في الشعبوية وحدودها ومخاطرها

بقلم: مسعود الرمضاني

فيفيلم «سويسايد سكواد» (الفرقة الانتحارية) الذي حطّم الرقم القياسي في المشاهدة والإيرادات، وصفه النقاد بأنه «ساعتان من الحشو الزائد»ويفتقر إلى الحبكة . كما أن أبطاله لا علاقة لهم بالأبطال «النبلاء» ، مثل زورو الذي كان يدافع عن العدل ولا بشخصية

سُبرمان الذي كان يستعمل قدراته الخارقة لحماية كوكب الأرض من الأشرار...

أبطال «الفرقة الانتحارية» هم مرتزقة، أشرار، مجرمون ، يستعملون كل الوسائل الشيطانية، بما فيها السحر والشعوذة، لمحاولة إنقاذ البيت الأبيض والعالم من وراء ذلك طبعا ، شعارهم : المتعة ان تكون نذلا وفاعلا في نفس الآن.الفيلم ، رغم سطحيته وغياب حبكته القصصية فاجأ النقاد وحقق نسبة مشاهدة خيالية ، وبينما رأى فيه النقاد فيلما تافها لا يستحق المشاهدة ، فان الجمهور أعجب بالأشرار القادرين على تحقيق العدل.

هل يعكس نموذج البطل الجديد مزاج شعوب العالم؟ يبدو أن الأمر كذلك، فدونالد ترامب، مثلا، يخالف نموذج القيادي المتعارف عليه: لا ماضي سياسي له، له أكثر من تهمة تحرش جنسي ، يصوغ خطابا استفزازيا يقارب العنصرية ، عرّفته جريدة لوموند بأنه «شعبوي ، يمتلك شخصية مشبوهة ، لم يدفع ما عليه من ضرائب منذ عشرين سنة ويكذب كما يتنفس.»

لم يكن لترامب ، مثله مثل اليمين الصاعد في أوروبا برنامجا اقتصاديا واجتماعيا واضحا بقدر ما كانت له لاءات : ضد الهجرة ،ضد الصين، ضد «الخطر الإسلامي « ضد الإصلاحات التي قام بها اوباما على مستوى الصحة...لكنه صدى للمزاج العام الذي لم يفهمه سياسيون كُثر...

وذلك ما يميّز الخطاب الشعبوي ، انه خطاب يدغدغ المشاعر ويخاطب العواطف ويرفض التحليل العميق الذي يمكن أن يغور في الأسباب الحقيقية، فهو يعكس ما للشعب من مخاوف قد لا تكون دائما مبررة ، خوف من المهاجرين وخوف من الإسلام المتطرف وخوف على القيم الأوروبية ... وبذلك تتحول الأزمات الاقتصادية والتغييرات الكبيرة على مستوى البنية الاجتماعية وإفرازات العولمة الكارثية على المستوى الاجتماعي والثقافي والبيئي، التي كانت معيارا لتحليل الواقع وفهمه، الى عوامل ثانوية مقارنة بصراع الهوية ومحاربة الهجرة وحماية الحدود ، بل وتغيّب العلاقة السببية المتعارف عليها التي تفصل بشكل واضح بين الأسباب والنتائج،

ويتسلل اليمين الشعبوي ، في أمريكا كما في أوروبا وكذلك في بقية العالم الى الفراغ الذي أحدثته سياسات تقليدية ، يسارية وليبرالية ، غير قادرة على التعامل مع الواقع وفهم متطلباته وتغييره ، وربما كان لكثرة الأحداث وتسارعها في عالم اليوم وتعدد التحولات الأثر البالغ في عدم الاستقرار وضبابية الرؤية ومحدودية الفعل وغياب الدقة في التحليل ، لكن هذا لا يمنع من القول أن صعود هذه الأحزاب الجديدة وشخوصها وتمثلاتها على الساحة السياسية والإعلامية ليس نجاحا تحققه بقدر ما هو فشل ذريع لـ«لايستاب ليشمنت» «المؤسسة»، بكل ما فيها من أحزاب ومؤسسات ونخب.

