Print this page

تجاوزات رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة وصمت القصور

مصطفى بعزاوي
عضو هيئة الحقيقة والكرامة
رئيس لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات سابقا

يتواصل مسلسل استخفاف رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة بالمنظومة القانونية في تونس لرفضها الإذعان للأحكام القضائية المتعددة والقاضية بإلغاء قرارات إعفاء أعضاء من الهيئة في ظل صمت غير مفهوم يشبه صمت القبور.
بعد الإعفاء القسري الذي تعرض له عضوان من مجلس هيئة الحقيقة والكرامة وبعد صدور احكام قضائية لصالحهما في إيقاف تنفيذ الإعفاء وتبليغ مضمون القرارين إلى السيدة رئيسة الهيئة لا يزال الوضع على ما هو عليه من تجاهل بن سدرين لهذه الأحكام وامتناعها عن الإذعان لقرارات المحكمة الإدارية.

ما يميز تصرفات رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة هو سياسة الأرض المحروقة من خلال تعمد اتخاذ قرارات فردية مهما كان ثمنها وكذلك فرض سياسة الأمر الواقع من خلال عدم الإذعان لهذه الأحكام القانونية وممارسة سلطة لا تمتلكها في تطهير الهيئة من اعضاء لا تملك ولاءهم لتحقيق عدالتها الانتقالية.

وحتى باعتبارنا معارضة داخل الهيئة وأننا لسنا من بطانة الرئيسة وحاشيتها فلا يحق لها إعفاءنا من عضوية هيئة منتخبة إلا بما ينص عليه القانون لأنها بذلك تنسف الفصل 60 من الدستور الذي يعتبر المعارضة مكونا أساسيا في مجلس نواب الشعب الذي انتخبنا. فلا يحق لأحد ضرب التنوع والاختلاف داخل مؤسسات المجتمع والدولة.

ورغم ان احترام حقوق الإنسان هو من صلب عمل العدالة الانتقالية وان إرساء ضمانات بعدم تكرار الانتهاكات يعتبر من المهام الأساسية لهيئة الحقيقة والكرامة إلا ان رئيسة الهيئة تنسف هذه القواعد وتضرب هذه الأهداف في علاقتها بأعضاء الهيئة نفسها.

ولا نرى فائدة في التذكير بان إعفاء أعضاء من الهيئة واستقالة آخرين كان فرصة لتدارك نقائص إدارة هذه الهيئة ومناسبة لتصويب البوصلة باتجاه تحقيق الأهداف التي من اجلها وجدت هذه المؤسسة لكن ما حصل هو العكس حيث تمادت رئيسة الهيئة في سلوك طريق التجاهل والتعنت مستقوية بدعم غير مشروط من بعض الأطراف مما شجع الرئيسة على التمادي في سلوك الانفلات والتصرف الفردي والعند واستغلال الصفة لتفعل في مسار العدالة الانتقالية ما تشاء.
لكن المحير في هذا الملف هو صمت القصور الثلاثة إزاء هذه التصرفات الانفعالية والمنفلتة لرئيسة الهيئة.

صمت قصر قرطاج باعتباره المكلف باحترام الدستور وفق أول صلاحية دستورية ممنوحة للسيد رئيس الجمهورية كما جاء الفصل 72 من الدستور الجديد. ثم إن الأحكام القضائية تصدر باسم الشعب وتنفذ باسم رئيس الجمهورية وفق الفصل 111 من نفس الدستور فكيف يقف قصر قرطاج صامتا امام الاستخفاف والاعتداء على صلاحياته الدستورية؟

وكيف يصمت قصر باردو أمام خرق وتجاوز أحكام القانون الأساسي عدد 53 الذي صوت عليه وتبناه وأوكل إلى هيئة مستقلة مهمة إنجاز العدالة الإنتقالية. فهل أصبح قانون العدالة الانتقالية حصانة لخرقه والانحراف عنه. المتعارف عليه في كل الأنظمة أن القانون يكتب ليحترم ويطبق وينجز المهام التي وجد من اجلها.

وصمت قصر القصبة على تجاوزات الرئيسة أقلها عدم الإذعان للأحكام القضائية وقد نص الدستور في المادة 92 ان الحكومة تسهر على تنفيذ القوانين.

وأكثر ما يدفع للدهشة والاستغراب إذا عرفنا ان مسار العدالة الانتقالية هو مسار يعنى بتأسيس الانتقال الديمقراطي على أساس احترام حقوق الإنسان وإرساء قواعد الشفافية والعدل والإنصاف داخل مؤسسات الدولة. فكيف نأمل في وجود مؤسسات تلتزم علوية القانون بتصرفات تخرقه علنا ؟ خاصة وان رئيسة الهيئة ضليعة في ملفات حقوق الإنسان وتستند إلى خبرة في هذا المجال. فهل مسحت صفتها كرئيسة لهيئة مستقلة مبدئية احترام الحقوق التي كانت تدافع عنها ؟

لا احد من المهتمين بمسار العدالة الانتقالية طرح مجرد نقطة استفهام او اكثر حول مسار العدالة الانتقالية العرجاء ولا احد تساءل بجدية إن كان هناك عثرات وثغرات يمكن الوقوف عندها لإنقاذ مشروع وطني من السقوط في الخيبة والفشل.

