عوالـم نقد هيمنة الغرب وحركة التضامن في الجامعات الأمريكية

بينما تتواصل الحرب المدمرة على غزة تتصاعد حركة المساندة والدعم على المستوى العالمي .

وقد شهدت هذه الحركات المدنية تطورا كبيرا وارتفاعا في نسقها في الاسابيع الاخيرة خاصة في الجامعات الامريكية الكبرى وفي عديد الجامعات الاوروبية.

وقد ساهم الفكر النقدي للهيمنة الغربية والذي عرف تطورا كبيرا في الجامعات الامريكية وفي صفوف الشباب بشكل عام في هذه التعبئة. وقد جعلت هذه الاتجاهات الفكرية الجديدة والراديكالية من الحرب على غزة مثالا واضحا على الازمة الاخلاقية العميقة للنظام العالمي وعلى عدم توازنه في التعاطي مع قضايا الشعوب المضطهدة.وقد عبرت هذه النظريات النقدية الجديدة عن غضب وحنق الطلبة الشباب في مختلف انحاء العالم بسبب تواصل هذا الاختلال في النظام العالمي ومحاولات الغرب المتواصلة الحفاظ على علاقات الهيمنة والاستغلال والتسلط التي تجمعه بالآخر.

وقد ابتعدت هذه النظريات النقدية الجديدة عن الماركسية ونظرية الامبريالية لقراءة علاقات الهيمنة التي تجمع الغرب ببلدان الهامش لتجعل من مفهوم الكولونيالية الاطار الفكري الجديد لدراسة هذه العلاقات وانخرام التوازن في النظام الدولي.ويشير مفهوم الكولونيالية الى ان نهاية الاستعمار المباشر لا تعني نهاية علاقات الهيمنة والسيطرة للمركز الرأسمالي على بلدان الهامش بل ان هذه الهيمنة ستتواصل وتأخذ اشكالا جديدة.كما ان هذه الهيمنة والسيطرة لن تتوقف على المجالين السياسي والاقتصادي بل تمتد الى المجالات الثقافية والرمزية لتؤكد على تفوق الغرب والرجل الابيض وغرق الآخر في غياهب الاسطورة والخرافة.

وقد عرفت هذه النظريات النقدية تطورا كبيرا في السنوات الاخيرة بعد الاعمال الاولى لادوارد سعيد وسمير امين،وقد شهدت هذه النظريات اشعاعا كبيرا على المستوى الفكري كذلك في الجامعات الكبرى ليصبح لها تأثير منقطع النظير.واثر نظريات ما بعد الكولونيالية في ثمانينات القرن الماضي ظهرت تطورات فكرية واتجاهات نظرية جديدة في السنوات الاخيرة .وقد ووجهت هذه النظرية بردة فعل عنيفة ونقد كبيرين في البلدان الغربية. وتعود حدة هذا الرفض الى كون هذه النظريات الجديدة لم تكتف بنقد المنظومات الفكرية الغربية بل تجاوزتها الى المجال السياسي لتطالب بإصلاحات جذرية للنظام العالمي لصالح الاخر والهامش .وقد اتى هذا الرفض من المفكرين والقيادات السياسية اليمينية التي اعتبرت ان هذه النظريات النقدية تمثل خطرا كبيرا على الغرب وعلى مستقبل هيمنته على العالم .

ولم يقتصر هذا النقد والرفض على الاطراف اليمينية بل شمل كذلك بعض الاطراف اليسارية خاصة في الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية والتي اعتبرت ان هذه النظريات تحاول الالتواء ورفض المبادئ الكونية للحداثة الغربية وتعويضها باطر فكرية ورؤية تؤكد على الاختلافات الجذرية بين الشعوب.

يعيش العالم اليوم على وقع هذا الصراع الفكري بين النظريات النقدية الجديدة التي تسعى الى قطع وكسر الهيمنة السياسية والفكرية والرمزية للغرب والتجمع الكبير للقوى المحافظة التي تحاول الدفاع على هذه الهيمنة والحفاظ عليها .

• ثقافة الاستياء او (wolse) ورفض الهيمنة

ظهرت ثقافة الاستياء او (wolse) في السنوات الاخيرة في الجامعات الامريكية في خضم صراعات السود والنساء ومطالبتهم بالعدالة السياسية والاجتماعية. وتأتي هذه التسمية من فكرة «اليقظة» ضد الظلم والحيف الذي تعيشه الاقليات الاجتماعية والعرقية في الولايات المتحدة الامريكية. وقد برزت هذه الدعوة لليقظة في خضم النضالات التي خاضها السود في امريكا ضد العنصرية للمطالبة بالمساواة في بداية ستينات القرن الماضي. وقد عرف هذا الاتجاه تطورا كبيرا مع ظهور حركة (black lives matter) او «حياة السود لها قيمة» والتي ظهرت سنة 2014 مع تصاعد اعتداءات الشرطة في امريكا ضد المواطنين السود وتزايد الاغتيالات .

ولم يقف هذا الاتجاه النقدي عند مطالب السود بل شمل كل مجالات الحيف والاضطهاد التي تعرفها المجتمعات الرأسمالية ضد النساء والمهمشين والمهاجرين والمثليين وقضايا المناخ . وقد تجاوزت هذه الحركة المجال الفكري لتصبح مطلبا سياسيا واجتماعيا ملحا خاصة عند الشباب الذين اصبحوا يطرحون السؤال حول مدى احترام المؤسسات وكل الانشطة الاجتماعية لثقافة (wolse) او احترام التعدد الفكري والسياسي والجندري والعمل على تشريك الاقليات في كل انشطتهم .

