وجهة نظر: حتى لا يٌهدَمَ المعبد

بقلم: عبد العزيز القطي
تعيش بلادنا على وقع أزمة حادة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي اعتبرها الكثيرون غير مسبوقة في تاريخ تونس الحديث.


تسارعت وتيرة الأزمات بداية من مشروع قانون المالية لسنة 2017 مرورا بأزمة المجلس الأعلى للقضاء وصولا إلى إتساع رقعة الإحتجاجات الإجتماعية و التأكد يوما بعد يوم من قبل كل الفاعلين و المهتمين بالشأن العام أن هذه الحكومة فاقدة لرؤيا واضحة و برنامج عمل مدروس و أنها عاجزة عن إدارة الأزمات المتتالية نظرا لقلة الخبرة السياسية و غياب مقومات القيادة و العجز عن إيجاد البدائل و الحلول.

ولسائل أن يسأل هذه الحكومة جاءت على إثر مبادرة رئيس الجمهوريّة الذي أيقن استنادا لكل ما توفّر لديه من معطيات و تقارير أن الأوضاع الإقتصاديّة و الإجتماعيّة أصبحت تنذر بالإنزلاق نحو المجهول زِد على ذلك مشهد سياسي و حزبي غير جدي و مهترئ خاصة ما أصاب حزب نداء تونس من حالة تفكك لتُصدّر أزمته داخل مؤسسات الحكم من البرلمان إلى الحكومة.
هذه الصورة المظلمة و المليئة بالهواجس و المخاوف أنتجت حالة من التوجس و القلق و الإحباط بلغت ذروتها في الأشهر الأخيرة لتحطم حالة التشاؤم عند التونسيين كل الأرقام القياسيّة ليشير لنا الباروميتر السياسي لشهر ماي الحالي أنّ 80 % من التونسيين يقرون بأن البلاد تسير في الطريق الخطأ مع إرتفاع غير مسبوق لنسبة المقاطعين و العازفين عن التصويت لتتراوح بين 66 و 80 % حسب مؤسسات سبر الآراء المختلفة ليمثل الشباب ذو المستوى الجامعي 93 % من هذه النسبة المفزعة.

إلى جانب التشاؤم و العزوف نجد تراجعا حادا في نسبة الرضاء على أداء رأسي السلطة التنفيذيّة و بنسبة أكبر عند ساكن قرطاج رئيس الجمهوريّة.

هذا التراجع الحاد في رضاء التونسيين عن أداء رئيسهم مرتبط أساسا بخيار حكومة الوحدة الوطنية الّذي بقدر ماهو متناسق مع متطلبات الوضع في فترة إطلاق المبادرة لإنقاذ التجربة التونسية أمام بداية تبخر الآمال المرتبطة بالثورة فإن فشل هذا الخيار مجسدا في حكومة الشاهد عجز عن تحريك عجلة النمو وتعبئة الموارد الماليّة و إقناع المستثمرين في الداخل و الخارج فتعمق عجز الميزانية و انهار الدينار وارتفعت المديونية و تفاقم العجز التجاري وبدأت التحركات الإجتماعيّة و الإعتصامات و رُفعت «ديقاج» في وجه رئيس الحكومة في تطاوين و أحد وزرائه في بنزرت.

سنة بعد إطلاق مبادرة رئيس الجمهوريّة و تونس تعيش نفس التقلبات السياسية و الإجتماعيّة و لكن بأكثر حدّة فتواترت الإقالات لوزراء اختيروا بصفة عشوائية أو تحت الضغط زِد على ذلك التصريحات اللاّمسؤولة للعديد منهم مما زاد في تهديد أمننا القومي و الإنزلاق اكثر فاكثر نحو المجهول.

كل هذا يتزامن مع أزمة سياسيّة مرتبطة بتفكك الحزب الحاكم و ضبابيّة مايحدث داخله مع الجدل الحاصل حول علاقة رئيس الحكومة و انصياعه لتعليمات قادة النداء الجدد و ما تم سماعه من تسريبات لأحد إجتماعاته.

صراع كان عنوانه الأساسي التعيينات للمقربين و الموالين في محاولة لإرضاء البعض و مكافأة البعض الآخر ووضع اليد على مفاصل جزء من الدولة لإشباع المطامع الشخصية و الحزبيّة الضيقة بعيدا عن كل طرح أو تدبير للمساهمة في المصلحة العليا لتونس.

هذا القلق و الإحباط ينتاب التونسيين أيضا أمام عودة شبح إنخرام التوازن السياسي و هيمنة متجددة لحزب النهضة على الحياة السياسية و مؤسسات الدولة و الحكم و البرلمان مع التأكد أكثر فأكثر بأن النهضة هي الحزب الوحيد المنظم و المهيكل و البعيد عن شبح الإنقسام و التفكك في ظَل مشهد سياسي متشظي غلبت عليه الأنا المتورّمة و الإنتهازيّة والمصلحيّة والحسابات السياسويّة الضيقة.

