سقوط أسطورة دولة الخلافة

اختتم معرض تونس للكتاب فعالياته منذ أيام، وكان في الحقيقة موعدا استثنائيا وحقق المعرض هذه السنة نجاحاكبيرا، تحت ادارة الاديب والاستاذ شكري المبخوت، صاحب «الطلياني»ّ، نجح المعرض في جلب عدد كبير من الناشرين وكذلك من الزوار لا فقط من

تونس العاصمة بل كذلك من كامل انحاء الجمهورية، كمانجح المعرض في تنظيم زيارات لمجموعات من الاطفال من المدارس الابتدائية داخل الجمهورية بفضل دعم بعض مؤسسات المجتمع المدني.

ونجاح المعرض كذلك كان من خلال الحركية الثقافية التي نظمها من خلال استدعاء عدد كبير من المثقفين، لتنظيم جملة من المحاضرات ومن التظاهرات الثقافية شدّت اهتمام الزائرين وقد أثثت هذه التظاهرات والمحاضرات الثقافية معرض الكتاب لتجعل منه حدثا ثقافيا بامتياز.

وقد عرفت بعض الكتب والروايات نجاحا كبيرا في هذا المعرض وكانت قبلة للزائرين والوافدين على المعرض، واذكر من هذه الكتب رواية «ماكينة السعادة» للاديب كمال الزغباني والفائزة بجائزة الرواية للمعرض كما اذكر كذلك كتاب الاستاذ عياض بن عاشور Tunisie une révolution en pays d’Islam وكتاب الاستاذ بكار غريب penser la transition avec Gramscie 2011-2014 واللذين حازا على جائزة المعرض للبحوث في العلوم الانسانية مناصفة.

الا ان الكتاب الحدث في هذا المعرض كان بدون شكّ كتاب الصديق هادي يحمد «كنت في الرقة، هارب من الدولة الاسلامية» والصادر عن دار نقوش عربية لصاحبها الصديق المنصف الشابي وقد كان هذا الكتاب حدثا هاما ومميزا فقد لاحظت لاول مرة في تاريخ معرض الكتاب طوابير طويلة من المواطنين أمام جناح دار نقوش عربية في انتظار شراء نسخهم من هذا الكتاب،وكانت الابتسامة تعلو محيا كل من نجح في الفوز بنسخة من هذا المؤلف وكأنه فاز بصيد عظيم هذا الاقبال يجعل الكتاب في نسخته الاولى يستنفد في بضعة أيام.

وقد قضيت بعض الوقت مع الصديق هادي يحمد في جناح نقوش عربية للحديث معه عن هذا الكتاب وظروف انجازه وتعرّفت على الهادي ومنذ سنوات في اروقة مجلة حقائق حيث كان قلما مميزا و قام بعديد التحقيقات الصحفية التي جلبت له الاحترام وكذلك الاهتمام وقد طالعت مقالاته خاصة تحقيقاته الصحفية الهامة حول مواضيع صعبة ودقيقة منها التحقيق الذي نشره سنة 2002 حول المحكوم عليهم بالاعدام في السجون التونسية وقد نال عن هذا التحقيق جائزة جمعية الصحافيين التونسيين.

وقد عرف الهادي بن يحمد بصفة خاصة بتحقيقه حول الاوضاع السيئة للسجون التونسية والذي نشرته مجلة حقائق في ديسمبر 2007 وقد اثار هذا التحقيق انذاك سخط السلطة مما ادى بها الى حظر المجلة من نقاط التوزيع واضطر الصحافي الى اللجوء الى الخارج ولم يعد الا بعد الثورة.
وقد خاض منذ رجوعه العديد من التجارب الصحفية ولعل من أهمها تأسيس موقع حقائق اون لاين والذي أصبح مرجعا إعلاميا معروفا بجديته وحرفيته ليصير احد أهم المواقع الإعلامية في بلادنا.

إلا أن الهادي يحمد خيّر في السنوات الأخيرة الابتعاد عن العمل الصحفي اليومي للتركيز على العمل البحثي في الحركات الاسلامية وبصفة خاصة الحركات الجهادية والتي هي مجال تخصصه.

وقد اصدر في هذا المجال عديد المقالات والدراسات التي تشهد له بدراية كبيرة ومعرفة هامة في هذا المجال ليصبح اهم الاخصائيين في بلادنا في هذا المجال وقد اصدر كتابا مرجعيا سنة 2015 تحت عنوان «تحت راية العقاب سلفيون جهاديون تونسيون» عن دار الديوان وهذا الكتاب هو عبارة عن دراسة سوسيولوجية مع العديد من الشبان الذين التحقوا بتنظيم الدولة لفهم دوافع وأسباب هذا الانتماء السياسي والمغامرة العدمية.

