منبـــــر: قرار تصنيف حزب الله ومواقف النخب التونسية

تابع الشارع السياسي التونسي بقلق واستغراب الارتباك الذي بدت عليه حكومته أمام الرأي العام إثر موافقتها على تصنيف حزب الله منظمة إرهابية من قبل وزراء الداخلية العرب المجتمعين نهاية الشهر المنقضي في تونس ثم موافقتها أيضا على ذات التصنيف الذي قام به وزراء

الخارجية العرب في اجتماعهم في إطار الجامعة العربية. إذ بدت السلطة السياسية محرجة وغير قادرة على الدفاع عن موقفها من منطلقات مبدئية أو اعتبارا لمصلحة البلاد كما تراها. ومن جهة أخرى تعالت أصوات بعض أحزاب المعارضة والمنظمات الوازنة داخل المجتمع المدني مثل الاتحاد العام التونسي للشغل ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين معبّرة عن شجبها لهذا القرار وتنديدها بموافقة الحكومة عليه وحتى عن صدمتها منه وتفاجئها به. ولم تفوّت على نفسها أيضا بعض الوجوه الجامعية والشخصيات العامة، المعروفة بولائها للنظام السابق، الفرصة لتنبري مدافعة عن حزب الله منزهة إياه عن تهمة الإرهاب دون أن تنسى تذكيرنا بماضيها التليد في نصرة القضايا العادلة وعلى رأسها قضية فلسطين والمقاومة للاحتلال الإسرائيلي.

واليوم وبعد أن هدأت العاصفة بعض الشيء لا بُدّ في رأينا من العودة إلى هذه المسألة والنقاش الرصين والصريح حولها دون تشنّج ودون اعتماد لغة التخوين والشتم والشعارات التي لن تفيد، في رأينا، لا تونس ولا القضايا العربية. فلا بُدّ أن نشير أولا أننا كتونسيين كان بودّنا أن تكون حكومتنا منسجمة مع نفسها ولها الحزم والشجاعة الكافيين لأن تقول بوضوح أنها هي المسؤولة عن هذا الملف وأن تذكّر منظّمة مهنيّة كالاتحاد العام التونسي للشغل أنه ليس من دورها ولا من مهامها أن تتدخّل في أمر يخصّ السياسة الخارجية للدولة التي تظلّ حصرا من اختصاص الحكومة والأحزاب السياسية وأن

الطرفين الوحيدين المخوّل لهما مساءلتها فيه هو رئيس الجمهورية ومجلس نواب الشعب، ثم ثانيا كان بودّنا أيضا أن يعقد وزيرا الداخلية والخارجية ندوة صحفية أو أن يأتيا إلى قناة التلفزة الوطنية لبيان الأسباب التي جعلت الحكومة توافق على هذا القرار وتوضيح أهميته بالنسبة للحرب التي تخوضها تونس ضدّ الإرهاب بدل الصمت أحيانا أو التصريحات المتضاربة أحيانا أخرى.

أما من جهة المجتمع المدني في تونس والنخب السياسية والفكرية فلا يبدو أن الموقف المناصر لحزب الله والمُندّد بقرار التصنيف يحظى بالإجماع كما يزعم مناصروه. فأن يكون صوته الأعلى وأن يكون وفّق في جرّ إلى صفّه منظّمات لها ثقل وأهمية كتلك التي أسلفنا ذكرها، والتي ما كان يفترض بها أن تتدخّل في هذا الشأن، لا يعني، في رأينا، أنه لقي قبولا وترحيبا من الجميع أو أنه يقوم على حجج متينة ومؤيدات قوية. ففي الحقيقة ما يبدو لنا صادما ليس صدور قرار التصنيف هذا، الذي نراه صائبا ومعقولا، وإنما تأخّر صدوره إلى هذا الوقت من الجامعة العربية في حين أن كل البلدان العربية تخوض حربا على الإرهاب وقامت بتصنيف ضمن لائحة الإرهاب منظمات مثل القاعدة وداعش وجند الخلافة وفتح الإسلام و أنصار الشريعة وغيرها في حين ظلت تعترف لحزب سياسي له وجود قانوني وطرف في العملية السياسية في بلده بالحقّ في الاستثناء وفي أن يمتلك أسلحة تفوق حتى تلك التي بحوزة حكومته مع أن أسباب حمله للسلاح قد انتهت

مع انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان وإخلائه للمناطق التي كان يحتلها ويستعملها كشريط عازل.
وأن تتدارك وزارات الداخلية والخارجية العربية هذا التقصير فذاك ما يتوجّب تثمينه بدل استهجانه لأنه سيعطي انطباعا أن الحرب على الإرهاب قائمة على رؤية متسقة وأن تصنيف المنظمات أو الأحزاب كتشكيلات إرهابية لا ينهض على اعتبارات سياسية أو أيديولوجية وإنما على أمور مبدئية وقانونية. فكل تنظيم يحمل السلاح خارج إطار شرعية دولته لا بُدّ أن يصنّف إرهابيا مهما كانت نواياه «حسنة» مع اعتبار الأوضاع الاستثنائية مثل مقاومة الاحتلال كما هو الشأن في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو مثل الحرب الأهلية في حالة سوريا حيث انزلقت بفعل قمع النظام السياسي المظاهرات

والاحتجاجات الشعبية المدنيّة المطالبة بالديمقراطية والحرية والعدالة إلى حالة من الحرب الأهليّة. أما في لبنان فالوضع غير ذلك فالبلد مستقرّ عموما ولم يعد هناك احتلال وحزب الله مشارك في الحكومة ويرفض في نفس الوقت أن يخضع هو وأعضاؤه ومليشياته وشركاته وممتلكاته وأمواله إلى رقابة الدولة وأكثر من ذلك يتدخل في العديد من النزاعات الأهلية خارج لبنان في وسوريا والعراق واليمن دون إذن من سلطات بلاده الشرعية. وكل ذلك كنا نتمنى أن يأخذه بالاعتبار من رفع صوته بالتنديد بهذا القرار «الغريب» وفق ما ورد في بيان الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بتاريخ 3 مارس 2016 .

