كيف نخرج من عصر الانحطاط ؟

أثار الكتاب الصادر منذ أيام بعنوان l’âge de la régression عن دار النشر الفرنسية premier parallèle الكثير من الاهتمام من قبل الملاحظين والمثقفين فقد حظي بتغطية كبيرة من العديد من المجلات والصحف والمتابعات

من البرامج الثقافية في الإذاعات واكبر المحطات التلفزية العالمية.

وتعود أسباب هذا الاهتمام المنقطع النظير إلى جملة من العوامل أولها أن الكتاب يحمل جملة من المساهمات لما يمكن أن نعتبرهم من أهم المثقفين على مستوى العالم فنجد في هذا الكتاب الجماعي نصوصا لمثقفين وكتاب مثل Ar juin appadurai وهو من أهم المثقفين الهنديين ويدرس في جامعة نيويورك واصدر مؤخرا كتابا بعنوان «جغرافيا الغضب» كما نجد كذلك من ضمن المساهمين الأستاذة والجامعية الأمريكية Nancy Fraser والتي تدرس في جامعة نيويورك وأصدرت مؤخرا كتابا هاما بعنوان

Qu’est ce que la justice social وقد ساهم كذلك في هذا الكتاب الباحث والمفكر الفرنسي Bruno latour والذي يعتبر اليوم من أهم المفركين الفرنسيين والذي عرف بكتابه النقدي حول الحداثة الصادر سنة 2005 تحت عنوان
Nous n’avons jamais été modernes كما ساهم كذلك في هذا المؤلف الجماعي الفيلسوف Slavoj zizek والذي عرف واشتهر في السنوات الأخيرة على المستوى العالمي بكتاباته النقدية للنظام العالمي ومحاولاته لتطوير الفكر الماركسي وآخر إصداراته كانت بعنوان
La nouvelle lutte des classes –Les vraies causes des refugies et du
terrorisme

إذن تكمن مصادر الاهتمام الكبير بهذا الكتاب في جمعه أهم المثقفين على المستوى العالمي والقادمين من مشارب فكرية مختلفة وقبولهم المساهمة في هذا المؤلف وتقديم مساهمات فكرية هامة حول الموضوع المطروح.

مصدر الاهتمام الثاني لهذا الكتاب يكمن في صدوره في نفس اليوم 17 افريل المنقضي بأكثر من 17 لغة وبلدا – والهدف من هذه العملية هو طرح السؤال المطروح على مستوى عالمي والخروج به من الحدود الوطنية وجعل المسألة والنقاش محل اهتمام المثقفين والمفكرين على المستوى العالمي .

أما المسألة الثالثة التي كانت وراء الاهتمام المنقطع النظير والذي حظي به هذا الكتاب فتكمن في الموضوع والسؤال المطروح وهو أسباب الانحطاط الذي يعيشه عالمنا اليوم وكيفية الخروج منه وبناء مشروع إنساني جديد- وقد انطلق مشروع هذا الكتاب من ناشر ألماني اسمه Heinrich geiselerger سنة 2015 اثر العمليات الإرهابية في باريس وتصاعد العنف ثر ثورات الربيع العربي وتنامي القوى العنصرية والمعادية للأنظمة الديمقراطية والليبرالية واعتبر الناشر أن العالم وصل إلى درجة كبيرة من الانحطاط والتراجع عن المبادئ الإنسانية والبرامج والأفكار الديمقراطية وأشار في تقديمه لهذا الكتاب إلى ابرز مظاهر هذا الانحطاط ومن ضمنها : رفض الانفتاح على العالم وعلى الآخر، تطور وتنامي الحركات العنصرية المعادية للآخر وبصفة خاصة المعادية للإسلام والمسلمين (islamophobie) ،صعود الحركات الشعبوية في البلدان المتقدمة وبصفة خاصة في أوروبا وأمريكا ،التراجع الكبير الذي تعرفه الأحزاب التقليدية والحركات الديمقراطية، تصاعد نسبة عدم الرضا وانتفاء الثقة في النخب التقليدية .

وفي رأي الناشر فان هذه المظاهر هي تعبير عن تحول سياسي واجتماعي هام ودخول الإنسانية إلى عصر جديد بأزمة النظام الديمقراطي والفكر الحداثي والليبرالي الذي ساس العالم منذ عصور الثورات والأنوار في القرن التاسع عشر – وهذه الأزمة تبشر بفتح عصر جديد من الانحطاط والظلمات والذي من شأنه أن يعصف بالإنسانية وبمبادئ التعايش التي وضعتها على مر السنين.
إذن كان هذا الاستنتاج حول انهيار النظام الليبرالي وتنامي مظاهر الانحطاط نقطة انطلاق هذا الكتاب وقرر الناشر التوجه إلى أهم المفكرين العالميين وطرح عليهم سؤالين الأول حول أسباب هذا الانهيار والانحدار الذي يعرفه العالم – أما السؤال الثاني فيخص طرق ووسائل الخروج من هذه الأزمة العالمية

وجاءت مساهمات مختلف المفكرين في هذا الكتاب وإجاباتهم ثرية ومثيرة وبالرغم من اختلافات مشاربهم الفكرية والإيديولوجية فقد التقى المساهمون في هذا الكتاب حول عديد المسائل الأساسية والجوهرية في فهم الأزمة العالمية التي يعرفها العالم في السنوات الأخيرة .