وقد نتجت عن هذه الحركية الفكرية حركات سياسية تقوم بعمل راديكالي في البلدان الغربية.وتعرف الحركة الاولى «بثقافة الالغاء» او (cancel culture) وهي تعمل الى الغاء وفضح والإدانة الواسعة على المستوى العام وعبر الشبكات الاجتماعية لكل المفكرين والسياسيين وحتى الفنانين الذي تتهمهم بعدم احترام التعدد والأقليات في اعمالهم وممارساتهم .وكانت حدة هذه الحملة وراء الكثير من النقد لهذه التوجهات الفكرية وراديكاليتها في نقد فكرة الهيمنة في مجتمعاتها.

وتقوم هذه الاتجاهات بحركات منظمة وحملات كبيرة لنقد شخصيات عامة لينخرط فيها ما يمسى جيل Z او génération Z) من شباب الثورة الرقمية والشبكات الاجتماعية دون اعطاء الفرصة لهذه الشخصيات للقيام بنقدها الذاتي. كما كانت هذه الاتجاهات الفكرية وراء ظهور حركة ما يسمى بتقاطع الطرق او (inter sectionnalité) والتي تسعى الى توحيد ساحات نضال المهمشين الذين يتعرضون لأشكال متعددة من الهيمنة والاستغلال .

ولئن ظهرت اغلب هذه النظريات النقدية الجديدة في الجامعات الغربية وبصفة خاصة الامريكية الا أن بلدان الجنوب لم تكن غائبة عن هذه الحركية الفكرية.

• النظريات الديكولونيالية ونقد العالم من الجنوب

ظهرت النظريات الديكولونيالية في امريكا الجنوبية في بداية هذا القرن .ويعتبر المفكر الارجنتيني انركي ديسال (Enrique Dussel) المساهم في ظهور افكار لاهوت التحرير (théologie de la libération) وهو احد اهم مفكري هذا التيار النقدي. وقد اهتم هذا التيار بدراسة العلاقة بين السلطة السياسية للاستعمار في امريكا اللاتينية وهيمنة الفكر الغربي.فالهيمنة الرمزية وليدة ونتاج للكولونيالية الغربية ولم تقف عند حصول بلدان الهامش على استقلالها بل تواصلت الى يومنا هذا.

وقد اهتمت هذه التيارات بإعادة احياء اعمال المفكرين في امريكا اللاتينية في العصور الوسطى الذين همشت مساهماتهم في الاطار الكولونيالي الاسباني . وقد دعا هذه الاتجاه الفكري الى تغيير جذري في علاقات الهيمنة التي فرضها النظام العالمي على الاطراف والتي تواصلت اثر الفترة الاستعمارية.

عرفت هذه التيارات الفكرية النقدية الجديدة تطورا كبيرا في اوساط النخب والشباب في البلدان المتقدمة وفي السنوات الاخيرة في بلدان الجنوب .وقد اصبح لهذه النظريات تأثير كبير ، لا في المجال الفكري فقط بل كذلك في المجال السياسي حيث اصبحت رافدا مهما لتعبئة الشباب في مختلف انحاء العالم في نضالاتهم ضد الهيمنة والاستغلال والاستبداد . وقد عرفت هذه التيارات نقدا عنيفا وجادا من قبل مسؤولين سياسيين كبار من ضمنهم الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب وعدد كبير من المثقفين والمفكرين الليبراليين وحتى اليساريين .وقد زادت حدة تحركات ثقافة الالغاء (cancel culture) من عنف النقد الموجه لهذه النظريات .وأشار بعض الكتاب الى ان هذه النظريات ليست إلا اعادة انتاج للفكر الماركسي التقليدي بثوب جديد وهي تمثل «المرض الطفولي للفكر الشيوعي».

لا يمكن لنا في هذا المقال الحديث عن كل الانتقادات التي تم توجيهها لهذه النظريات النقدية الجديدة، إلا انه يمكننا التأكيد على ثلاث مسائل اساسية. أولها انها تسعى لإنهاء دور الغرب وموقعه الاستراتيجي في العالم .اما المسالة الثانية فهي سعي هذه النظريات الى الالتفاف على كونية مبادئ الحداثة الغربية وتعويضها بأطر فكرية ترتكز على الهوية وخصوصية الحضارات والشعوب . وغياب هذا الفكر والإطار الفكري والفلسفي الجمعي سيقود حسب النقد الى تأجيج صراع الحضارات .كما يشير بعض النقاد الى العلاقة الملتبسة بين هذه النظريات النقدية والأنظمة الشعبوية في الجنوب والتي بدأت تعود الى الاستبداد وتضرب عرض الحائط بمبادئ الديمقراطية والتعددية وحقوق الانسان .

ورغم هذا النقد الموجه لهذه النظريات النقدية الجديدة الا ان تأثيرها يزداد اتساعا يوما بعد يوم خاصة عند الشباب وجيل Z . وقد شكلت هذه النظريات منعطفا وتحولا كبيرين في التفكير وفي الممارسة السياسية ليصبح نقد ورفض الهيمنة والاستبداد والاستغلال الذي فرضه النظام العالمي في كنه وجوهر المطالبة ببناء عالم جديد يقوده التآخي والتآزر والتعاون .

وستلعب هذه التيارات واهم مفكريها دورا اساسيا في رفض الحرب ودعم الشعب الفلسطيني خلال الحرب على غزة

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115