مع ذلك لا يرى المحللون السياسيون أن في التصويت لليمين الشعبوي قبولا مطلقا بآرائه ومقترحاته ، بقدر ما هو احتجاج «ظرفي»على النخب السياسية التقليدية ، أي حين تعجز هذه النخب عن الإقناع ببرامجها وتكون غير قادرة على الدفاع عن مبرر وجودها ، فلابد ان تترك مكانها الى نخب سياسية جديدة ، براغماتية ، «صارمة» ،عاكسة للمزاج الشعبي، قادرة على «التعاطي مع الواقع بحزم». ولكن ماهي قدرتها على الاستمرار ؟

كثيرا ما تقارن الشعبوية الجديدة بالخطاب الفاشي الذي ساد في ثلاثينات القرن الماضي لانها في جوهرها «راديكالية ،تقف على النقيض من الديمقراطية وترفض التعدد» لقد حققت الفاشية والنازية انتصارات مهمة ، بانية خطابها على العنصرية والتحدي للنخب السياسية القائمة وصلت الى حد السخرية من المؤسسات الديمقراطية، واغراها عند وصولها الى السلطة وهو ما يمكن ان يعتبر «التحاما بإرادة الشعب» لكنها لم تثبت انها قادرة على الاستمرار اذ سرعان ما تدرك الشعوب ان تغيير الواقع يتطلب أكثر من الشعارات السخيفة والخطب الرنانة.

وفي تونس ، كان الخطاب الشعبوي، الذي يستحضر الشعارات ويغيّّب االبرامج، سائدا ضمن المعارضة قبل 14 جانفي 2011. وكان نتاجا طبيعيا لطبقة سياسية لم تجد متسعا ولا مجالا لتطوير أفكارها وصياغة برامجها ، بحكم القمع والتضييق ، وكذلك بحكم ضعف الأمل في الوصول إلى الحكم، على الأقل في المستقبل القريب.

لكن الغريب ان نفس الخطاب الشعبوي تواصل بعد ذلك ووجد تعبيراته في خطاب يساري هجين يغلب عليه التردد والفوضوية ، يراوح بشكل غريب بين تبسيط يريد ملامسة مشاغل المواطن حينا وتعقيد إيديولوجي مبهم حول مقتضيات العدالة الاجتماعية في احيان أخرى، وخطاب يميني فضفاض يرى أن الحل يكمن في ترشيد الواقع عبر إعادة إنتاجه كما هو ، وتحكم كلا الخطابين ثقافة سياسية بنيت منذ عقود على الاحتجاج الصرف، تتقرب إلى الجماهير عبر تبني شعاراتها عوضا عن ترشيدها وتطويرها والارتقاء بها لتصبح برامج ذات محتوى و قابلة للتحقيق وتتماهى مع وجدان المواطن دون أن تخاطب عقله وهي بذلك لا تساهم في الارتقاء به بقدر ما تساهم في مزيد إغراقه في واقعه.

ومثلما أوصل الخطاب الشعبوي في تونس، الهاشمي الحامدي،صاحب العريضة الشعبية الى مركز مهم في انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 حيث فاجأ الجميع لما كانت عليه أراؤه من وتبسيط وسذاجة أحيانا، فان ما نشاهده اليوم عبر وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي من تسطيح ومحاولات للإثارة «والالتحام بمشاغل المواطنين» حدد الاسفاف، وتحريك للعواطف والنعرات قد ينجب قيادة شعبوية تحاكي كل التيارات الجديدة في الغرب في تطرفها. لكن الفارق المهم عندئذ هو أن استحضار الماضي القريب وهشاشة الأوضاع الاجتماعية وضعف المؤسسات ، كلها عوامل قد تؤدي إلى تأبيد الشعبوي المؤقت والإجهاز على هذه التجربة الديمقراطية الهشة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115