وينخرط هذا الكتاب الجديد في نفس الإطار في البحث السوسيولوجي من خلال لقاءات مع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين إلا أن الكاتب قرر الاكتفاء في هذا الكتاب بسرد حكاية احد هؤلاء الشباب الذي قرر الالتحاق بما يسمى بالدولة الإسلامية ليصبح احد اعتى مقاتليه وليقضي سنتين في الرقة قبل ان يقرر الهرب وقد قضى الكاتب ساعات طوال في الحديث مع هذا الشاب ليسرد بعد ذلك حكايته في هذا الكتاب الحدث.

وساحاول في هذا المقال ان اشير الى بعض النقاط والخصائص التي تفسّر نجاح هذا الكتاب المنقطع النظير وأود في هذا المجال التركيز على 4مسائل اساسية وراء نجاح الكتاب والاهتمام الكبير الذي حظي به في هذا المعرض من قبل الكل والذي سيتواصل في رأيي لاشهر طويلة.

السبب الاول في رأيي منهجي، ويهمّ التمشي الذي اتّبعه الكاتب فمن خلال اختياره شخصية واحدة ومعروفة خرج الكتاب عن مجال البحث في العلوم الإنسانية والتي تدرس في عديد الاحيان عديد المسارات الشخصية والتي تبدو عند القارئ او المتلقي نظرية وبعيدة عن الواقع وفي هذا الكتاب اختار الهادي يحمد التركيز على شخصية معروفة مما تعطى للكتاب الكثير من الواقعية والروائي الذي اتبعه الكاتب ساهم كذلك في نجاح هذا الكتاب عند القراء.

المسالة الثانية والتي تفسر الاهتمام الذي حظي به هذا الكتاب تخص فهم الأسباب التي تدفع الشباب الى احضان الجهادية السلفية ومن خلال هذه التجربة قدم لنا الكاتب بعض الدوافع التي تساهم في انخراط الشباب في هذه التيارات وهنا نشير الى عديد المسائل التي ركّز عليها الشاب ومن أهمها البيئة التقليدية التي ترعرع فيها والتي لعبت دورا هاما في نموّ الفكر السلفي وشكلت تربة خصبة لتطوره.

كما لعبت صور الانتفاضات الفلسطينية وبصفة خاصة عنهجية الالة القمعية الاسرائلية دورا كبيرا في تعبئة هؤلاء الشباب وتحفيزهم على الجهاد منذ سنوات المراهقة الاولى، ثم كان لتصادم هؤلاء الشباب مع الالة القمعية والبوليسية وبصفة خاصة في تصديها لبدايات ظهور الحركة السلفية في بداية الالفية دور في دفع هذا الشباب وتعبئته حول هذه الرؤية والقراءة العقائدية المنظمة للدين الاسلامي، كما لعبت التجربة السجنية كذلك دورا في تعبئة الشباب حول الفكر السلفي الجهادي وقد التقى هذا الشاب في السجن بعد الثورة بعديد القيادات الجهادية في السجن والتي ساهمت في تجييش هؤلاء الشباب والدفع بهم في مغامرة الجهاد.

كما تؤكد هذه التجربة كذلك على اهمية الدور الذي لعبه غلاة الدين في تونس وكذلك الذين توافدوا على بلادنا في السنوات الاولى للثورة في تشريع الجهاد في اذهان هؤلاء الشباب، كما لا بدّ لنا ان نشير الى التاثير الذي لعبته اجهزة الدعاية للدولة الاسلامية في ايران.

صورة المقاتل المعتد بنفسه والقادر على التصدي لالة الحرب للانظمة الكبرى.

يصور الكاتب على لسان الجهادي المقاتل كل العوامل التي لعبت دورا كبيرا في تبنيه للسلفية الجهادية وقرار ه بالالتحاق بسوريا ليكون احد جنودها.

المسألة الثالثة والتي تفسر الرواج الذي عرفه هذا الكتاب يخص في رأيي مسألة هامة وهي مشاركة التونسيين في الحركات الجهادية وقد اكد الكاتب ما تناقلته وسائل الاعلام من ان التونسيين يشكلون أكبر عدد من المقاتلين الاجانب في صفوف ما يسمى بتنظيم الدولة الاسلامية وكانوا اكبر جنسية متواجدة في الرقة الى درجة انهم خلقوا مكان لقاء خاص بهم كالمقاهي والمطاعم واعطوها اسماء تونسية،ّ كما يؤكد الكاتب مسالة ثانية ومتداولة في عديد التقارير الصحفية والمخابراتية وهي ان التونسيين كانوا من اكثر المقبلين على العمل العسكري وتميزوا فيه بشدة ومنهجية وقساوة اثارت الكثير من المخاوف حتى من جانب مسؤولي مايسمى بتنظيم الدولة، وقد وصلت هذه القساوة والشراسة عند المقاتلين التونسيين، الى درجة انهم كانت توكل لهم مهمة الاجهاز على الاسرى في نهاية المعارك ويعطي الكاتب بعض التفسيرات لفهم شراسة التونسيين ويشير الى مسالتين هامتين الاولى الدور الذي لعبه احمد بن عمر الحازمي أحد غلاة الدعاة والذي نشط في تونس بعض الوقت وكان له تاثير كبير على الشباب السلفي في بلادنا كما يشير الكاتب كذلك ان هذا العنف والشراسة مردها كذلك إلى ان التونسيين القادمين من بلاد بورقيبة والحداثة وحرية المرأة يريدون أن يبرزوا أنهم ليسوا أقل اسلاما من الاخرين من خلال شراسة وقساوة اكبرفي القتال.

