تأملات في سنة منقضية!

يعتبر الكاتب النمساوي شتيفان تسفايغ أحد أهم الكتاب العالميين لبداية القرن العشرين ولد في 28 نوفمبر 1881 وكتب تقريبا في كل المجالات الأدبية والفكرية. كتب في مجال الدراسة الأدبية وأصبحت دراساته وبحوثه حول أهم الأدباء والشعراء كتولستوي وبلزاك

وديستوفسكي ورومان رولان من أهم المراجع في هذا الميدان كما عرف تسفايغ بكتاباته برواياته التي جعلت منه أحد أهم الروائيين لا فقط الناطقين باللغة الألمانية بل كذلك على المستوى العالمي وأذكر من هذه الروايات «24 ساعة في حياة امرأة» و»الشفقة الخطية» و»آموك» وفي رأيي فإن أهم رواية لتسفايغ هي «لاعب الشطرنج» لقوة المعاني العاطفية التي تحملها وتحكي هذه القصة إيقاف لاعب وبطل شطرنج من قبل القوات النازية وسجنه في أحد المعتقلات وكيف كان ملجأه الوحيد للهروب من سجانيه والصمود في إعادة أهم مقابلات الشطرنج في العالم في مخيلته وإعادة دراما كل الاحتمالات عديد المرات وقادته هذه الوضعية إلى حدود الجنون.

وإلى جانب كتاباته ودراساته الأدبية وعمله الروائي الهام فإن تسفايغ يعتبر شاهدا مهما على عصره وعلى مرحلة مفصلية في تاريخ أوروبا فقد ساهم الكاتب في الحركة الفكرية والثقافية التي عرفتها فيينّا والنمسا وأوروبا في بداية القرن العشرين. وقد عرف وصادق والتقى أهم المفكرين والفاعلين في الحقل الفني والفكري في تلك الفترة كعالم النفس المعروف سيغموند فرويد (sigmund Freud) والموسيقي ريشار شتراوس (Richard Strauss) والأديب آرتر شنيتزلير (Arthur Schritzles).

ولئن كان سفايغ شاهدا على هذه الحركية الفكرية والثقافية فقد رأى كذلك وتابع كذلك أفول وسقوط هذا العالم المنفتح والمفعم بالأفكار الديمقراطية والمتشبع بآراء الحرية أمام صعود النازية ومشروع رفض الآخر. ولقد دفع سقوط هذا العالم وصعود النازية تسفايغ إلى ترك فيينا إلى لندن سنة 1934 قبل أن يلجأ بعيدا عن أصوات الحرب العالمية الثانية ويستقر في البرازيل.

لكن وبالرغم من هذا البعد ومن المسافة التي تفصله عن أوروبا فإن تسفايغ لن يحتمل هذا البعد ودخول بلاده والعالم الديمقراطي إلى جحيم الحرب والحرية وهذا اليأس سيدفعه إلى أن يضع حدا لحياته في مدينة ميتروبولس في البرازيل هو وزوجته وكلبه الأمين يوم 22 فيفري 1942. ومن هذه التجربة القاسية والمرة على المستوى السياسي والمضنية على المستوى الشخصي والعاطفي أصدر تسفايغ ما أعتبره شخصيا أهم مؤلف فكري وسياسي له بعنوان «عالم الأمس – مذكرات أوروبي». وقد صدر هذا الكتاب بعد رحيل الكاتب سنة 1944 وسيكون بمثابة شهادة مفعمة باليأس والإحباط والعجز أمام أفول وسقوط العالم الحر والديمقراطي في أوروبا والذي أسسه أجيال من الساسة والمثقفين والمفكرين إثر الثورات الأوروبية والأنوار في نهاية القرن الثامن عشر.

وسيبقى هذا الكتاب مرجعا فكريا كبيرا في المجال السياسي والفكري وحتى الشخصي والشاعري في سقوط الأنظمة الديمقراطية وأفول مبادئ الحرية والتعدد. وقد جال بخاطري هذا الكتاب الهام وأنا أفكر في حصيلة هذه السنة المنقضية وأهم نتائجها فقد عرفنا خلال الأشهر الأخيرة تراجعا كبيرا لأفكار الديمقراطية والتعدد على المستوى العالمي وتقدما كبيرا للانغلاق ونفي الآخر والتسلط. وهذه التطورات تذكرنا بنفس التطورات التي عرفتها أوروبا في ثلاثينات القرن الماضي والتي ستعرف على إثرها مآسي وويلات الحرب العالمية الثانية والتي كادت أن تفضي بأوروبا إلى الإبادة الشاملة ونهاية التجربة الإنسانية فصعود الفاشية والنازية والحرب العالمية وتجربة معسكرات الإبادة في الجحيم النازي ستكون لها انعكاسات مدمرة لا فقط على المستوى السياسي بل كذلك على المستوى الفكري والفلسفي إذ كادت تنتهي بتجربة الحداثة وفكرة استقلال الإنسان على الطبيعة والخروج من المجتمعات الدينية في أوروبا.

