في تدبّر الانتقال الديمقراطي بمعية غرامشي قراءة في الكتاب الأخير لبكار غريب Penser la transition avec Gramsci Tunisie 2011 -2014

بقلم: ماهر حنين

نجح الباحث الجامعي والكاتب بكار غريب مرة أخري في أن يستحثنا للتفكير معه في ضرورات جهد فكري بحثا عن مقدمات نظرية ليسار ديمقراطي جديد فبعد كتابه الأول حول الدعوة إلى الـتأسيس ليسار تونسي جديد الصادر سنة 2012.

يطرح مؤلف كتاب «تدبر الانتقال الديمقراطي بمعية غرامشي» على الساحة الفكرية والسياسية إشكاليات الانتقال الديمقراطي في تونس من زاوية نظر غرامشية مستنجدا بمفاهيم المفكر الإيطالي ومسكونا بهاجسين أساسيين هاجس البحث النظري النقدي بالعودة إلى منتجات الفكر والمفاهيم لقراءة الواقع المركب وهاجس الفاعل السياسي اليساري والنقابي القلق على عزلة اليسار السياسي التونسي وغربته في بلادنا. وفي كلا الحالتين يترجم بكار عن رغبة صادقة وإرادة قوية في الالتزام بالقيم التي يعتنقها بعيدا عن عفوية الحركة و استخدام سلطة المعرفة أو ادعاء امتلاك اليقين. في ذات الحين.

ليست الصداقة وحدها هي التي تحملني على قراءة ما يكتبه بكار غريب بل قيمة ما يكتبه وجرأته في طرح الإشكاليات و الإقدام عليها والدعوة إلى التفكير فيها في الفضاء العمومي مجسدا بذلك قاعدة أساسية من قواعد الأنوار الكانطية وهي أن يكون إعمال العقل حراّ وعلنيا في كل المواضيع و. تطبيقا لفلسفة الفعل العزيزة على صاحب دفاتر السجن

السؤال المزدوج الذي يخترق المؤلف الجديد يقترن بمدى راهنية غرامشي والغرامشية ونحن نتدبر سبل التفكير في انتقالنا الديمقراطي منذ ست سنوات وبالتكتيكات والتمشّيات التي يمكن أن تهدي اليسار التونسي إلى دور بارز في الحقل السياسي الوطني اليوم . وفي المدي المنظور .خاصة وأن مطالب الثورة الأساسية اقتصاديا واجتماعيا لا تزال إلى اليوم مؤجلة بل يراد الالتفاف علىها

المجتمع والدولة بين ثورة 1956و2011

يوظف بكار مفاهيم عدة من ابرزها الثورة السالبة و الكتلة التاريخية و الهيمنة الثقافية لتحليل ثورة الاستقلال الأولى وبناء الدولة مستخلصا دور النخب الليبرالية المتعلمة ووريثة تيار الإصلاح الصادقي من جهة ودور القوي الاجتماعية المتشكلة في الاتحاد العام التونسي للشغل في معركة التحرر الوطني وفي مشروع بناء أسس حداثية وعصرية للدولة الوطنية والمجتمع الجديد في وضع شبيه بما عاشته إيطاليا في بداية القرن العشرين . غياب المجتمع عن هذه الثورة الفوقية الأولى يعود إلى ضعفه الموضوعي وهو لا ينقص من قيمة هذه الثورة التونسية بل يؤكد عن حق ريادتها التاريخية في مجال تحرير المرأة و تعميم التعلىم و الصحة و تحمل الدولة مسؤولية النهوض بالاقتصاد والمجتمع .

الثورة الثانية لم تكن سالبة في فاتحتها ومنعرجاتها الحاسمة بل شهدت دخولا جللا للجماهير و للمجتمع بمختلف قواه و طبقاته وتعبيراته في إسقاط النظام أولا ثم في تجسيد الاستقطاب بين القوى والتحالفات السياسية التي كانت تتشكل وتتفكك وتعيد التشكل في نسق متسارع تحت ضغط الشارعين الثوري حينا و الانتخابي حينا آخر وهو استقطاب اختزل في الأخير بين التيار الديمقراطي المدني و تيار الإسلام السياسي.

حصيلة هذه الثورة الثانية هي استعصاء تشكل طرح يساري متميز ووازن وهي مسؤولية يحملها الكاتب لليسار ذاته مما جعل من بناء كتلة تاريخية جديدة تواجه كتلة الإسلام السياسي على أرضية مكاسب الدولة الوطنية في المرحلة السابقة لا مجرد خيار بل إكراها تاريخيا تفطن إلىه حسب تحليل بكار غريب اليسار الإصلاحي مبكرا و اليسار الراديكالي لا حقا .

حقيقة البنى الاجتماعية العميقة من جهة و دور مؤسسات الدولة و المجتمع المدني من جهة ثانية فضلا عن طبيعة الثقافة السائدة في أوساط الجماهير تجعل من خوض المعركة من أجل هيمنة ثقافية للقيم الديمقراطية و المدنية و الليبرالية مهمة محورية لقوى اليسار اليوم وذلك بالنظر إلى الدور المتنامي للمجتمع المدني و مكونات البنية الفوقية في المقاربة الغرا مشية للانتصار السياسي الذي يبدأ أولا بانتصار الأفكار التحررية و هيمنتها في المجتمع مقابل تراجع الأفكار الرجعية و الأصولية .
هذه المعركة التي اقتضاها التشكل التاريخي للعقل السياسي الجمعي في سياق التجربة التونسية جعلت من اليسار حليفا متحمسا لدى البعض ومكرها لدي آخرين للنخب والقوي الاجتماعية المنتمية للنظام القديم سياسيا واقتصاديا وثقافيا وخصما عنيدا للإسلام السياسي وهو ما تجلى بعد استشهاد قياديين يساريين شكري بلعيد ومحمد براهمي في مشهدّية الساحة العامة قبالة مبنى الجمعية الـتأسيسية كامل أيام اعتصام جبهة الإنقاذ بباردو صائفة 2013 .وهو ما يعني في رأيي اضطلاع اليسار المتعدد بدوره التاريخي في حسم معركة المواقع ونحن نفاوض حول بنود دستور الثورة.

