منبر: لحسن الحظ، لـم ينتصر صالح بن يوسف

بقلم: عادل اللطيفي
أبدي رأيي هذا في موضوع اليوسفية مساهمة مني للتصدي لنزعة شعبوية تحاول التلاعب بالمعرفة التاريخية

وضرب الدولة الوطنية في ظل تطويع وتوجيه مسار العدالة الانتقالية. لقد بني هذا المسار برمته على هاجس سياسي يربط آليا بين الانتهاكات ودولة الاستقلال مثلما يبينه اختيار تاريخ 1 جويلية 1955 كبداية للمحاسبة والحال أن البلاد كانت دون سيادة أصلا. إنه إسقاط سياسي وتاريخي خطير يؤشر لتحويل مبدأ العدالة الانتقالية إلى عدالة سياسية وإيديلوجية وكتابة الذاكرة إلى إيديولوجيا تنافس التاريخ المعرفي. فكأن شيئا لم يكتب من طرف المؤرخين التونسيين أو كأنه لا يوجد مؤرخون أجانب تخصصوا في تونس المعاصرة وكتبوا حول ما يقدمه البعض اليوم كجراح ماضينا.

لا أراني أغالي إن قلت بأن هناك محاولة لإنشاء تاريخ شعبوي موازي للتاريخ الأكاديمي ودفاعا عن هذا التاريخ المعرفي أريد أن أذكر، كباحث، بالإطار العام لأحداث مهمة طبعت تاريخ تونس ربما يتجاهلها التوجه الشعبوي من أجل الاستيلاء على التاريخ. مجمل الأفكار هنا خلاصة بحث بصدد الإنهاء قد يرى النور قريبا.

من الواضح أن العودة إلى تاريخ 1955 مبعثه الحرص على إدراج الملف اليوسفي في العدالة الانتقالية. غير أنه وجب التنبيه إلى أن الفتنة البورقيبية اليوسفية ليست حدثا استثنائيا تميزت به الحالة التونسية. فأغلب الدول العربية وغير العربية التي حصلت على الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية عرفت موجة من الاضطرابات. حصل في المغرب شقاق بين المؤسسة الملكية وبعض قيادات الجيش إثر المواجهة الحربية مع الجزائر. كما حصل صراع داخل جبهة التحرير الوطني في الجزائر بين بن بلّة وبومدين وانتهى بانقلاب.

مصر بدورها شهدت صراعا بين القصر والجيش انتهى بانقلاب الضباط الأحرار سنة 1952. كذلك كان الشأن في سوريا وفي العراق من خلال تعدد الانقلابات العسكرية. كل هذه الأزمات كما الأزمة التونسية هي أزمة سلطة وليست أزمة علاقة السلطة بالمجتمع أو بالمعارضة كما يحاول البعض إبرازها. المهم أنها كانت ظاهرة عامة حتى أن أحد الدارسين (موريس فلوري) أطلق عليها مصطلح المرض الطفولي للاستقلال. وبالتالي لا بد من تنسيب الصراع اليوسفي البورقيبي والتوقف عن تحميل الماضي هموم الحاضر.

أما من حيث الحيثيات، فمن الثابت أن بن يوسف لم يكن يعارض مبدأ الاستقلال الداخلي ولا التفاوض حوله كما أقر من موقعه كأمين عام للحزب في اجتماع 3 أوت 1954 في جينيف. نضيف إلى ذلك أن احترازات بن يوسف على محتوى الاتفاق مع فرنسا سواء في مسألة الاستقلال الداخلي أو حتى في الاستقلال التام لاحقا كان قد عبر عنها بورقيبة وأنصاره أتفسهم مثلما تثبته تدخلات النواب في المجلس القومي التأسيسي سنة 1956. لم يكن هناك خلاف كبير حول قراءة الواقع بل حول منهجية التعامل معه بالإضافة إلى الطموحات الشخصية حول الانفراد بالقيادة كما تؤكد عديد الشهادات. وربما يفسر اختلاف وجهات النظر بين بورقيبة ومن ورائه أغلب كوادر الحزب من ناحية والأمين العام صالح بن يوسف من ناحية ثانية بتوجه هذا الأخير إلى الدعاية للقضية التونسية في الخارج في حين بقي بورقيبة منشغلا بإدارة الوضع في الداخل من منفاه. توجه بن يوسف الخارجي واحتكاكه بوضعيات آسيوية نمت فيها فكرة المقاومة المسلحة للاستعمار بالإضافة إلى تأثير مصر الناصرية جعله يذهب أكثر في اتجاه الحسم النهائي الفوري مع ما يستدعيه من صدام عنيف.

