من أجل مشروع وطني حداثي اجتماعي

ينطلق هذا الطرح من قراءة للمشهد السياسي الحالي في تونس ومكوناته ومن قراءة لطبيعة المرحلة السياسية وطبيعة التحديات التي تطرحها. فالقوة السياسية الفاعلة تكون وليدة حاجة مجتمعية يؤطرها تصور فكري واضح يحدد على قاعدته مشروع مجتمعي للمستقبل.
أزمة دولة ومشروع مواطنة يتيم

يعد الوضع السياسي اليوم نتاجا للثورة من ناحية ثم من ناحية ثانية لكيفية تعامل القوى السياسية مع السياق الذي أفرزته. تمثل الثورة التونسية في عمقها تحولا في مستوى الدولة الوطنية لتصل مرحلة الديمقراطية بما تطرحه من مساواة وعدالة سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي. فهي ثورة ضمن الدولة وليست ثورة ضد الدولة. وكان من المفروض في هذا الإطار أن يتحول نظام هذه الدولة من سلطة الاستبداد إلى سلطة القانون في دولة ديمقراطية. غير أن أداء القوى السياسية الفاعلة منذ انتخابات أكتوبر من سنة 2011 لم يمكن القانون وبالتالي مؤسسات الدولة من استعادة سلطها. إذ أدت انتخابات 2011 إلى تطويع الدولة لخدمة الحزب الفائز. في حين أدت الخيارات الناتجة عن الانتخابات الأخيرة إلى اختفاء الحزب الفائز مما أحدث فراغا على مستوى الشرعية الانتخابية وبالتالي إضعاف دولة القانون. إن أزمة تونس في عمقها اليوم هي أزمة دولة، أي أزمة تنظيمية ناتجة في جانب كبير منها عن ضعف سلطة القانون مما ساعد على انتشار ظواهر تهدد الدولة مثل الإرهاب والفساد والتهريب والتسيب والقطاعية والجهويات. كل هذه الظواهر تنعكس في النهاية من خلال وضع

معقد تتجاذبه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بالإضافة إلى انحصار ثقة المواطن في الدولة وفي الطبقة السياسية. نضيف أن الثورة لم تفتح فقط باب التحول السياسي على مستوى تنظيم الدولة. بل إن المبادئ المؤسسة للدمقرطة، مثل المساواة والحرية، تتطلب تحديثا مجتمعيا يتجاوز مختلف الأطر المرجعية التقليدية المعيقة لنشأة الفرد المواطن. إذ لا مواطنة دون فردنة ودون حرية ودون مساواة. في هذا السياق لم تعد الدولة هي العائق أمام تشكل الفرد المواطن فحسب بل خاصة المجتمع وهياكله التقليدية. غير أن هذا المشروع يبقى اليوم يتيما بالرغم من تنوع مكونات المشهد السياسي.

مشهد سياسي عقيم
تهيمن على الساحة السياسية أربع قوى، لكنها باختلاف مواقعها، لم توفر حلولا مقنعة لطيف واسع من الشعب التونسي ولم تستطع أن توجه نظره نحو المستقبل من اجل مشروع مواطني عقلاني. فحركة النهضة الممثلة للمحافظة عبر الإسلام السياسي غير قادرة بطبيعتها (فكرا وأهدافا) على تحقيق المشروع المستقبلي خاصة وأنها لم تحسم أمرها فيما يتعلق بالمرجعية السياسية وبعقلنة الدولة الوطنية. أما تيار اللبرالية الوطنية، المتشكل حول إرث الدولة الوطنية من بورقيبية ودستور، وعلى رأسها نداء تونس، فقد فقد جزءا من مصداقيته نتيجة تفريطه في الشرعية الانتخابية وتصاعد الانتهازية السياسية داخله بالإضافة إلى اقترابه من المحافظة الإسلامية. ماذا توفر الساحة السياسية لمن لا يجد نفسه ضمن هاتين الماضويتين البعيدة القريبة؟ تلعب الجبهة الشعبية هنا دورا مهما في التوازنات الحالية، غير أنه يعاب

عليها في هذا الإطار بعض المنحى الطوباوي الناتج عن ضعف المراجعة الفكرية، بالإضافة إلى تغليب كفة المسألة الاجتماعية في بعدها المعيشي على حساب الانتقال الثقافي والمجتمعي الذي تشهده البلاد. وهو ما أسقط بعض المسائل الحيوية المرتبطة بالدولة وبالمساواة وبالحريات الفردية من أولوياتها. على هامش هذه القوى، تجمع الشعبوية الثورية، التي يمثلها المرزوقي مثلا، بين المحافظة الفكرية الهووية، مما يقربها من الإسلام السياسي، وبين مفاهيم الثورة والعدالة لتقترب من الجبهة الشعبية. ويستفيد هذا التيار من الفشل السياسي الحالي ليجمع حوله توجهات ما تحت الدولة (النعرات الجهوية) وما فوق الدولة (الإسلام والعروبة). مقابل هذه القوى الأربعة، يمكننا بسهولة رصد غياب مشروع واقعي لمن لا يجد نفسه ضمن الماضوية الوطنية ولا ضمن المحافظة ولا ضمن الطوباوية والشعبوية. هذه هي الأرضية المجتمعية للمشروع الوطني الحداثي الاجتماعي.

