التوافق، كلمة السر

تصريحان لمسؤولين أثارا انتباهي في الفترة الأخيرة. الأول جاء منذ بضعة أسابيع على لسان وزير التربية ناجي جلول يقول فيه بأن الإصلاح التربوي المُزمع القيام به سيتمّ بالتوافق. والثاني جاء مؤخّرا على لسان راشد الغنوشي يمنّ فيه على الشعب التونسي للمرّة الألف

بأنه لولا مغادرة النهضة للحكم عن طواعية لعمّت الفوضى في البلاد ولأصبحت في وضع شبيه بوضع ليبيا اليوم.
رغم اختلاف الإطارين والمجالين، فإن الرابط بين التصريحين يبدو لي جليّا. فالإثنان يريدان القول بأن التوافق هو مفتاح تقدم تونس ومنهج سياستها اليوم وغدا، نظرا لنجاح هذه السياسة في الماضي القريب. من هنا وجب توضيح هذا المفهوم والتذكير بأسباب اتباع هذا المنهج ووضعه في إطاره التاريخي دون مغالطة ولا مغالاة.

في غرّة جوان 2013، صدر عن المجلس الوطني التأسيسي الذي كان يطغى عليه حزب النهضة، بمباركة من حزبي التكتل والمؤتمر، المشروع الأول للدستور التونسي الجديد الذي قال عنه مصطفى بن جعفر بأنه من أحسن دساتير العالم. ولأنه كان كارثيا، ثار الشعب ضدّه في صائفة 2013، وضد السلطة القائمة آنذاك بمختلف مُكوّناتها، التنفيذية والتشريعية، مُعلنا أن شرعيّتها قد انتهت، علما بأن المجلس التأسيسي انتُخب لمدّة سنة واحدة لصياغة دستور جديد يتماشى مع العصر ومع طموحات الشعب وثورته. في ذلك التاريخ، انتهت المدّة النيابية الشرعية للمجلس، وانتهت شرعية الحكومة المُنبثقة عنه. وكان رحيلهما واجبا حتميا ومنطقيا وقانونيا وأخلاقيا...، خاصة بعد الإخفاق التام في صياغة الدستور المنشود. اعتصام الرحيل وتجميد أكثر من أربعين نائبا لعضويتهم في المجلس كانا يهدفان إلى المطالبة بحقّ مشروع، لا بتضحية من السلطة. وللتذكير، فإن المظاهرات الصاخبة اليومية طيلة شهر أوت/رمضان من سنة 2013، وخاصة منها مظاهرات 6 و13 و31 أوت كانت كفيله بحجمها وبقوّة حجّتها بأن تُسقط أي نظام دكتاتوري، إذ كان عدد المشاركين

في كل واحدة منها يفوق ال400 ألف شخص، في حين أن مظاهرة شارع الحبيب بورقيبة في 14 جانفي 2011، والتي أزاحت واحدة من أعتى دكتاتوريات العالم، لم يُشارك فيها أكثر من 40 ألف مواطن، أي عشر كل واحدة من مظاهرات أوت 2013 الثلاث. رحيل حكومة النهضة لم يكن إذن عن طواعية، وبقاؤها عنوة في السلطة لم يكن مُمكنا إلا تعسّفا وتسلّطا وقهرا. ولأن النهضة كانت مُتمسّكة بالسلطة لامبالية بالشرعية، فإن المجتمع المدني، بمساندة فعالة من الأحزاب الديمقراطية، أظهر من الصبر والوطنية والحكمة ما أنقذ البلاد من دكتاتورية جديدة لا تحسدها في شيء تلك التي سبقتها. وانتظم الحوار الوطني بحثا عن توافق لإخراج البلاد من الأزمة، وكانت النهضة آخر الأحزاب التي التحقت بالحوار بعد عناء شديد. ورحلت حكومة العريض مطرودة.

كلام رئيس حركة النهضة، وقد قاله مرارا وتكرارا، عن أن «التوافق» هو اختياره واختيار حزبه ليس إلا مغالطة تاريخية، وما تمسّكه اليوم به إلا لأن التوافق هو السبيل الوحيدة لبقائه في السلطة، أي أنه ليس اختيارا مبدئيا وإنما وسيلة تكتيكية.

تصحيحا للتاريخ، يجب إذن التذكير بأن «التوافق» هو المسلك الذي اتخذه المجتمع المدني التونسي ظرفيا لإخراج البلاد من مأزق محدود في الزمن، وليس سياسة دائمة للدولة. ووجوده خارج تلك الأزمة، وخارج الحيّز الزمني الذي جاء فيه، وخارج إطار الرباعي الراعي للحوار، لا معنى له، خاصّة وقد شهدت البلاد بعده انتخابات رئاسية وتشريعية تُضفي الشرعية المطلوبة على السلطة الجديدة مهما كان موقفنا منها.

وأما أن يُعلن اليوم وزير التربية بأن الإصلاح التربوي سيخضع ل»التوافق»، ففي ذلك خلط كبير في ذهن الوزير.

فإما أنه غير واع بأن «التوافق» ليس بسياسة دائمة قائمة الذات وإنما هي ليست سوى طريقة ظرفية لتجاوز الأزمات. وإما أنه واع بذلك ويريد تقديم وردة للغنوشي ليُطمئنه بأنه سيُشركه في عملية الإصلاح، بما يعني أن برامج التعليم ستعود إلى ما كانت عليه قبل سنة 1989، بما في ذلك من دعوة إلى نظام الخلافة وإلى ضرب المرأة وتعدد الزوجات...

وفي كل الحالات، لا بدّ أن يعي وزير التربية بأن إصلاح المنظومة التربوية يجب أن يعتمد بالأساس على عنصرين لا ثالث لهما: البيداغوجيا، وهو علم قائم الذات لا دخل فيه لغير المُختصّين مهما علا شأنهم، والمحتوى العلمي والمعرفي الذي يتحتّم أن يكون مُستجيبا لمُتطلبات العصر والحداثة ولقيم الثورة، أي الديمقراطية والحرية والعدالة، ولا دخل لأي حزب ولا لأي إيديولوجية في ذلك.

فعن أي توافق يتحدّث الوزير؟ هل سيًشرّك كل من رغب في المشاركة عند تطوير المناهج البيداغوجية حتى إن كان جاهلا تماما بهذا العلم؟ هل سيُشرّك الأحزاب ذات الإيديولوجيات المسطّرة لتطوير محتوى البرامج التعليمية حتّى تُطوّعها لمذاهبها؟
لا يا سيدي الوزير. فالإصلاح التربوي مسؤولية جسيمة وعملية حساسة لا تخضع للديماغوجية ولا إلى المحاباة.

الخبر الذي تمّ تداوله بالأمس (المغرب ص2 بتاريخ 23 مارس) بأن وزير الشؤون الدينية عزل مدير ديوانه بسبب حزمه في تحييد المساجد، إذ كان على ما يبدو وراء عزل الأئمة التكفيريين، يعطينا حجّة أخرى على أن سياسة «التوافق» التي تسعى إلى إرضاء الجميع طغت على المصالح الحياتية لبلادنا حتّى إذا أدّى الأمر إلى التنازل عن حربنا على الإرهاب.

بقلم منير الشرفي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115