دعوا التعليم: العمومي وشأنه

بقلم: خديجة بن دحمان

نظرت إليهم وهم يوم الامتحان يفكّرون ويخطّون، نظرت إليهم وهم في صفّ الجامعة، يجلسون على نفس المقاعد والكراسي ويكتبون على ذات الأوراق. نظرت إليهم وقد اختلفت الملابس والنظّارات والأقلام والحقائب، اختلفوا في الوضع وتساووا أمام نفس ورقة الامتحان

وتذكّرت يوم ذهبت إلى إحدى المدارس الإعدادية النموذجية ونزلت أنا من سيّارتي الفخمة ونزل هو من على درّاجته.
دخلنا سويا إلى نفس المكتب وطلبنا ذات أوراق الترسيم لطفلينا.

كانت ملابسه باهتة اللون ولكنها نظيفة مرتبة، تعلو محياه ابتسامة واثقة. نطق بجمل موزونة وتكلّم بلهجة مهذّبة.

رأيت ذات الرجل مرات بعد ذلك ومرات. كان يركن دراجته أمام المدرسة وتهرع إليه إبنته ضاحكة مبتسمة. ينظر إليها وقد إختزل في عينيه جميع الأحلام التي يرسمها لها ومعها، يضع حقيبة إبنته أمام المقعد وتجلس هي وراءه تتشبث به ويمضيان.
لا أدري لماذا كان هذا المشهد يؤثر في نفسي أيما تأثير، ربما لأنه يقف شاهدا على أنّ العلم مشاع للجميع ومن ورائه الحلم يبقى متاحا للجميع.
حقيقة مؤثرة أن نرى بأعيننا أن الإمكان مرتبط فقط بالقدرات الذاتية، بالرغبة الشخصية وبعزم القوى.

لا يمكن أن يكون لمجانية التعليم من معنى آخر لا يمكن أن يكون لمجانية التعليم الجيّد من معنى آخر. فمعنى المجانية لا يستقيم بدون توصيف الجودة. مجانية التعليم التي نصبو إليها وتؤثر فينا تحوي بالضرورة مفارقة بين القيمة وغياب المقابل، قيمة تتساوى في إطارها حظوظ المتعلمين بين راكب لسيارة فخمة ونازل من على درّاجة.

تلك البنت وكذلك إبني نتاج لتعليم عمومي جيّد أسس فيه المربي بعلمه وجهده لعقول صغار تتساءل وتفكر وطبع قلوبهم برغبة جامحة في التميّز والأهم بإيمان بالعلم كقيمة.
منظومة التعليم العمومي الجيّد قيمة تنتج قيمة.

هذا المشهد الجميل مازال ممكنا ولكننا لا نقف على عموم إمكانه كما هو مفروض على التعليم أن يكون عموميا. الأسباب عدة قد ننظر فيها ما ننظر ولكن لا يجب أن يغيب عن أعيننا أنّ المنظومة التعليمية والتربوية عموما مرتبطة بنمط عيش وحياة تتشابك فيه معطيات عدة من عمل المرأة والرجل إلى التوقيت الإداري إلى التوزيع العمراني إلى غلاء المعيشة ويمكن أن نصل بهذه المعطيات إلى اختراع المحرّك.

تشخيص الأسباب مهمّ لوصف سبل الإصلاح كما هو تشخيص المرض مهمّ لوصف الدواء. وأعلنوا الإصلاح فاختزلوه في تغيير الزمن المدرسي فرأيت الأطفال يفرغون من عطلة ليتهيؤوا لأخرى ورأيت المعلمين والأساتذة يتخبطون، يصارعون الزمن لإنهاء البرامج المدرسية في الإبّان ولتبليغ المعلومة فيما ما تبقى من الوقت.

غيروا الكتب المدرسية وصبّوا جهدهم على تغيير المشاهد والصور كي لا يبدو الأب جالسا على أريكة يقرأ صحيفة وتنكث الأم على طاهية في المطبخ تعد العشاء والحساء.

لا أريد بقولي هذا إثارة حفيظة المدافعين والمدافعات عن حقوق المرأة والمساواة بينها وبين الرجل. حقوقها مشروعة وصراعها من أجل هذه الحقوق مشروع ولكن يخطر ببالي فقط قول لابنتي الصغرى عندما وجهت لي يوما الخطاب قائلة : «ما أحلى الدنيا يا أمي عندما ألعب في المساء مع أبي بينما تعدين لي ولنا عشاءا لذيذا اشتهيته ؟» ويرد عليها أيضا أن تمازحني قائلة : « لا تغضبي يا أمي فإن أبي يعد هذا الطبق أحسن منك !»

لا أريد أن ألتهي عن أصل القضية كما أرادوا لنا عندما نسوا أو تناسوا الأصل في الإصلاح، عندما لم ينكبّوا على إصلاح المناهج التعليمية ذاتها ولم يختزلوا الكم الهائل من الدروس فيما هو أساسي ويعدّ بالنسبة لكل مادة الحلقات القاعدية للتعلم لأنها من أساسيات المادة بحيث لا يجوز عدم معرفتها وهي بالتالي حلقات تتكرر بأوجه مختلفة في الحيز الذي تطاله المادة، أمر كان سيجنبنا التشبه المؤلم للمتعلّم بإمرأة حبلى يفرغ بطنها بمجرّد الولادة على ورقة الإمتحان.
يريدون إلغاء المدارس الإعدادية والمعاهد النموذجية: التفرقة بين المعهد العادي والمعهد النموذجي تضرّ بنفسية الطفل المتعلم في الضفتين وتتعارض مع سياسة الدمج والإدماج. هكذا قالوا.
الصّحة النفسية للطفل والكهل عموما تفترض منّا إذا إلغاء كل المتناقضات وإلغاء كل مدلولاتها اللغوية فلا غنى وفقر ولا جهل وعلم ولا نجاح وفشل وحتّى لا حياة وموت.