في معنى العودة الثانية إلى غرامشي
مهمة جدا هذه الدعوة الملحة لمناضل وكاتب يساري تونسي للعودة ثانية إلى الغرامشية وإلى جهازها المفاهيمي بعد العودة الأولى في ثمانينات القرن الماضي حين كان النقاش يدور داخل الساحة الفكرية والسياسية العربية حول دور المثقف ودور المجتمع المدني تخصيصا بعد هزيمة 67 وصعود الإسلام السياسي وتحديات دمقرطة عميقة للمجتمعات العربية خاصة حين نأخذ هذه العودة في سياق تدبر دور وموقع اجتماعي وثقافي وسياسي لليسار في تونس اليوم.

من الصعب ان نتوقع من زعامات لا تزال تصر على الاعتقاد أن حل ازمة اليسار يمر عبر مبايعتها أن يقبلوا هذه الدعوة إلى التفكير وهو ما يفضي إلى الاستعانة بالغرامشية بعدا أخلاقيا يعلى من قيمة قضايا الشعب قبل أي اعتبار آخر فهذ العودة مسكونة بهاجس عملي وهو كيف تستطيع القوى الاجتماعية للمهمشين و المغيبين و المقصيين دخول حلبة الصراع السياسي. ؟ بمعنى ما هي شروط بناء كتلة تاريخية جديدة اجتماعية و ديمقراطية لليسار فيها دور مؤثر؟

لا نستطيع هنا واستجابة جزئيا لدعوة الكتاب إلا الاكتفاء بإشارات مقتضبة لأداتين ومفهومين آخرين من مفاهيم الغرا مشية التي تميز غرامشي و تؤكد الطابع العملي لفكره النقدي فمثل هذه الغرا مشية ربما تساعدنا على تنظير واقعنا والانتباه إلى ممكناته اليسارية الكامنة في الحركة الاجتماعية «التقليديةى و«الجديدة» والحركة المدنية والثقافية والفنية فضلا عن تنظيمات اليسار السياسي بكل أطيافه .وتنيرنا حول مستطاع الكتلة التاريخية الجديدة لتحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

أولى هذه الأدوات هو المجالس العمالية والتي رأى فيها غرامشي بعد الإضراب العام في تورينو صيغة مبتكرة للتنظم العمالي النضالي القادر على تجاوز الهياكل النقابية البيروقراطية المعطلة للصراع الاجتماعي فنحن ( ودون المبالغة في تونسة غرامشي ) نشهد منذ سنوات في تونس تشكل صيغ متعددة من التنظم المدني و الميداني خاصة في أوساط الشباب وفي الجهات خارج السياقات التقليدية فمئات التحركات العفوية والمنظمة من أجل الدفاع عن منظومة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية تشكل اليوم عناصر مكونة أفقيا وتحتيا لكتلة تاريخية جديدة مناهضة للهيمنة والفساد والخيارات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة. هذه الكتلة التاريخية الجديدة والصاعدة تصمها الكتلة التاريخية القديمة والمهيمنة سياسيا اليوم بالفوضوية والمهددة للدولة والاستقرار وترفع في وجهها آليات النظام القديم الأمنية والإعلامية والإدارية لإقصائها. الغرامشية هنا تنبهنا إلى دور المثقف ودور الحزب اليساري كمثقف جماعي في تشكل هذه الكتلة التاريخية الجديدة أو في تفككها.

المفهوم الثاني هو مفهوم الثقافة الشعبية التي لا يدعو غرامشي إلى القطع معها ومحاربتها وتعويضها بثقافة أخري بل إنها بكل مكوناتها الدين الشعبي والفلكلور والحس العام تمثل تصور الجماهير للعالم بالمعني الأنتروبولوجي ولا بد أن نأخدها مأخذ الجد خاصة حين نراها تقف في مواجهة الثقافة الرسمية للدولة و وتعارض تصورات الطبقات المهيمنة والفئات المتعلمة التي تتعفف من هذه الثقافة الشعبية وتزدريها مما يزيد من عمق الجرح النرجسي للفئات المقصيّة و المغيبة ويدفعها إلى الاستمرار في البحث عن انتزاع الاعتراف بها حيثما كان.

من معضلات اليسار التونسي وصمه بالاغتراب عن الضمير الجمعي للشعب و غياب الروابط الروحية والأنتروبولوجية بينه وبين الناس وهم يعيشون حياتهم بل عرف عن اليسار أحيانا تصادمه بإسم الثقافة العلمية و التنوير والحداثة مع جاذبية وجمالية الثقافة الشعبية وربما يكون من المجدي لمثقفي اليسار اليوم مد الجسور قوية بينهم وبين هذه الثقافة في كل أبعادها وجعلها أداة من أدوات الهيمنة الثقافية من أجل الحق في الكرامة والعدالة.

من المؤكد أن النقاش الذي دفعنا إلىه كتاب بكار غريب حول راهنية غرامشي سيتواصل في أوساط مناضلي اليسار وخارجهم لأننا فعلا في مفترق طريق ومن المهم أن يقترن إنجاز مهام الانتقال الديمقراطي بالتفكير فيه . بل لا بد من هذا الاقتران.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115