ونقطة الالتقاء الأولى تخص الفكر الليبرالي الذي هيمن على النظام السياسي والاقتصادي منذ قرنين تقريبا مع انتصار الأنوار والثورات الرأسمالية التي عرفها العالم – ويشير العديد من المساهمين في هذا الكتاب إلى ابرز مظاهر هذه الأزمة وتراجع الفكر الليبرالي في النقد الكبير الذي تعرفه العولمة وتطور الحركات الاحتجاجية المناهضة للنظام الليبرالي وانحسار الثقة في النخب السياسية والاقتصادية

ونقطة الالتقاء الثانية بين اغلب المساهمين في هذا الكتاب الجماعي تكمن في تفسير وقراءة أهم أسباب هذه الأزمة وانحسار وتراجع الفكر الليبرالي. ويرى العديد من المساهمين أن هذه الأزمة هي نتيجة فشل العولمة النيوليبرالية وعدم قدرتها على فتح آفاق سياسية و مجتمعية وحضارية جديدة قادرة على تجاوز انغلاق ونهاية مشروع الدولة الوطنية – ويرجع هذا المشروع إلى بدايات النظام الرأسمالي وتطور السوق والعلاقات الرأسمالية إلا أن هذا النظام شهد فترة أوجه إثر الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 وبصفة خاصة اثر الحرب العالمية الثانية حيث كان وراء النمو الكبير الذي عرفته البلدان الرأسمالية والتي عرفت فترتها الذهبية من خلال ربطها بين تطور الإنتاجية والدخل والسوق الداخلية .

إلا أن هذا النظام عرف في نهاية الستينات الكثير من النقد وخاصة تنامي الاحتجاجات الشبابية والثورات التي أكدت على عديد المطالب التحررية كالمساواة بين النساء والرجال وعلى عديد المطالب الاجتماعية الأخرى والتي رفضتها المجتمعات التقليدية والثقافة الرجالية السائدة – كما قامت حركات التحرر الوطني بنقد كبير ورفض لهذه الأنظمة السائدة والتي لم تمكنها من حرية تقرير مصيرها وبناء أنظمتها الوطنية

والى جانب هذا النقد للقيم والمبادئ التي قام عليها النظام الرأسمالي الوطني فقد عرف أزمة اقتصادية خانقة منذ بداية السبعينات عجلت بنهايته

وقد جاءت العولمة كمحاولة لتجاوز النظام القديم والموروث عن الحرب العالمية الثانية . ولعل أهم مسالة تشير إليها بعض المساهمات في هذا الكتاب هي القراءة الجديدة للعولمة والتي ترتكز على تحالف بين شق تقدمي وريث ثورات الشباب في نهاية الستينات والمطالب بالحريات والتحرر في عديد المجالات كالمرأة والجنس والاختلاف وشق ثاني ليبرالي وداعي إلى تحرير السوق وفتح الأسواق المالية وتحريرها – وقد أعطى المساهمون في هذا الكتاب عديد الأمثلة لهذا التحالف التقدمي الليبرالي اذكر منها حكم كلينتون في أمريكا وباراك اوباما وجوسبان في فرنسا وحتى فرنسوا هولاند.

إلا أن هذه العولمة النيوليبرالية لم تعجز فقط عن تجاوز أزمات الدولة الوطنية بل كانت وراء تنامي الفوارق الاجتماعية ونمو وتطور كبير للتهميش الاجتماعي – وقد كان هذا التهميش وراء نمو وظهور حركات اجتماعية رافضة ومحتجة.

فقد عرفت اغلب البلدان المتقدمة تطورا كبيرا للحركات الشعبوية التي لعبت دورا كبيرا في إضعاف النظام الليبرالي وفي رفض النخب لتشكل تهديدا كبيرا للأحزاب السياسية التقليدية وتفتح فترة جديدة من الثورات والانتفاضات ضد الأنظمة الديمقراطية.

لقد ساهمت مختلف المساهمات في هذا الكتاب الهام في تشخيص الأزمة التي يعرفها العالم وانسداد الأفق وصعوبة الاختياربين النيوليبرالية الما بعد حداثية من جهة والشعبوية الرجعية من جهة ثانية .

لقد شكل إصدار هذا الكتاب حدثا فكريا وسياسيا بامتياز في الأيام الفارطة – أهمية هذا الكتاب لا تكمن فقط في هذه القراءة الثاقبة للازمة التي يمر بها عالمنا اليوم بل كذلك في تحديد بعض الإجابات لكيفية الخروج منها وبصفة خاصة في ضبط برنامج يهدف إلى إعادة الأمل لشعوب أرهقتها العولمة المالية والتي لم تعط القدر الكافي لمطالبها وأحلامها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115