منبر: قضية قابس بين التداعيات الإعلامية وردود الفعل المتشنجة

بقلم: د. محمد كريد
منذ أن تداولت وسائل الإعلام خبر وفاة المريض في قابس اثر عملية جراحية

وما شهدته هذه القضية من تداعيات عديدة٬ تمالكتني أنا الدكتور المختص في التخدير و الإنعاش عديد المشاعر المختلطة من حزن أولا وخوف وإحباط و غضب في بعض الأحيان فكنت في عديد المرات في حاجة ماسة إلى رد الفعل في أي إطار كان بحثا عن راحة انشدها. و لكن مع ذلك تمالكت نفسي إذ علمتني الأيام بعدما يزيد عن العشرين عاما في ميدان التخدير و الإنعاش أن لا أرد الفعل مباشرة إلا إذا كانت ردة الفعل هذه ذات جدوى( سواء في التعامل مع المريض أو من يحيط به أو في الحياة العامة) و أن تكون ردة الفعل رصينة و موزونة بعيدا عن التشنج والانفعال في كنف اللياقة والاحترام للطرف المقابل حتى تكون النتيجة ايجابية دون أن تعقد الوضعية.

و في قضية الحال٬ وبعد مرور فترة زمنية٬ وصدور الحكم القضائي و بعد رصد عديد التداعيات و التثبت في كثير من الحيثيات تملكني دافع كبير لأخذ القلم و كتابة ما لاحظته في هذه القضية إرضاء لرغبة ذاتية من ناحية و محاولة مني لإيجاد بعض الحلول التي قد تخفف من وطأة الحدث.

في البداية أشير إلى أن ظهور بعض الأطباء في وسائل الإعلام محاولة منهم وعن حسن نية الدفاع عن زميلنا د.حمروني كان له و بدرجات مختلفة تأثير سلبي على سير القضية و لكم بعض الأمثلة:

فبالاستماع إلى ابنة الفقيد على موجات إحدى الإذاعات الخاصة و إنني اعزيها في مصابها الجلل وأحّييها في نفس الوقت على الأسلوب المتحضر جدا الذي تكلمت به٬ تبين جليا أن العائلة كانت في اتجاه سحب القضية وذلك بعد اللقاء الذي تم مع عائلة د.حمروني والأخذ بعين الاعتبار لظروف إنسانية٬إلاّ أن تدخل د.ماهرالعباسي في إحدى التلفزات جعل العائلة تشعر بالضيم و تتراجع عن تنازلها حسب ابنة الفقيد. وإنني في سرد هذا المعطى لا أريد الدخول في جدال حول وجود الخطأ من عدمه حتى لا اكرر خطا زميلي رغم أن د.حمروني قد ذكر كلمة خطأ مباشرة عند التفطن لعدم مطابقة فصيلة الدم.

إذن يتأكد من خلال هذا المعطى الأول التأثير الإعلامي السلبي و بصفة شبه مؤكدة على سير القضية.

كما اذكر معطى آخر قد يكون اثّر كذلك على سير القضية و لكن بصفة اقل ثبوتا أو بصفة نسبية و هو تدخل الأستاذ الدوعاجي والذي طالب بمحاكمة القاضي الذي يزج بطبيب في السجن على وجه الخطأ ثم تظهر براءته و المقاربة المقصودة هي المساواة بين الخطأ الطبي و الخطأ القضائي.

و إنني اعتقد انه من المنطقي أن لا يتأثر حكم القاضي بأي تداعيات جانبية لا تمت للموضوع بصلة٬ و لكن وفي قضية الحال٬ و عندما يكون مثل هذا الكلام قد قيل في وسيلة إعلام تلفزية فأخشى ما أخشاه أن يكون ذلك قد مس سلك القضاء بصفة عامة في هيبته وهذا معطى آخر كان بالإمكان تجنبه لولا التهافت على الظهور في وسائل الإعلام و سعي هذه الأخيرة للخوض في مثل هذه القضايا.

و أضيف كذلك ما سمعته في إذاعة خاصة بعد صدور الحكم و في نفس الحوار مع ابنة الفقيد٬ إذ بادر د.شرفي بطرح سؤال حول وجود صلة قرابة بين قاضي التحقيق و عائلة الفقيد٬ و كانت الإجابة بالنفي. وإذ يمكن أن اقبل طرح هذا السؤال من قبل منشط البرنامج٬ إلا أنني لا أرى أي جدوى من طرحه من قبل طبيب يمثل المنظمة النقابية إذ لا تزيد إيحاءات هذا السؤال إلا في تعميق الخلاف بين قطاعين لطالما تعايشا و عملا سويا بكل ثقة متبادلة بحثا عن الحقيقة في عديد القضايا.

و اكتفي بهذا القدر من الأمثلة التي أرى أنها ساهمت في تعقيد الأزمة و إني أتوقع أن عديد القنوات و البرامج ستسعى جاهدة في الأيام القادمة لاستدعاء أفراد عائلة الفقيد مثلما تعودنا في خضم الفوضى الإعلامية التي نعيشها و أرجو أن لا يؤثر ذلك على سير القضية في طور الاستئناف و لا يزيد في سخط عديد المواطنين على قطاع الصحة و على الأطباء بصفة خاصة( و أنا اكتب هذه الكلمات أتابع ما يجري في مستشفى القيروان اثر وفاة رضيعين و كهل).

و لابد من الإشارة إلى انه وقع تكوين لجنة دعم للدكتور سليم الحمروني و ذلك منذ بداية الأزمة وقد تم الاتفاق مع عائلة الزميل على الابتعاد أكثر ما يمكن عن طرح القضية من خلال وسائل الإعلام حتى نتجنب المنزلقات التي سبق و ذكرناها. لكن ذلك و للأسف تجاوز سيطرة هذه اللجنة.

كما أود الإشارة إلى تقرير الخبراء و الذي اعتمد على معطيات علمية و اكادمية ذات دقة كبيرة٬ ولكن وعلى ما يبدو لم يقع أخذه بعين الاعتبار في هذا الطور الابتدائي من القضية نظرا لأنه لم يتم انجازه بمقتضى تسخير قضائي. وبالتالي أنبنى الحكم الصادر على المعطيات الظاهرة للقضية بما في ذلك أقوال الطبيب والممرض.

و إنني أتساءل في هذا المجال و بكل عفوية عن حكم القتل غير العمد في حوادث الطرقات خاصة إذا كان السائق لم يحترم إشارة المرور(قف أو ضوء احمر) أو أفرط في السرعة و لا اعتقد أن قضية الحال يمكن أن ترتقي إلى نفس الدرجة والحالات التي ذكرناها.

وفي الأخير لا يسعني إلا أن اطلب من جميع الأطراف ضبط النفس و الابتعاد عن التجاذبات الإعلامية و عدم الدخول في جدال عقيم مع سلك القضاء أو مع عائلة الفقيد. بل بالعكس أدعو إلى إعادة فتح باب الحوار البنّاء بين الأسرتين و تفعيل التنازل في هذا الطور من التقاضي لأنه من باب الحكمة عدم مواجهة الأمواج العاتية بل مسايرتها علما و أن السنابل الحبلى هي التي تنحني أمام العاصفة. و أنا على استعداد لمحاولة تقريب وجهات النظر بين العائلتين أو بالأحرى الثلاث عائلات.

و آمل أن تتضافر كل الجهود اثر حل الأزمة لتفعيل القانون الذي نريد إرساءه لحماية المريض والإطار الصحي بصفة عامة في صورة حدوث بعض الإشكالات عند معالجة المريض.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115