أما فيما يتعلق بهذا الحزب فلا أحد ينكر أنه خاض حربا عادلة ضدّ احتلال أجنبي لجزء من أراضي بلده. ورغم أنه احتكر حق المقاومة ومنع، بحدّ السلاح والقتل والاغتيال، غيره من اللبنانيين من نيل شرف المشاركة في تحرير وطنهم من الوجود الإسرائيلي إلا أن الجميع يقدّر التضحيات الجسام التي تكبّدها في عملية التحرير. لكن هنا تكمن مفارقة التحرير التي عرفتها العديد من حركات التحرّر الوطني فبدل أن يقبل هذا الحزب بعد التحرير إدماج قواته المسلحة داخل الجيش اللبناني ويسلم سلاحه للدولة ويعمل مع شركائه من اللبنانيين في العملية السياسية على دعم قدرات الجيش اللبناني وقوات الأمن اللبنانية حتى تكون الدرع الواقي للبنان ضد التهديدات الإسرائيلية وغيرها حتى يشعر المواطن اللبناني أنه يعيش في كنف دولة تحميه وتذود عنه عمل حزب الله على شلّ قدرات الدولة اللبنانية وكوّن دولة داخلها واحتكر حقّ حماية لبنان وأمنه ونصّب نفسه مؤتمنا على سيادته.

إن ما يبدو لنا صادما حقا ليس هذا القرار وإنما أن يتحدث السيد عميد المحامين التونسيين عن صدمته عندما علم بالقرار في حين أن المحكمة الخاصة بلبنان التي شكلتها الأمم المتحدة سنة 2006، بطلب من الحكومة اللبنانية، لذلك الوقت، للكشف عن الجناة في حادث اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق رفيق الحريري و22 من مرافقيه، في عملية إرهابية هزّت العالم، قد عقدت أولى جلساتها يوم 14 جانفي 2014 من دون المتهمين الأربعة من قيادات حزب الله الذين طلبت المحكمة من الحكومة اللبنانية إيقافهم وتسليمهم لها ولم تستجب. ومن المهم هنا التذكير أن المدّعي العام للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان نورمان فرال قد وجّه إلى 4 من كبار قادة حزب الله تهمة الضلوع تخطيطا وتنفيذا في الاغتيال. كما ينبغي، في رأينا، على كل الذين استنكروا قرار التصنيف هذا وخاصة من منظمات المجتمع المدني، الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، أن يأخذوا في الحسبان أن في سنة 2012 وسّعت المحكمة، بطلب من الحكومة اللبنانية وبموافقة من مجلس الأمن، دائرة استقصاءاتها لتشمل ثلاث قضايا اغتيال أخرى هي اغتيال جورج حاوي، الزعيم السابق

للحزب الشيوعي اللبناني بسيارة مفخخة سنة 2005 ، والوزير السابق ميشال المرّ ومحاولة اغتيال النائب عن تيار المستقبل مروان حمادة مع العلم أن كل هذه الشخصيات السياسية طالبت بعد جلاء القوات الإسرائيلية عن جنوب لبنان بخروج القوات السورية من لبنان وبضبط سلاح حزب الله وإخضاعه إلى شرعية الدولة. غير أن المحكمة الخاصة رفضت توسيع نطاق عملها ليشمل جرائم أخرى تحوم شكوك حول ضلوع حزب الله والمخابرات السورية في ارتكابها،مثل اغتيال الصحفي سمير القصير واغتيال جبران توييني رئيس تحرير جريدة النهار والنائب بالبرلمان اللبناني، لأن الصلاحية التي مُنحت لها تنحصر في الجرائم الإرهابية التي ارتكبت في لبنان في الفترة الممتدة من 1 أكتوبر 2004 إلى 12 ديسمبر 2005.

وعندما اصدر المدّعي العام للمحكمة الخاصة بلبنان رسميا قرار الاتهام في 17 جانفي 2011 وقدّم طلبا إلى الحكومة اللبنانية بإيقاف المتهمين الأربعة وتسليمهم إلى المحكمة أعلن في جويلية 2011 قائد حزب الله حسن نصر الله رفضه لقرار جهة الاتهام مؤكدا أن الأعضاء الأربعة في حزبه لن يقع إيقافهم من أي حكومة كانت. وسؤالي الذي أتوجّه به إلى الناشطين في المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان في تونس هل ترضون أن يحدث ذلك في بلدكم وأن يكون هناك حزب سياسي يضع نفسه فوق الدولة ويحمل السلاح، ويعلن أنه غير معنيّ بقرارات حكومته وأنه خارج إطار الشرعيّة الدولية؟ أما تذكير رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان في النقطة الأولى من بيانها المذكور أعلاه بحق المقاومة من أجل التحرّر الوطني وتقرير المصير فيبدو لنا غريبا ومجافيا للواقع. فلبنان بعد خروج الجيشين الإسرائيلي والسوري منه

لم يعد محتلا إلا إذا اعتبرنا فلسطين المحتلة امتدادا جغرافيا للبنان وهو ما لا يقبله لا التاريخ ولا الجغرافيا ولا القانون الدولي. إن كل ذلك يؤكّد، في رأينا، أن قيادة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ذهبت بالمنظمة صوب وجهة أيديولوجية وسياسية نراها لا تنسجم مع المهمّة التي بُعثت من أجلها.

بقلم منير الكشو (أستاذ تعليم عال، جامعة تونس)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115