الثورة والعصر الذهبي للفيلم الوثائقي

تنقلت منذ أيام إلى جزيرة جربة بدعوة من الصديق هشام بن عمار لحضور المهرجان الوطني للفيلم الوثائقي أو ما يسمى .Djerba Doc Days في دورته السادسة والذي انتظم في الفترة

الفاصلة بين 23و28 مارس 2017 – ويعد هشام بن عمار من أهم الناشطين والفاعلين الثقافيين في بلادنا – وقد اختار العمل بصفة خاصة في الميدان السينمائي حيث درس تاريخ السينما على مدى أكثر من عشرين سنة في معهد الصحافة – ولم يقتصر عمل هشام وعشقه للسينما على المستوى النظري بل تجاوزه إلى ميدان الإخراج حيث أخرج عديد الأفلام الوثائقية اذكر منها «كافيشنطا» و «رايس الأبحار» و«شفت النجوم في القائلة» و«كان يا مكان في هذا الزمان» و«تونس تنتفض» وغيرها ..

ولم يقتصر عمل هشام بن عمار على التدريس والبحث وإخراج الأفلام بل تجاوزه إلى القيام بحركية ثقافية في مجال التنشيط الثقافي والسينمائي .وقد كون لهذا الغرض جمعية سنة 2011 أطلق عليها تسمية القافلة الوثائقية أو « caravane documentaire » هدفها دعم الفيلم الوثائقي وتنظيم مهرجانات وثائقية في عديد الجهات .وقد نظمت الجمعية مهرجان « حكاية البحر» في الهوارية ومهرجان الفيلم الانتروبولوجي في سيدي عمر بوحجلة .

وتبقى التظاهرة الأهم هي «المسابقة الوطنية للفيلم الوثائقي» والتي انطلقت في دوز في ديسمبر 2011 لتتواصل في جزيرة جربة منذ سنتين .وقد قضيت يومين ممتعين في هذا المهرجان حيث التقيت عديد الأصدقاء لم أرهم منذ مدة ككاهنة عطية إحدى أهم مختصينا في عملية المونتاج والتي قامت بتركيب عدد كبير من الأفلام التونسية . والتقيت هناك كذلك إلى جانب هشام بن عمار بالفيلسوف فتحي التريكي احد أهّم فلاسفتنا إلى جانب الفيلسوفة رشيدة التريكي وهي إحدى اكبر الأخصائيين في نظرية الفن والصحفية فريدة الخياري والمصورة ماريان كاتزاراس وعديد الفاعلين والناشطين الثقافيين.

كانت هذه التظاهرة فرصة للحديث والنقاش عن الفيلم الوثائقي في بلادنا والثورة التي عرفها في بلادنا بعد الثورة .وقد كان الفيلم الوثائقي احد روافد إن لم نقل أهم رافد في تطور الإبداع السينمائي وهذا الربيع الذي يعيشه الفن السابع بعد الثورة .فقد فتحت الحرية التي نعيشها اليوم هامشا كبيرا للمخرجين الشبان للغوص في الواقع ومحاولة فهم وقراءة أهم تناقضاته والانكسارات كما الآمال والأحلام التي يحملها. وهاته القراءة ليست بالتصوير الفج والمبسط لهذا الواقع بل تأخذ بعدا جماليا وفنيا فيه الكثير من الحساسية والشاعرية.

والتطور الكبير أو الطفرة التي يعرفها الإنتاج الوثائقي في بلادنا اليوم ليست مفاجئة بل هي نتاج لتراكم تاريخي جعل من هذه النوعية من الأفلام مكونا أساسيا للمشهد السينمائي في بلادنا.ويعود أول الأفلام الوثائقية في بلادنا إلى المخرج الطيب الوحيشي الذي أنتج فيلم «قريتي» سنة 1971. ثم أخرج نفس المخرج فيلم « الخماس» وكان هذان الفيلمان أوّل الأفلام الوثائقية التونسية والتي تحاول الغوص في الواقع التونسي وفهم تناقضاته.

