حديث الأنا: 3 - أيّ منوال للتنمية؟ مع الدولة الضعيفة يسوء الحال ويعسر العيش المشترك

رغم ما حصل من فشل في التجربة الاشتراكيّة وما كان من شعبويّة خانقة مع مزالي ومن فساد وتسلّط مع بن عليّ، مازال الناس في تونس يرون الدولة خليفة الله على الأرض، هي السماء العليا. مازال الكثير من الشعب التونسيّ ومن الأحزاب والمنظّمات يعتقد أنّ للدولة دورا مركزيّا

وهي المسؤولة عن كلّ كبيرة وصغيرة وهي المرجع. يدعو أهل اليسار الدولة أن تظلّ صاحبة الحلّ والعقد، راعيّة، وليّة على الناس، حريصة، مراقبة...

 

هذه النظرة الربّانيّة للدولة، كان من تبعاتها أمران. أوّلا. اعتقد رجال الدولة أنهم موكّلون على الشعب. أنّهم السند وبيدهم الحلّ والعقد. يحملون أعباء الوطن جميعا ولن يفوتهم منه شيئا. ثانيا. هذا المعتقد المتداول منذ الاستقلال دفع بالتونسيين الى الاستقالة فتخلّوا عن الفعل وانسحبوا وقد بردت أيمانهم وغدا الخير والشرّ من فعل الدولة وهي وحدها الحاكمة. مع الدولة الربّانيّة، عمّ التواكل في الأرض وترى الناس قعودا، في خمول، يتذرّعون، ينتظرون أن تهبهم الدولة ماء وعيشا...

لا خير في بلد استقال فيه الناس وأوكلوا أمرهم. لن ينجح المسعى لمّا يتنحّى الفرد ويصيب أيمانه تخاذل. لن يحصل مع الدولة الربّانيّة نماء مستديم ولا تنميّة... في ما مضى، فشلت الدولة القويّة في انجاح الاشتراكيّة وعرفت تونس بسبب تعنّت الحكم مرّة وبما أتى من شعبيّة مرّة أزمات عدّة. نجح الحكم القويّ لمّا سعى لتغيير الفهم والقيم، لمّا ترك للأفراد في السوق مبادرة... أمّا لمّا يضعف الحكم وترتعش يمينه، عندها تحصل الطامة الكبرى وتكون المصيبة...

منذ أن اندلعت الثورة وتونس تحيا في ظلّ حكم ضعيف. مع الترويكا ومع حكومة الكفاءات واليوم مع الشاهد، اختلّ الحكم وأصاب الدولة وهن وتشتّت. منذ 2011، تعيش تونس وضعا مبعثرا، فيه اضطراب وخلل... ما الذي أصاب الحكم ولما هو اليوم في مثل هذا التفكّك؟ حصلت انتخابات وأضفيت شرعيّة فما للدولة في مثل هذا الوهن، لا يستقيم لها أمر ولا يستوي لها حكم؟

يهتزّ الحكم ويرتبك لمّا تتعدّد فيه مراكز القرار وتتداخل فيه المصالح. لمّا تعجز الدولة على فرض القوانين والسنن ولا تقدر على تنزيل العنف الشرعيّ. لمّا يلفّ السلطات ضبابيّة في المقاصد وتردّد... منذ الثورة، كثر المتدخّلون في الحكم وتضاربت الغايات وتداخلت السبل. في تونس اليوم، لا أحد يحكم. في تونس اليوم، الكلّ يحكم والكلّ له رأي وقول... أهل القرار، عندنا، زيادة على ما هم فيه من جهل بالحكم، بأدواته، هم أصحاب رؤى مختلفة وقد جاؤوا من كلّ فجّ ورقعة. لا شيء يجمعهم. لا شيء بينهم مشترك. كلّ وزير في وزارته، كلّ مسؤول في مكتبه، كلّ وال في جهته، يأتي ما أراد من فعل، يقول ما شاء من قول. في نشاز، في تبعثر، كلّ يغرّد في موقعه، كلّ يفعل ما ارتأى وما أمر به حزبه. الدولة التونسيّة اليوم شتات. هي جمع مختلف لأفراد لا يجمعهم حسّ ولا فكر. حكومة الوفاق التي أسّسنا هي حكومة فرقاء. «بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى»...

