطرة على خيرات البلاد.

5. المستفيدون هم من لا يريدون الدفع نحو مراجعة المواقف من القضايا العربية لأن دولة ضعيفة في حاجة إلى الدعم الخارجي لا يمكن لها أن تتخذ مواقف سيادية في علاقة بقضايانا العادلة أولائك هم المستفيدون أما المعارضة مهما كانت حاملة لهموم الشعب ومهما كانت قدرتها على صياغة برامج لإنقاذ البلاد لن تستفيد من إجراء إنتخابات مبكرة للأسباب التي ذكرت ولن تستفيد اذا استمرت في الدفع نحو مزيد من التوتر لأنها قد تدفع بالحكومة للعودة إلى الوعود و إلى التداين ٬شأن ما حصل سابقا٬ و ستجد الحكومات المقبلة أوضاعا أكثر تعقيدا مما وجدت الحكومة الحالية وسوف يسقط السقف آنذاك على الجميع.

من الطبيعي إذا أن تتكتل كل القوى المتمسكة بإسقاط الحكومة هدفا لها و أن تعارض مبدئيا كل ما قد يصدر عنها أو عن رئيس الدولة و من الطبيعي أن تلتقي القوى المتناقضة أيديولوجيا و فكريا و تاريخيا في الدفع نحو المزيد من التأجيج وتفجير الصراعات بأنواعها ولكنه ليس من الطبيعي لمن يريد الحفاظ على المسار حتى إدراك الإنتخابات في أوانها٬ أن يكون رد فعله متحجرا متكلسا في الدفاع عن الخطاب ليكون تحليله في بعض المواطن مجانبا للحقيقة.

• قراءة في الخطاب:
لن أخوض في جدل عقيم حول توقيت الخطاب ودستوريته في علاقة بمهام الحكومة لأن في ذلك تهميشا للنقاش٬ رئيس الجمهورية المنتخب مباشرة من قبل الشعب يبدي رأيه متى يشاء فمابالك في هذا الظرف الذي تمر به البلاد و من مهامه توجيه عمل الحكومة وإلا ما الجدوى من أن يمكنه الدستور من رئاسة مجلس الوزراء؟ هل لمجرد تسيير النقاش وإدارة الكلمة؟ أما عن منهجية الخطاب فإنه ورد مترابط العناصر بصرف النظر عن المحتوى الذي يحتاج إلى تقييم هادئ. إنطلق الخطاب من تشخيص واقع الديمقراطية والتمييز بين الممارسات المشروعة دستوريا و بين التحركات التي تعطل المصالح التي أدانتها كل الأحزاب و المنظمات. ثم طرح ضرورة حماية بعض منشآت الإنتاج مشيرا إلى ضرورة تدخل الجيش آلية من آليات الحيلولة دون قطع الطرقات، علما وأن هذا الإجراء لا يجب أن يمسّ من التحركات النقابية المشروعة فإن المؤسسة العسكرية كانت وستبقى الحامية للحدود والثروات الوطنية وهي التي أسهمت في انتقال السلطة وفي تنظيم الحياة العامة بأنواعها، وفي إطار البحث عن الحلول الملائمة لتجاوز التوتّرات في الخطاب تمسّك بعمل المؤسسات: مجلس النواب موقعا للحوار والحكومة هيكل التنفيذ واختتم بالتعريج على مشروع قانون المصالحة وما اقترن بطرحه من جدل واسع. أما من حيث المضمون فالتأكيد كان واضحا على أهمية دعم الحريات و الديمقراطية طبقا للدستور و لم يتضمن على خلاف ما تخوّف منه البعض الإشارة إلى إستفتاء حول قانون المصالحة ولا حول طبيعة النظام السياسي مشددا على مشروعية الإحتجاجات الإجتماعية، وهي محاور واضحة لمن أراد التفاعل موضوعيا مع الخطاب في محتواه.

• ما غاب في الخطاب:صعوبة خلق فرص عمل حينية باستثناء عقد الكرامة.
رئيس الجمهورية هو رئيس كل التونسيين بكل مكوناتهم: الأحزاب الحاكمة والمعارضة والمنظمات والجمعيات غير الحكومية فليت خطابه كان خطاب التجميع.
ورد في الخطاب رفض للحوار الوطني بحجة أننا لا نحتاج إلى حوار قد يؤدي إلى حل الحكومة و أن مجلس النواب هو الإطار الملائم لكل الحوارات و تجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن المطلوب حوار إجتماعي هدفه مساعدة الحكومة على اعتماد مقاربة تقوم على التوازن بين البعدين الإقتصادي و الإجتماعي في التنمية و هو الحوار الذي من المفروض أن تشارك فيه المكونات الإجتماعية والمدنية والسياسية التي لا تستطيع إبداء رأيها في مجلس النواب بإعتبارها غير ممثلة فيه٬ حوار إجتماعي قد تقوده مؤسسة الرئاسة البعيدة ..دستوريا عن التحزب٬ حوار يعمق فيه مدى التقدم في تطبيق محتوى وثيقة قرطاج. .أعتقد أن الحوار الإقتصادي والإجتماعي مسألة ملحة وقد تكون محددة للمساهمة في التقليص من حدة التوتر.

3. لم يتضمن الخطاب مقترحات حول آليات التقدم في مقاومة الفساد٬ مسألة محورية في وثيقة قرطاج٬ في مقاومته وملاحقة الفاسدين دعما لموارد الدولة وخلقا لبيئة تشجع على الإستثمار.