ثم تواصلت هذه التجربة مع عديد المخرجين التونسيين مثل صوفية فرشيو التي قدمت لنا شريط «الزردة» وشريط» شاشية» وتتلمذت صوفية فرشيو على أيادي أهم المخرجين العالميين في الفيلم الوثائقي كـ «Jean Rouch» و«Renaud Vautier» والذي ساند وعاش مع الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي وقام بإخراج عديد الأفلام من ضمنها شريط «chaine d’or» مع الممثلة الايطالية الكبيرة صوفيا لورين.

وستتواصل مغامرة الفيلم الوثائقي في بلادنا مع المخرج احمد حرز الله والذي جال في كل المناطق من اجل توثيق الثقافة الشعبية في بلادنا .وقد ترك لنا احمد حرز الله من خلال برنامج « قافلة تسير» وغيرها من الأفلام الوثائقية الأخرى جملة من الأعمال الهامة والتي ساهمت مساهمة كبيرة في بناء ذاكرتنا ومخيالنا الشعبي أتذكر إلى يومنا هذا اجتماعات الثلاثي أي الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة وجامعة نوادي السينما والسينمائيين التونسيين في نهاية السبعينات التي يحضرها باستمرار المخرج احمد حرز الله وكان قليل الكلام بالرغم من النقاشات الساخنة والحماسية في بعض الأحيان حول مستقبل السينما التونسية والثقافة الوطنية. كان المخرج احمد حرز الله يحضر هذه الاجتماعات لساعات طوال دون أن ينبس بكلمة وكان شاردا مع موسيقاه وصوره وأفلامه.
وسيكون لظهور الفيديو في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات دور كبير في تطور الفيلم الوثائقي في بلدنا.

وستلعب حركة السينمائيين الهواة في ثمانينات القرن الماضي دورا مميزا في تطور الفيلم الوثائقي إلى درجة أن مهرجان قليبية تمت تسميته في إحدى دوراته مهرجان الفيلم الواقعي للإشارة إلى الاهتمام أو حتى بدايات التخصص في الفيلم الوثائقي .

وستتواصل التجربة التونسية مع الفيلم الوثائقي في التسعينات مع شريط هام لمحمود بن محمود بعنوان «Les italiens de l’autre rive» أو «الايطاليون من الضفة الأخرى سنة 1995. وستكون الألفية بداية انطلاقة حقيقية للسينما الوثائقية في بلادنا – فقد خلقت معاهد السينما التي عرفت تطورا كبيرا في بلادنا جيلا كبيرا من المخرجين والتقنيين في كل مجالات الصورة .وشكلت أفلام التخرج لهذا الجيل مجالا كبيرا للإبداع والإنتاج السينمائي في بلادنا – كما ساهم ظهور شركات الإنتاج الخاصة في تطور الحركة الوثائقية في بلادنا.وكان كذلك لآليات دعم الإنتاج السينمائي لوزارة الثقافة وللمؤسسات الدولية مساهمة كبيرة في تطور هذه النوعية من الأفلام .

إذن سيظهر في بداية الألفية جيل جديد من مخرجي الأفلام الوثائقية سيلعب دورا هاما في تطور هذه الكتابة. واذكر من هذا الجيل محمد الزرن الذي قدم لنا « أنشودة الألفية» وهشام بن عمار ونادية الفاني بشريط « أولاد لينين» أما الشريط الذي سيكون عنوان هذه المرحلة فهو بدون شك شريط « كحلوشة» للمخرج نجيب بلقاضي .هذه المرحلة هي فترة هامة في تاريخ الفيلم الوثائقي باعتبارها أسست لوجوده وأصبح لنا مخرجون اختصوا في هذا المجال كما صار لنا إنتاج محترم من الأفلام الوثائقية يمكننا من الحديث عن تقاليد جديدة في الإنتاج السينمائي في بلادنا.
إلا أن النقلة النوعية في الإنتاج الوثائقي ستحدث بعد الثورة . إذ ستعطي الحرية ونهاية المراقبة مجالا لا مثيل له للعديد من المخرجين الشبان لتحقيق ثورة سينمائية وربيعا إبداعيا لم نعرفه من قبل في مجال الفيلم الوثائقي كما في عديد المجالات الإبداعية الأخرى وسنكتشف في سنوات الثورة جيلا جديدا من المخرجين التي تاهوا بكاميراتهم في أعماق مجتمعاتنا ليحملوا لنا آمل وهموم الناس.فشاهدنا شريط « القرط» لحمزة العوني الذي صور يأس الشباب في المناطق المحرومة حد إقبالهم على الانتحار – وشاهدنا كذلك « نع بو الفسفاط» لسامي التليلي الذي صور لعنة الفسفاط وواقع التهميش الذي تعيشه المناطق التي تنتج الفسفاط – كما اذكر كذلك الياس بكار الذي أنتج عديد الأفلام التي ساهمت في تاريخ الثورة اذكر منها «كلمة حمراء» و»أنافين» كما أشير إلى أصدقائي الحبيب المستيري الذي اخرج فيلم « الشهيد السعيد» عن الشهيد شكري بلعيد و» صور متواترة « عن حركة السينمائيين الهواة ومروان المؤدب و سمية بوعلاقي ويوسف الشابي وعلاء الدين سليم وإسماعيل اللواتي عن مخيم شوشة – ومخرجين كثيرين آخرين اعتذر عن سهوي عن الإشارة لأعمالهم.