ربما يفهم من هذا الصمت المريب أنه لا احد يعتبر نفسه معنيا بهذه التجاوزات التي تهدد مسار إنجاز العدالة الانتقالية بما يكفل تحقيق مهامه الخمس وهي كشف الحقيقة وحفظ الذاكرة, المساءلة والمحاسبة, جبر الضرر ورد الاعتبار, إصلاح المؤسسات والمصالحة الوطنية.

مع أن مسار العدالة الانتقالية في تونس ربما يكون نموذجا لإرساء مسارات انتقالية أخرى في بلدان مجاورة. ما يعني ان نجاح او فشل هذا الخيار سينعكس بالضرورة على تبنيه من عدمه في البلدان العربية التي تعيش الآن توترات واضطرابات مسلحة وعنيفة. قد يشكل هذا الصمت عاملا وسببا في فشل هذه التجربة. فلماذا تجعل تونس من نفسها نموذجا لفشل تجربة العدالة الانتقالية في البلدان العربية وتؤكد مرة اخرى ما يروج في دوائر النخب والمثقفين في الغرب ان العرب والديمقراطية ضدان لا يلتقيان.

وربما يكون الصمت المريب كذلك رغبة عند البعض في فشل هذه التجربة وانتظارا بفارغ الصبر لنهاية مدة عملها حتى يغلق هذا الملف الذي كانوا يتمنون ان لا يفتح اصلا ؟.

وربما يستحضر البعض صورة « القط الأسود « في مخيالنا الشعبي لتبرير صمت القصور على تصرفات رئيسة الهيئة. لكن هذا لا يفسر سكوت وصمت الداعمين لرئيسة هيئة الحقيقة ان يسمحوا لها بالدوس على القانون وتفقد بذلك نقطة قوتها التي تعتمد عليها في تقديم تقاريرها إلى مجلس نواب الشعب وإضفاء الحد الأدنى من المصداقية على نتائج اعمالها.

فكيف لهيئة أن تقدم مقترحات لإصلاح المؤسسات أو لضمان عدم تكرار الانتهاكات إذا كانت هي نفسها تقوم على خلل جسيم في الإدارة وتعلن عدم الالتزام بالقانون؟
واستنادا إلى الدستور الجديد الذي ينص على استقلالية مرفق العدالة نضيف قصرا آخر من القصور الصامتة وهو « قصر العدالة» الذي يعني في أذهاننا السلطة القضائية. كيف يسكت هذا القصر على تعمد رئيسة الهيئة تجاهل الأحكام القضائية وهي ترمي علنا وفي وضح النهار جانبا الأحكام القضائية ولا تعتبر إنفاذ الأحكام محمولا عليها وتضيف بالعلن والتصريح ان المحكمة الإدارية هي المعرقل الثاني لعمل الهيئة وعقبة امام مسار تحقيق العدالة الانتقالية كما جاء حرفيا على لسان رئيسة الهيئة في تصريح مطول لجريدة الصباح بتاريخ 14 جانفي 2017 .

يمكن ان نفهم كيف أن الواقع المضطرب للبلاد وتشعب القضايا والملفات الحارقة التي تشغل بال كل الأطراف يدفع رئيسة الهيئة لتجاهل ردة فعل كل هذه « القصور « وتعمدها المضي قدما في ممارسة تجاوز السلطة لأن البيئة مناسبة للانفلات من الرقابة القانونية والأخلاقية خاصة ان « كل فول لاهي في نوارو «. لكن النتيجة في النهاية واحدة وهي ان تجربة العدالة الانتقالية ستخرج مشوهة بهذه الممارسات وستلحق بها خدوشا عميقة يمنعها من تحقيق الأهداف التي وضعت من اجلها ويجعل الطعن في اعمالها من أبسط ما يكون.
هيئة الحقيقة والكرامة وبرغبة وتعمد من رئيستها أصبحت تفتقر للحد الأدنى من الشرعية في غياب النصاب القانوني. وهو خيار نعتبره مقصود من رئيسة الهيئة بحكم انها من تتحمل مسؤولية هذا الخلل الفادح ما سيحرمها من الغطاء القانوني لتقديم مخرجات عملها ويجعل الطعن في قراراتها أيسر من النظر في محتواها.

خيار تعمدته رئيسة الهيئة بالدفع نحو الاستيلاء على مشروع وطني تديره بخيارات فردية لا تستند فيه سوى إلى دعم سياسي آحادي لم يعد خافيا على احد وعوض إنجاز مشروع العدالة الانتقالية وفق القانون الأساسي عدد 53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2014 سنجد انفسنا امام مشروع العدالة الانتقالية في « نسخة رئيسة الهيئة» فاقدا للشرعية وقابلا للطعن والإسقاط والتشكيك.
فهل يرضي واقع حال هيئة الحقيقة والكرامة ما كان ينتظره المشرع من قانون العدالة الانتقالية ؟ وهل يرضي هذا الواقع ضحايا الاستبداد ؟ وهل تتوافق هذه الصورة مع أهداف الثورة وتطلعات الانتقال الديمقراطي من مؤسسة هيئة الحقيقة والكرامة ورئيستها؟

نثمن كل من تفهم موقفنا وساندنا لكن باحتشام كبير تحت الهواء – بمصطلحات الإعلام البصري – ولا نعلم إلى حد هذا الوقت ما إذا كان هذا الصمت وهذا السكوت على تجاوزات الرئيسة يقر الجميع بوجودها خوفا منها أم خوفا عليها ؟.

المشاركة في هذا المقال