يغيب عنا أنّ الإنسان كائن محكوم بمبدأ النسبية وأن المتناقضات تؤسس تباعا لبعضها البعض وأن الأشياء لا تعرّف فقط إستنادا إلى ما هيتها وإنما أيضا انطلاقا من أضدادها، أنّ الحياة في نهاية المطاف لا تستمدّ حلاوتها وبريقها إلا من حقيقة الموت.
فعن أي ضرر بالصحة النفسية يتحدثون إذا كانت الطبيعة ذاتها سائرة بمنطق الفرز وإذا كانت المنظومة تفور بالضرورة المتميّز عن الأقل تميّزا.
ألم يروا مرّة مشهد ولادة صغار السلاحف ومشوارها المهيب نحو الحياة واليمّ، ألا تفرز الطبيعة آنذاك القوي عن الأقل قوة.
نقف دائما عند ظاهر الأشياء فتغيب عنّا البديهيات : الضرر في كل شيء مرده غياب العدل.

لا يصدمنا ولا يكبتنا عدم وصول صغار السلاحف إلى البحر لأن جميعها وضعت منذ الأساس في نفس الظروف فالشط واحد والمسافة ذاتها والبحر ينتظرها جميعها ولو كان لإحداها أن تبعث من جديد لحسنت وطوّرت ولربما وصلت.
غياب الحتمية يعزّينا.

غياب الحتمية يعزّينا كما تعزّينا مدرسة عمومية تجمع بين أبناء الوطن الواحد، تتألف فيها القلوب وتغيب عن أعين الصغار فوارقهم ، يتقاسمون اللمجة وتختلط أنفاسهم وأدواتهم ولا يسوؤهم ما يملكه الآخر دونا عنهم لأن قلم الآخر يجرّبونه ولمجة الآخر يتذوقون منها وحب الأخر يتعلمونه رويدا رويدا.

غياب الحتمية يعزّينا كما يعزّينا أن يدمج الأطفال على هذه الشاكلة وأن يضعوا في ذات الظروف لتلقي العلم وأن يقع تحييد تأثير العوامل الخارجية على عملية التلقي تلك لأن المعلم الفاضل بخبرته وعلمه وتفانيه في عمله سيغني الطالب عمن سواه.
غياب الحتمية يعزّينا كما يعزينا مشهد أطفال يتهافتون ويتراكضون، مفعمة قلوبهم بالأمل. معلّقة أفئدتهم بتحقيق الحلم لأن العلم يجعل الولد رجلا ويمكّن البنت من إنتشال عائلتها من الفقر والخصاصة.
هذا المشهد لم نحلم به، هذا المشهد عشناه عندما أرادنا أن نعيشه وإبتعدنا عنه أميالا عندما أرادوا بنا أن نبتعد لو كانوا يعلمون أم تراهم يعلمون.
هل يعلمون أننا كنا نتخبّط داخل المعبد ونتصايح للتنظير لسبل الإصلاح والغاية المعلنة نهوض بالمنظومة التعليمية.

هل يعلمون أنهم الآن يهدون المعبد على أ نفسهم وعلينا جميعا.
ألهاهم التصايح ونسوا الإصلاح ومن يتربص بهم وينتظر.

ألهاهم التسابب ونسوا معنى عيون أطفال تترقّبهم وترقبهم وأعناقهم مشرئبة إلى السبورة وسيدهم ينتظرون أن يخطّ على صفحتهم البيضاء ما يخطّ وله أن يخطّ فكم من أقدار تحرّكت تحت وطأة كلمات أفرغها المربي في آذان الصغار وكم من سباب إنتشلتهم قدوة حسنة لأستاذ منتم لتلاميذه من طرق لا رجعة لسالكها.

ألهاهم التّعايط ونسوا ما يمكن أن نعانيه كل يوم عندما نملي على صغارنا الوصايا العشر : إحترم المعلم ، قدّر الأستاذ ، ركّز في القسم ، إنتبه لدرسك، أنصت لأستاذك فينظر إلينا صغارنا نظرة نفقه حقيقة معناها كما يفقهونها. فنصمت ولا نردف ونتشبّث بأن إحترام الأستاذ من المسلمات كما في الرياضيات نأخذها على إطلاقها ونعتبرها حقيقة فلا نبرهنها.

ألهاهم التصايح والتسابب والتعايط حتى وقفوا على أنقاض المعبد، كلا سيعلمون ثم كلاّ سيعلمون أنه كان بأيديهم تثبيت أولى الوصايا : «إقرأ» وأنّ النشء كالزرع أمانة بين أيديهم وأنّ حمل ثقل الأمانة محمول عليهم.
سوف يعلمون علم اليقين أنهم داسوا على حلمنا وحلمهم جميعا في شعب قوامه أولى الوصايا ودعامته علم نجتمع به وحوله ونعمل من أجله وأجل عمومه.
لو استطاعوا معنا صبرا لفهموا أنّ محرّك التنمية بأيديهم. وأنهم يقينا حاصدون ما زرعوا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115