الوعي العميق بخطورة الظرف و من باب تحمل المسؤولية الدستورية و الوطنية سيخرج رئيس الجمهورية ليخاطب النواب و الشعب و يرد على ما وصله من رسائل مفتوحة و مبادرات طالبته بالتدخل العاجل لطمأنة التونسيين و الدّعوة للتهدئة مع تقديم رؤيته المستقبلية و ما يمكن اقتراحه لتجاوز الأزمة وتحصين المسار الديموقراطي الهش.

>للخروج من أتون العَدَميّة والتشائم و انسداد الأفق و القطع مع الرداءة و الإرتجاليّة وجب مخاطبة الشعب و تقديم حزمة من الإجراءات الضرورية من أجل إعادة الروح و الأمل لشباب و أبناء الوطن فالمطلوب هو:
1 - مصارحة الشعب بخطورة الوضع على الصعيد السياسي و الإقتصادي و الإجتماعي مع تقديم تشخيص يبرز مدى تدهور الوضع على ما كان عليه قبل حكومة الوحدة الوطنيّة.
2 - الإقرار بفشل حكومة الوحدة الوطنيّة على مستوى القيادة السياسية وفقدان البرامج و تكبيلها من قبل الأحزاب الكبرى التي عطلت عملها و قراراتها بداية بإختيار الوزراء مما جعل الشاهد يحطم رقما قياسيا في الإقالات في زمن قياسي والقائمة قابلة للإرتفاع في الأيام القليلة القادمة.
اجباره على تعيين ولاة و معتمدين نزولا عند رغبة أطراف سياسية و نواب من أجل خدمة مصالحهم الشخصيّة و الحزبيّة الضيقة بعيدا عن مقومات الكفاءة و القدرة التسييرية و الولاء للدّولة و الوطن و ليس للأشخاص و اللوبيات.
عدم قدرة الأحزاب و خاصة منها الفائزة في الإنتخابات على تقديم مقترحات تترجم وثيقة قرطاج إستنادا لبرامجها الإنتخابية.
3 - الإقرار بخطأ تعيين رئيس حكومة فاقد لبرنامج عمل يطرحه و يناقشه مع الأحزاب و المنظمات و يكون جزء من وثيقة قرطاج وكذلك الشأن بالنسبة لفريقه الحكومي.
4 - الإقرار بفشل المحافظة و الإستفادة من السند السياسي و النيابي لنجاح العمل الحكومي و قد تجسم ذلك في غياب تام لخطة عمل متفق عليها مع الممضين على وثيقة قرطاج والارتجالية في تقديم مشاريع قوانين فاقدة لكل تشاركية في الاعداد و توافق حول المضمون مع داعمي الحكومة و انحصار الدعم على ابتزاز الأحزاب و النواب لها و تعطل فتح الملفات الحقيقية و الحارقة.
5 - الإقرار بأن رئيس الحكومة و بعض وزرائه يقومون بحملة إنتخابيّة مبكرة و متواصلة لتلميع صورتهم الذاتيّة و التفكير في كيفية البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة مما جعل الحكومة تحيد عن فتح الملفات الحقيقية المتعلقة بمصلحة و مستقبل تونس بالجراة و الحزم المطلوبين من ذلك مقاومة الفساد، مقاومة التهريب و ضرب لوبياته، خطة عَمَل للتقليص من التهرب الجبائي ، فتح ملف المؤسسات العمومية المفلسة وخاصة منها الصناديق الإجتماعيّة.
6 - الإقرار بفشل رئيس الحكومة لفتح حوار وطني تشاركي لصياغة عقد إقتصادي و اجتماعي يمكننا من التوافق الأدنى حول الإصلاحات الكبرى الضرورية من أجل تقاسم التضحيات و انطلاق عملية الإصلاح و البناء و بلورة منوال تنموي بديل قادر على تحقيق إنتعاش إقتصادي و تقليص الفوارق التنموية بين الجهات.
7 - الإقرار بأن النظام السياسي الذي أقره دستور 2014 يشتت السلطات و لا يمكن من تحميل المسؤوليّة و المحاسبة في غياب سلطة مركزية.
شخصيا لا أظن أن إسقاط الحكومة هو الحل لأننا سنخسر وقتا ثمينا على تونس و سندخل البلد في دوامة جديدة من عدم الإستقرار السياسي و الحكومي و ما له من تبعات في الداخل والخارج و يبقى المطلوب حسب تقديري هو الآتي:
1 - إرساء حوار وطني إقتصادي و اجتماعي مدعوم بالخبراء و المختصين حول المحاور و الإصلاحات الكبرى وترجمته في شكل برنامج عمل تشاركي و توافقي تلتزم الحكومة بتطبيقه تحت رقابة المشاركين في بلورته مع تحديد سقف زمني لمختلف مراحل إنجازه.