4. لم يتضمن الخطاب في الحديث عن الثورة «المباركة» إشارة إلى الشهداء أثناءها أو أثناء الإنتقال الديمقراطي ولا تأكيدا على المضي قدما في الكشف عن جرائم الإغتيال وخاصة ما يتعلق بالشهيدين بلعيد و البراهمي٬ كما غاب الحديث عن دور الإتحاد العام التونسي للشغل أثناء الثورة أو مباشرة بعد 2011 في ضمان الإستقرار و تأطير المعتصمين في القصبة واقتراح النقاط الخمس التي منها المجلس التأسيسي 5.غابت المقترحات الإجتماعية لتوجيه الحكومة نحو العناية أكثر بمن كانوا محددين في الثورة: المناطق الداخلية و المعطلين عن العمل. إن الديمقراطية في بعدها السياسي مهددة لأننا لم نتقدم في الديمقراطية في بعدها الإجتماعي وإن إستعراض الأرقام الدالة على بعض التطور أمر مهم و لكنه لن يؤثر إيجابا على الإستقرار ما لم يتحول إلى إنجازات تضمن العدل الإجتماعي و في التاريخ القريب دلالات واضحة: نسب النمو في عهد النظام السابق تجاوز ال5 %و إحتياطي العملة كان محترما و أموال مرصودة في البنك المركزي و رغم كل ذلك حدث الانفجار لأنها كانت أرقاما لم تتحول الى تنمية في ظل غياب سياسة عادلة تقلص الفوارق بين الجهات و الفئات.

• إجراءات ملحة للتقليص من منسوب التوتر:

- في مجال مكافحة الفساد:

أ - قانون المصالحة: يبدو أن إجماعا حاصلا في مستوى الخطاب على ضرورة المصالحة ولكن الإختلاف في الآليات، مستثمرون منكمشون يرفضون الانتصاب في المناطق الداخلية قبل تسوية أوضاعهم، ولا ننتظر إقدام المستثمرين الأجانب وهم يتابعون تقلص الإستثمار الداخلي، أموال متخلدة بذمة عدد من رؤوس الأموال ولم يتقدموا إلى هيئة الحقيقة والكرامة بحثا عن التصالح بل ظلوا خاضعين إلى الإبتزاز من هنا وهناك، أموال مشتتة والدولة تبحث عن موارد وعن مزيد من التداين، نحن في حاجة إلى مصالحة جدية في جانبها الإداري والمالي من خلال لجنة نزهاء تدعم مجهودات هيئة الحقيقة والكرامة، وتفرض على الجميع الخضوع لمبدأ المحاسبة والمساءلة عبر الاسراع بالتصديق على مشروع قانون الإستثراء غير المشروع، الذي مع رفع السر البنكي سوف يمكن من الكشف عن حقائق كثيرة.

ب - إجراءات إدارية باتت ملحة كنت أشرت إليها سابقا: تجميد الرمز الديواني للموردين الذين تخلدت بذمتهم أموال وترشيد التوريد حفاظا عن النسيج الاقتصادي الوطني.

- التشغيل:
عقد الكرامة والانتصاب للحساب الخاص من الإجراءات الهامة ولكنها لن تشمل كافة الجهات وخاصة تلك التي تفتقر إلى مؤسسات خاصة و هي الجهات التي من المفروض تمييزها إيجابيا طبقا للدستور.
إن تفعيل محتوى الإعلان الوطني للتشغيل والقاضي بتشغيل فرد من كل عائلة معوزة مهم جدا رغم واقع الوظيفة العمومية لأنها قد تمثل إنفراجا نتيجة إجراءات التقليص في كتلة الأجور والمغادرة الطوعية للموظفين.
من الإجراءات الممكنة تفعيل دور الخدمات والتفكير في انتداب المعطلين في المناطق الداخلية للعمل فيها طبقا لإختصاصهم، ومن الإجراءات المهمة كراء الأراضي التي استرجعتها الدولة للمعطلين عن العمل في شكل تعاونيات.

3. القطاع غير المنظم و الانتصاب الفوضوي: تنظيم الانتصاب الفوضوي بشكل يضمن للتجارة الموازية حق الانتصاب خارج توقيت التجارة المنظمة وإلتزام أصحابها بدفع معاليم الانتصاب.

4. عمال الحضائر المنتدبون بعد 2011:
تمكينهم من الحق في الحماية الإجتماعية ومن الأجر الأدنى المضمون ومن حقهم في رخصة سنوية خالصة الأجر لمدة شهر في إنتظار التثبت في هؤلاء حالة بحالة.

5. المتابعة الدورية لواقع التنمية في المناطق الداخلية من خلال العمل الميداني وهو ما شرعت فيه الحكومة.

6. وضع برنامج الإصلاح الإداري حيز التنفيذ لما لذلك من تأثيرات على الإستثمار وعلى المردودية، الأمر الذي يقتضي إعادة النظر في قرار الغاء وزارة الوظيفة العمومية.

7. تنظيم ملتقى حول قيمة العمل بمشاركة كافة الأطراف المعنية:إجراءات ضرورية لطمأنة أطياف عديدة من المجتمع ولخلق مناخ يهيئ للمعالجة الهادئة للملفات الكبرى:

- المؤسسات العمومية.
- الاصلاح التربوي.
- صندوق الدعم و مستحقيه.
- الصناديق الإجتماعية.
- الإقتصادغير النظامي.
- الصحة.

إن الأزمات تستدعي إصلاحات كبرى والإصلاحات الكبرى لا تنطلق إلا في مناخ هادئ يستدعي رسائل طمأنة.
يشهد التاريخ للتونسيين بأطيافهم تجميد تناقضاتهم حين تكون تونس مهددة، وأعتقد أن المسار الديمقراطي الذي يبدو مهددا يستدعي حدا من الوحدة حتى نصل إلى إنتخابات 2019 ونثبت للعالم أننا قادرون على صنع الديمقراطية وأن تونس أخرى ممكنة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115