ما أردت الإشارة إليه في هذا المقال أن الربيع الذي يعيشه الفيلم الوثائقي في بلادنا اليوم هو نتاج تراكمات تاريخية وتقاليد ساهمت في إرسائه وبنائه أجيال هامة من المخرجين والمبدعين.والاهم أن هذا المجال السينمائي لعب دورا كبيرا في الغوص في واقعنا ومحاولة فهم وإبراز تناقضاته وقد نجحت هاته الأفلام في تصوير آمال الناس وأحلامهم كما انكساراتهم بصور فيها الكثير من الحساسية والشاعرية- فكانت الصور ملأى بالألم وفي نفس الوقت فيها الكثير من الحب والأمل. ومكن هذا الانغماس وهذا الانتصار لقضايا الناس ومسلسل التهميش اليومي والاستبداد للسينما الوثائقية من مواكبة هذا المسار التاريخي الذي قاد إلى الثورة والتي أهدت لهذه السينما عصرها الذهبي.

ولعل حصول فيلم كوثر بن هنية «زينب لا تحب الثلج» على التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج السينمائي بعد نجاح شريط «الشّلاط» دليل على نجاح السينما الوثائقية في بلادنا.

وبالرغم من النجاحات فانه لابد لنا من التأكيد على بعض النقائص والتي لاحظتها من خلال متابعتي للأفلام الوثائقية في مهرجان جربة أو في عديد المناسبات الأخرى.

الملاحظة الأولى تخص ضعف الكتابة السينمائية في عديد الأعمال وخلوها من أي تطور درامي وهذه دعوة إلى إعطاء هذا الجانب أهمية لأن الفيلم الوثائقي ليس فقط تجميعا لمشاهد للواحد تلو الآخر بل هو أيضا كتابة سينمائية وتطور درامي يشد المتفرج ويمكنه من متابعة الأحداث.

المسألة الثانية هي الطول المبالغ فيه لعديد الأفلام مما سيجعل متابعتها صعبة ومقلقة أمّا المسالة الثالثة فهي تهم توزيع الأفلام الوثائقية والتي لا تعطي اهتماما للقاعات التجارية وهذا يؤكد أهمية المهرجانات مثل مهرجان جربة وكذلك التلفزات للتعريف بهذه السينما.

مهرجان جربة للفيلم الوثائقي والعمل الهام الذي يقوم به بعض الفاعلين السينمائيين كهشام بن عمار منظم هذا المهرجان وكذلك الياس بكار الذي ينظم مهرجان للأفلام عن حقوق الإنسان ضروري لدعم هذا المجال في الإبداع السينمائي. فالفيلم الوثائقي وان لا يحظى بنفس الاهتمام الذي يحظى به الفيلم الروائي فهو شاهد شاعري وحساس عن آمالنا وأحلامنا وانكساراتنا واحباطاتنا كما فرحنا وابتساماتنا – ولابّد لنا من دعم هذا المجال من الإنتاج ليواصل قراءة التناقضات التي تتفاعل في أحشاء مجتمعاتنا لتنبئ بالثورات القادمة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115