لقد جال بخاطري كتاب شتيفان تسفايغ «عالم الأمس – ذكريات أوروبي» وأنا أفكر في حصيلة هذه السنة لأن نقاط التقاطع والالتقاء بين ما نعيشه اليوم والفترة التي تناولها الكاتب هامة وكبيرة ونقطة التقاطع الأولى هي الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي يعرفها الاقتصاد العالمي في هاتين الفترتين. فقد عرف الاقتصاد العالمي إحدى أكبر أزماته سنة 1929 وكادت أن تؤدي إلى نهاية النظام الرأسمالي وسقوطه بعد الأزمة المالية الكبيرة وإفلاس أكبر المصارف المالية العالمية. وستكون هذه الأزمة نقطة انطلاق فترة طويلة من الركود الاقتصادي وهبوط الاستثمار وتراجع النمو وعدم استقرار هيكلي للنظام الرأسمالي. ولن يتمكن النظام الرأسمالي من الصمود إلا بتدخل كبير من الدولة في الاقتصاد بضخ الأموال وإعادة هيكلته بطريقة جذرية مما سينتج عنه تراجع كبير لاقتصاد السوق.

وقد أثث الاقتصادي الأنقليزي جون كينز ودافع على هذه التغييرات الجذرية وأهميتها مما جذب له اهتماما واسعا ليصبح أحد أهم إذ لم نقل أهم اقتصادي في القرن العشرين.

وسيشهد العالم نفس الأزمة الخانقة في السنوات الأخيرة منذ 2008 - 2009 والتي سيتواصل صداها وانعكاساتها إلى يومنا هذا. فستبقى نسب النمو ضعيفة في أغلب الاقتصاديات الكبرى. كما ستعرف البطالة نسبا عالية وستمر أغلب البلدان بأزمات مالية وتدهور كبير لتوازناتها الكبرى. وبالرغم من تراجع التيارات الاقتصادية النيو ليبيرالية والدور الكبير الذي تلعبه الدول وتدخلها المباشر في الاقتصاد فإن أغلب البلدان لم تسترجع عافيتها الاقتصادية.

أما نقطة الالتقاء الثانية بين «عالم الأمس» لتسفايغ وعالم اليوم فتكمن في الأزمة الاجتماعية الكبيرة التي عاشها العالم في هاتين الفترتين فالأمس كما اليوم يعرف العالم نسب بطالة مرتفعة وكذلك نسب تهميش اجتماعية وحالة فظيعة من اليأس الاجتماعي والسياسي. وإلى جانب الأزمة الاقتصادية الخانقة فقد عرفت هاتان الفترتان تطورات تكنولوجية كبيرة ستكون لها انعكاسات اجتماعية سلبية على المستوى الآني والظرفي وستساهم في تعميق التهميش الاجتماعي واليأس والإحباط.

أما نقطة الالتقاء الثالثة والتي نريد الإشارة إليها بين هذين الفترتين فتكمن في رأيي في أزمة النخب السياسية وتراجع مصداقيتها عند العامة. لقد شهدت الفترتان تقريبا نفس التطورات في هذا المجال مع فقدان الثقة في النخب الفكرية والسياسية التقليدية وتراجع تأثيرها وإشعاعها على المستوى الجماهيري. وفي المقابل فقد عرفت هذه الفترات صعودا لنخب جديدة يكمن كل همها في رفض المؤسسات الديمقراطية ونفي دورها ووضع مشروعيتها موضوع تساؤل.

يمكن لنا أن نضيف عديد نقاط الالتقاء الأخرى بين الفترتين ولكني أريد التأكيد على نقطة أخيرة ألا وهي تراجع الأمل في المستقبل واهتزاز الثقة في قدرة النظريات الكبرى على تغيير العالم إلى الأحسن. فكما نشهد اليوم تطور الشك ونقد العمل السياسي وعدم الثقة والاطمئنان للنظريات الكبرى وبصفة خاصة قدرة الإنسان على تحرير نفسه من الأغلال التي تكبّل تفكيره وإبداعه وتزيد من غربته الفكرية والمادية عرف عالم ثلاثينات القرن الماضي نفس التطورات ونفس القدر من الشك واليأس في قدرتنا على كسر أغلالنا وتطوير عالمنا نحو الأفضل.

إن قراءة هذا المؤلف للكاتب الكبير شتيفان تسفايغ ونحن على أبواب نهاية هذه السنة المفصلية لها أهمية كبيرة لأنها تؤكد أن ما نعيشه اليوم ليس بالجديد. فلقد عرف العالم فترات أزمات اقتصادية كبيرة وتهميش اجتماعي كبير وفقدان ثقة في النخب وكذلك في قدرة الإنسان على تحرير نفسه من أغلاله وإنهاء استيلابه.

إلا أن أهمية هذا الكتاب تكمن في نتائجه السياسية المفصلية وإشارته إلى خطورة فترات الإحباط الاجتماعي واليأس السياسي. فعالم الأمس لتسفايغ أشار إلى أن هذه الفترات تفتح مجالا واسعا للحركات الشعبوية والتي ترفض النظام الديمقراطي والتعدد وتؤكد على انغلاق المجتمعات على نفسها ورفض الآخر وتفتح المجال لأشنع وأبغض المغامرات السياسية كما عرفته أوروبا مع الفاشية. وقد بدأ «عالم اليوم» يعرف نفس تطورات «عالم الأمس» من صعود للقوى الفاشية والنجاح الذي بدأت تعرفه في عديد بلدان العالم مما قد يؤدي بنا إلى سوداوية ومآسي ما عرفناه في السابق.

إن أهم درس يمكن أن نستخلصه من تجربة تسفايغ ومن كتابه «عالم الأمس» هو أن هزيمة المشروع الديمقراطي أمام قوى ردة مملوء بالمآسي والمخاطر والأهوال. ولتفادي هذه الأهوال لا بد لنا من استنباط مشروع فكري وسياسي جديد هدفه الخروج من أزماتنا وبناء حلم تحرري جديد كفيل بتعبئة الإنسان وإعطائه أملا جديدا بقدرته على فك أغلاله وبناء غد أفضل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115