الا ان الكاتب يشير الى انه مثلما كان التوانسة احد عجلات ماكينة الدم الدولاوية (نسبة إلى الدولة) واداتها فانهم كانوا ضحية الماكينة ذاتها، ونجح هذا الكتاب في تقديم هذه الفكرة المرة لبعض شبابنا بعد الثورة، والذين وجدوا انفسهم لقمة سائغة في ايادي تجار الموت والارهاب.

المسألة الرابعة والاخيرة والتي تفسر نجاح هذا الكتاب على المستوى الجماهيري ليصبح الحدث بامتياز، في رايي سرده بطريقة مبسطة لأسباب فشل وانهيار مشروع الدولة بالرغم من صمود الآلة الحربية في بعض المناطق في العراق وسوريا أمام تقدم جيوش التحالف والضربات الجوية وفي رأيي مسألة سقوط هذا المشروع وانهياره تعتبر اهم نتيجة لهذا الكتاب وهو ما يفسر انطفاء بزيغ هذا المشروع وانتهاء تاثيره على ملايين الشباب.

وفي رأيي فان أسباب هذا الانهيار تكمن في ثلاث مسائل أساسية اشار لها الكتاب، المسالة الاولى هي عسكرية وتخص تراجع الثقة عند المقاتلين بالاختبارات العسكرية والميدانية واصبح البعض يعتقد ان بعض المعارك مثل معركة كوباني كانت بمثابة بعث المقاتلين من الشباب للمحرقة وكثر التذمر من هذه المعارك عند شباب المقاتلين الى درجة ان بعضهم يعتبر أن هذه التخطيطات لا يمكن وضعها في خانة سوء التصرف والارتباك وانعدام التجربة بل هي مخططات مدبرة تصل الى مرتبة القتل المدبر وتهدف الى التخلص من آلاف الشباب القادم من عديد البلدان والباحث عن حلم دولة الخلافة وعوض البحث عن اسباب هذه الهزائم والانشقاقات العسكرية والتي اودت بآلاف الشبان فإن ردّ قيادات الدولة على تساؤلات الشباب هو السمع والطاعة وقد ساهمت هذه الهزائم والمعارك المدبرة في زعزعة ثقة الشباب في هذا المشروع.

المسألة الثانية التي ساهمت في انهيار هذا المشروع هي مسألة أخلاقية وتخص البون الشاسع بين المبادئ والقيم التي يروج لها مايسمى بتنظيم الدولة الاسلامية وواقع الممارسة في الاراضي التي يسيطرعليها فقد اشار الكاتب على لسان الشباب إلى تنامي الغرور والاعتداد بالنفس عند قيادات التنظيم كما اشار كذلك الى ظهور الجشع والتمكن والوصولية عند الكثير من المقاتلين ولعل اهم المظاهر التي كانت ترى هذا الانهيار الاخلاقي للدولة هي اجواء الخوف التي فرضها الجهاز الامني للتنظيم وشراسته في مجابهة اي تهديد في بعض الاحيان الى حد التصفية الجسدية وقد اثارت هذه الاجواء وغياب الحرية حفيظة ورفض الشباب الذين راوا في الانظمة الاستبدادية كنظام كبيرة ادت الى انهيار المشروع الفكري لدولة الخلافة».

الكتاب «كنت في الرقة» للهادي يحمد هوكتاب مهم وشكل حدثا في معرض الكتاب الاخير ولعل النجاح الجماهيري الذي عرفه هذا الكتاب يكمن في كونه تمكن باسلوب شيق ومن خلال قصة شاب تونسي رحل الى الرقة من اجل المساهمة في تنظيم الدولة ثم هروبه من هذا الجحيم في تجسيد تطور هذا المشروع من حلم اثث امال الاف من الشباب حول العالم الى محرقة تاتي على الاخضر واليابس وتفسر انهيار هذه الاسطورة وسقوط مشروع الدولة اهم نتيجة هي ان هذا السقوط والانهيار يؤكد عدمية الغلو العقائدي ويدعونا الى التاكيد على اهمية القراءة المنفتحة والمتفتحة على روح العصر وتطور الارث الانساني للدين الاسلامي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115