في المقابل كان بورقيبة يتحرك ضمن منطق الواقعية خاصة وهو المسؤول عن العلاقة مع الإدارة الاستعمارية في الداخل. ربما كانت هذه الواقعية وراء السند الذي وجده بورقيبة من طرف أغلب كوادر الحزب ومن طرف جزء كبير من قواعده وكذلك من المنظمات الوطنية الفاعلة مثل الاتحاد العام التونسي للشغل. لكن بغض النظر عن هذه الحيثيات، أثبتت الأحداث اللاحقة صحة الرؤية البورقيبية بتأكد التوجه من الاستقلال الداخلي نحو الاستقلال التام. وربما بإمكاننا أن نذهب أبعد في تقييمنا لمآل الصراع البورقيبي اليوسفي بالقول بأن إقصاء بن يوسف ربما جنّب تونس الوقوع في تأثير الفكر العروبي الثوري أنذاك بمعطييه الرئيسيين: هيمنة الصبغة العسكرية على الحكم ثم المحافظة الاجتماعية. فنجاح صالح بن يوسف ربما كان سيعطل مسار التحديث الاجتماعي في تونس وربما كان سيقلص من هامش مدنية الدولة (مقارنة مع الصبغة العسكرية) على شاكلة التجربة المصرية والبعثية والجماهيرية الليبية. فطبيعة مسار تشكل الدولة الوطنية في تونس لم يكن ليسمح بانتصار التوجه الذي تبناه فجأة صالح بن يوسف ولحسن حظ تونس أنه لم ينتصر.
في إطار الحماسة الشعبوية لإعادة كتابة التاريخ، تطرح اليوم أيضا قضية المقاومين. إذا تناولنا الأمر من وجهة نظر معرفية نقول بأن الموضوع يندرج في الحقيقة في إطار دور الجماهير في التحرر الوطني. فدور النخبة الوطنية السياسية يبقى منقوصا إذا لم يكن مستندا على زخم جماهيري فاعل.

يبرز دور هذه الجماهير في بناء الوطنية في السياق الاستعماري من خلال المجموعات المتمردة مثل الثوار المقاومين الذين يلعبون دور همزة وصل في لحظات ما بين عامة الشعب والطبقة السياسية. إذ يعطي هذا الفعل الشعبي للوطنية كشعار نخبوي امتداده السياسي والمجتمعي. هكذا يمكن أن نفهم موقع شخصيات مقاومة مثل البشير بن سديرة ومحمد بن صالح الدغباجي والأزهر الشرايطي. فصورتهم تعزز من الانسجام المجتمعي حول الوطنية من خلال موقعها كرمز من رموز الذاكرة الاجتماعية الوطنية. ولا يقتصر حضور الجماهير فقط على هذه الشخصيات المقاومة بل نلمسه كذلك من خلال المشاركة المباشرة في الفعل السياسي الشعبي مثل مقاطعة الترامواي أو مظاهرات 8 أفريل 1938 أو ديسمبر 1952 على إثر اغتيال فرحات حشاد. لقد مثل الفعل الشعبي وسيلة ضغط حقيقية على السلطات الاستعمارية كي تقبل مطالب الحركة الوطنية التونسية خاصة في ظل التواصل الذي كان موجودا بين هذه الجماهير والقيادة السياسية. لا تعارض إذن في نشأة الوطنية التونسية بين دور النخب وبين دور الجماهير أو ما تفرزه من بطولات. فإن كانت النخب سباقة في بلورة المشروع وفي المبادرة بالتعبير عنه وفي القيادة من أجل تحقيقه فإن دور الجماهير مهم في إعطائه الشرعية المجتمعية وفي توسيع التجانس حوله. غير أن برامج التعليم ركزت في الفترة البورقيبية فقط على فعل بورقيبة وصحبه، لكن دون أن يشكل ذلك حاجزا أمام المؤرخ الأكاديمي لكتابة التاريخ المعرفي. دون ذلك فقد تغيرت أغلب مواد التاريخ الرسمي البورقيبي تحت وزارة محمد الشرفي لتشمل تعبيرات أخرى من العمل الوطني.

كيف نحكم على بورقيبة؟ أعتقد أن السؤال الأكثر وجاهة هو في أي إطار نقيمه؟ هل باعتباره مجرد شخص حكم دولة أم أكثر من ذلك؟ أختصر الإجابة هنا بالقول بأنني أحكم عليه في سياق مسار تشكل الدولة الوطنية. في هذا الإطار يعد بورقيبة من طينة البناة المؤسسين مثل نابليون وأتاتورك والميجي في اليابان. إنها طينة الاستبداد النير المؤسس الذي لم يحفظ لهم التاريخ طبيعة حكمهم بل أنجازاتهم في التحديث. هذا هو بورقيبة قبل السبعينات ومن الإجحاف مطالبته بالديمقراطية قبل ذلك. خلال السبعينات تطور التحديث التونسي في اتجاه المطلبية الديمقراطية التي لم يستطع بورقيبة أن يجاريها فدخلت البلاد في أزمة عميقة.

لا يسعنا المجال هنا للتوسع أكثر في هذه الإشكالات التاريخية. غير أنه لا بد من التذكير بأن العدالة الانتقالية لا تكون إلا في إطار الدولة الوطنية وليس ضدها. دون ذلك فنحن إزاء عدالة إيديولوجية تعتمد على إنشاء تاريخ موازي للتاريخ الأكاديمي، وذاكرة شعبوية موازية للذاكرة الوطنية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115