أمّا البرلمان وله الحكم واليه يرجع النظر، فهو الآخر في انقسام وفوضى. كلّ جماعة تدّعي أنّها صاحبة الحقّ ولها القول والحكمة. كلّ جماعة تناور، همّها مواجهة الآخر. في البرلمان، تلقى مزايدات لا تنفع وترى النوّاب بين قول وصدّ، في صراعات لا تنتهي، في غيابات تتكرّر. مع النظام البرلماني، ازدادت البلاد انشقاقا وتمزّقا وتعطّل السير وكثرت اللخبطة... لا يصلح النظام البرلماني في بلد متخلّف فيه عروشيّة والناس العامّة في جهالة وعوز. لا يصلح في بلد لم يعرف أهله حرّيّة ولا قيما ثابتة، مشتركة. تونس، منذ أوّل الزمن، كانت تحت ناصيّة حكم فرد، يحكمها رئيس متفرّد أو باي أو ملك أو أمير مستبدّ...

مع الدولة الضعيفة ذات الرؤوس المتعدّدة، الحكم أشلاء، غير مدرك لما يجري، غير قادر. الكلّ في ضبابيّة، في عجز. يتخبّط. ألم يتساءل حمّادي الجبالي في عجب «أين الحكومة؟» وكان هو رئيسها والحكم في يده... لمّا تضعف الدولة، يعجز أهل الحكم على المسك بالدواليب ويصبح سعيهم لا يرى وصوتهم لا يسمع. ترى الدولة ظلّا، في خشية، في تردّد. تأخذ القرار ونقيضه. تمشي خطوة وتتراجع خطوة. رجال الدولة كرجال المطافئ، الزمن كلّه، بين حريق وحريق، من مصيبة الى أخرى، يطفئون ما كان من نار، ينزعون ما كان من أزمة، يواجهون ما كان من هيج ومن ثور... تحسب الدولة نشيطة، تجري. تراها تسعى. لكن، لا تدري في ما هي تجري ولا الى أّية غاية تسعى...

مع الدولة الضعيفة، يزداد التسيّب وتتفكّك روابط المجتمع ويمسّ الحياة توتّر. تكثر المطلبيّة ويحتلّ الانتاج ويصيب المؤسّسات تعطيل. تنحلّ روابط النفوذ في العمل ويصبح العاملون في تخاذل، في شبه عصيان مدنيّ. كلّ عامل يسعى لنفسه، يفعل ما ارتأى، يأتي ما أراد دون خشية... في المؤسسات العموميّة، في الوزارات، في الجامعات، في المطارات، في الشوارع ، حيث تولّي وجهك تلقى التسيّب ضاربا واللامباة عامّة والخروقات منتشرة. لا أحد اليوم يسيطر، لا أحد يأمر، لا أحد قادر. امّحت السلط وأصاب النفوذ ضياع وفسخ. في تونس، بعد الثورة، أصبح كلّ شيء ممكنا. غدا كلّ أمر مباحا.

لمّا يغيب العنف الشرعيّ تلغى المراجع والقوانين وتعمّ الفوضى ويكون الغاب وترى الناس المغلوبين في غمّ وترى البعض الآخر الى الرحيل يسعى، يبحث عن موطن، عن أرض فيها استقرار وأمل. كذلك، هجّ من البلاد العديد من كفاءاته. عشرات الآلاف من الأساتذة، من الأطبّاء، من المهندسين... هجروا البلاد وقد ضاقت بهم البلاد وانسدّت عندهم الأفق. في المقابل، انتشر في الأرض، من كان من الناس جسورا، له عضلات وعضرطة. هؤلاء هم اليوم من يتسلّط، يغنم، يغور، يتعاطى صناعة ممنوعة، يبيع ويشتري محظورات مربحة. استبدّ في البلاد المهرّبون وقد استأثروا وقووا. تطاول على البلاد الارهابيون. يقتلون. يرهبون الناس. يخرّبون...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115