من أجل مشروع عقلاني تقدمي
يمثل المشروع الوطني الحداثي الاجتماعي إذن محور هذه الرؤية وذلك في منحى فكري وسياسي واضح. يتمثل البعد الوطني في المكانة التي يوليها للدولة الوطنية كإطار سياسي وحيد لكل مظاهر الوجود السياسي والاجتماعي الحديث بما فيه الحريات والديمقراطية والحقوق، أي المواطنة الكاملة عموما. فكلما وجد خطر يتهدد هذا الإطار إلا وكانت الدولة الوطنية أولوية سياسية يلتقي حولها بالضرورة اللبرالي واليساري. غير أن ذلك لا يعني البقاء في سجن الماضوية الوطنية ورموز هويتها. أما البعد الحداثي فيتمثل في تبني منحى العقلنة والعقلانية سواء بالنظر إلى طبيعة الدولة التي لا يمكن أن تكون إلا مدنية، أو بالنظر إلى الأفراد على أساس الحرية والمساواة دون تمييز في القضايا. ضمن هذا المنحى من العقلنة كذلك يمكن تناول مسألة الهوية في علاقتها بالدين. فالإسلام تجربة تاريخية متنوعة وليس هوية

متجانسة حتى في العالم الإسلامي. ومهما كان اعتبار هذه الهوية فلا علاقة لها بالدولة التي تعد إطارا محايدا للمواطنين الأفراد مهما كانت اختلافاتهم الدينية والعرقية واللغوية. لذلك يعد الفصل بين الإسلام السياسي والإسلام ضرورة فكرية وثقافية عاجلة وخطوة نحو عقلنة الفضاء السياسي والاجتماعي. أخيرا يتمثل البعد الاجتماعي في السعي نحو تحقيق حدّ من العدالة الاجتماعية بين الأفراد وبين الجهات على أساس تكافؤ الفرص والتضامن. فالمسألة الاجتماعية من صلب الحداثة ولا تعارض بينهما. فالحداثة كل ثقافي وسياسي واجتماعي. في هذا السياق لا بد من توخي نوع من الواقعية في الطرح. إذ لا يمكن الحديث عن توزيع عادل للثروة من دون طرح البدائل لإنتاج الثروة. فإنتاج للثروة يعتمد على الاستثمار (العام والخاص والأجنبي) وعلى العمل وكذلك على الظروف العامة التي توفرها الدولة للاقتصاد. وتفضي هذه الواقعية إلى الخروج من التعارض بين القطاع الخاص والقطاعات الأخرى لتطرح تكاملا بينه وبين القطاع العمومي والقطاع التضامني. إذ لا بد من تعامل واقعي ضمن اقتصاد السوق الذي أصبح واقعا عالميا ما عدا في كوريا الشمالية. ويتطلب هذا تنسيبا للتعارض مع اللبرالية في ظل الحضور القوي لثقافة ما قبل الدولة في السياق العربي الإسلامي.

بالنظر إلى مختلف هذه العناصر يمكن القول بأن وسط اليسار هو القادر على حمل هذا التوجه وهذا المشروع ويملأ الفراغ ويحدث توازنا حقيقيا في الساحة. وعديدة هي القوى والشخصيات التي تجد نفسها ضمن هذا التوجه، لكنها مشتتة وغير مهيكلة في إطار يضمن فعلها. لكن في ظل خيبة أمل التونسيات والتونسيين في السياسة والسياسين، فإن هذه المبادرة تتطلب وجوها جديدة وفاعلين جدد سواء من النخبة الجامعية أو من الشخصيات الوطنية والإبداعية ومن القوى الشبابية، قادرة على الخروج من الماضويات ومن الشعبويات والطوباويات نحو المستقبل. إن مستقبل تونس الديمقراطي الاجتماعي يتوقف اليوم على تماسك قوّتين أساسيتين هما وسط اليسار بعقلانيته وواقعيته واللبرالية الوطنية على شرط تخلصها من ممارسات وعقليات نظام ما قبل الثورة.

بقلم: عادل اللطيفي (مؤرخ وكاتب)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115