2 - إجراء تحوير وزاري عميق يخص أساسا الوزارات ذات البعد الإقتصادي و التنموي يكون فيه الإختيار على أساس الكفاءة و نظافة اليد و عدم تضارب المصالح و بدون قيد أو شرط من الأحزاب بعيدا عن منطق الإبتزاز والترضيات و إنما على أساس القدرة على تطبيق البرنامج المتفق عليه.
3 - تغيير محافظ البنك المركزي بكفاءة وطنيّة تقدم تصورا عصريا في مجال الصرف و السياسة النقديّة يتماشى مع متطلبات بناء تونس الجديدة المتطلعة للرقي و الإزدهار و جلب الإستثمار الخارجي وذلك في تناغم مع وضع المالية العمومية وبرنامج إصلاحها.
4 - إلزام رئيس الحكومة و فريقه بعدم الترشح للإستحقاقات التشريعية و الرئاسية القادمة و التركيز على تطبيق برنامج الإنقاذ لإرجاع الأمل و الثقة في الدولة و تهيئة المناخ الملائم للمواعيد الإنتخابيّة في 2019.
5 - أمام حالة التشاؤم و الخوف و الريبة من المستقبل وانعدام الثقة في السياسيين و الأحزاب السياسية و ارتفاع نسبة العزوف عن المشاركة في الإنتخابات مع التاخر في التحضير و المصادقة على مجلة الجماعات المحلية و عدم اتمام حل النيابات الخصوصية و تعطل بعث البلديات الجديدة و تاخرها كل هذا يستدعي منا التريث و تأجيل الإنتخابات البلدية لما بعد سنة 2019 و التركيز على الإنقاذ الإقتصادي و الإجتماعي لتوفير المناخات الملائمة لإجراء مثل هذا الإستحقاق المصيري في حياة المواطن.
6 - فتح حوار وطني حول مجلة الجماعات المحلية و التقسيم البلدي و القانون الإنتخابي المنظم للإنتخابات البلدية و تعميق النقاش حول الطريقة المثلى لتنزيل الباب السابع من الدستور على أرض الواقع لتجنب كل إنزلاقات و أخطاء التسرع حتى نجنب المواطن مزيدا من الرداءة والإرتجالية و نرسي حوكمة محلية في مستوى تطلعاتنا جميعا.
7 - حمل الدستور مسؤولية الأمن القومي لرئيس الجمهورية المفوض شعبيا للتدخل والتعديل عند الضرورة فمن واجبه ترؤس المجالس الوزارية ذات الصِّلة بالأمن القومي في جميع أبعاده الأمنية و الغذائية و الصحية و البيئية و غيرها وذلك في حالة الأزمات و القرارات الهامة و المصيرية في المواضيع ذات الصِّلة.
8 - إرجاع الولاة تحت إشراف رئاسة الجمهورية فالوالي هو ممثل رئيس الجمهورية في ولايته وله كل الصلاحيات لبسط نفوذه من أجل نجاعة أكبر في سير المرفق العام فيكون مسؤولا أمام رئيس الجمهورية و راجعا له بالنظر.
9 - يكون تعيين المعتمدين على أساس الكفاءة والخبرة والقدرة على التسيير و التعاطي مع الأزمات و فض النزاعات بعيدا عن المحسوبية و الولاء لغير الدولة و يوضع لهم برنامج تكوين و رسكلة و متابعة من جهاز خاص بهم تحت إشراف رئاسة الحكومة .
10 - تحسين الوضع المادي و اللوجستي للعمد و تمكينهم من قانون أساسي يضبط واجباتهم و حقوقهم لما للعمد من دور محوري في المسائل الأمنية و الإجتماعيّة و التسريع بسد الشغورات بمن تتوفر فيهم شروط الكفاءة و الخبرة بعيدا عن منطق الترضيات والولاءات.

المخاطر التي تهدد تونس هذا المثال المضيئ في المحيط الإقليمي و العربي كثيرة و متعددة يتداخل فيها الأمني بالإقتصادي بالإجتماعي و من واجبنا أن لا نقف مكتوفي الأيدي و آمال هذا الشعب و شبابه صانع ثورة الحرية و الكرامة تتبدد فنحن من رسخ سنة الحوار و التوافق فوقف لنا العالم إحتراما و إجلالا و ظفرنا جميعا بجائزة نوبل للسلام من خلال الرباعي الراعي للحوار الوطني و على رأسه الإتحاد العام التونسي للشغل الذي ننتظر منه جميعا أن يلعب كما عودنا دوره التاريخي والوطني من أجل إنقاذ تونس التي بناها السياسي و النقابي والمحامي و الفلاح و العامل بالساعد و رجل الأعمال.

لنتحمل جميعا مسؤولياتنا التاريخية لإعلاء راية تونس عاليا و حتى لا يُهدم المعبد و نبكي كما النساء.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115