عوالـم نقد هيمنة الغرب ورفض الحرب ( 2)

بينما تتواصل الحرب على غزة تتصاعد حملات التضامن والدعم من المثقفين والمفكرين الناقديين في الغرب.

وقد ساهم هؤلاء المفكرون في تجديد الفكر النقدي للعلاقات الدولية وتجاوز حدود نظرية الامبريالية وفتح اطار فكريا جديد لدراسة وفهم علاقات الهيمنة في النظام العالمي.وسيشكل مفهوم «الكولونيالية» الاطار الجديد الذي سيسمح بتحليل علاقات الهيمنة بين الشمال والجنوب والتي ستتواصل بالرغم من نهاية الاستعمار المباشر .

• سمير أمين والهيمنة الكولونيالية

كان الاقتصادي المصري سمير امين احد اول مفكري العالم الثالث والذي اكد ان نهاية الاستعمار المباشر لا تعني نهاية الهيمنة الاستعمارية في بلدان العالمك الثالث . واشار الى ظهور الاستعمار او الكولونيالية التي تشكل الاشكال الجدية للهيمنة الاستعمارية على بلدان العالم الثالث .ولئن اهتم سمير امين في كتاباته وبحوثه بالمسائل الفكرية لهذه الهيمنة إلا ان تركيزه انصب على المسائل الاقتصادية وعلى فرضية التبادل اللامتكافئ (L’échange inégal) والتي تشكل اساس نظرية التبعية والكولونيالية التي طورها سمير امين منذ نهاية الخمسينات .

وكان لأعمال سمير امين وتحاليله وأفكاره تأثير كبير وكان السؤال المركزي الذي طرحه هو كيفية الخروج من هذا التطور اللامتكافئ بين البلدان الرأسمالية المتقدمة وبلدان العالم الثالث المستقلة حديثا والاستراتيجيات التي يجب وضعها للخروج من بوتقة النمو المشوه ودعم الاستقلال السياسي بنمو اقتصادي بقطع مع الاقتصاد الاستعماري .

وقد وضع سمير امين في دراساته وبحوثه الاصبع على جملة من العناصر التي تشكل اساس النظام العالمي او ما اسماه التراكم على المستوى العالمي والذي يعيد انتاج تبعية البلدان النامية رغم استقلالها السياسي .ويخص العنصر الاول الذي اشار اليه سمير امين النظام العالمي للأسعار والذي يساهم في نقل القيمة من البلدان النامية الى المركز الرأسمالي من خلال تثبيت صادراتها في مستويات منخفضة مقارنة بأسعار السلع المصنعة والتي تصدرها البلدان المتقدمة.

كما يؤكد سمير امين على مسألة التكنولوجيا ونقلها من البلدان المتقدمة الى البلدان النامية والتي ساهمت في التبعية والهيمنة .كما أشار الى التمويل من طرف البنوك الكبرى والتي ساهمت في تطور مديونية البلدان النامية وبالتالي في تبعيتها.

ساهمت تحاليل سمير أمين مساهمة كبيرة في التفكير الاقتصادي للحكومات الوطنية والدول التي وصلت حديثا للاستقلال .وكان لنظرياته تأثير كبير على سياساتها واستراتيجياتها وقد ساهمت بصفة كبيرة في بناء مواقف بلدان الجنوب وبصفة خاصة بلدان عدم الانحياز ومجموعة 77 وفي مطالب اصلاح النظام العالمي وبناء نظام عالمي جديد.

تراجع تأثير افكار وأراء سمير امين في ثمانينات القرن الماضي مع الثورة النيوليبرالية وتراجع الفكر النقدي .إلا هذه الافكار ستعود من جديد الى الواجهة منذ بداية التسعينات مع ظهور حركات نقد العولمة والقيم الاجتماعية البديلة .كما لقيت بعض الافكار التي دافع عنها سمير امين والنظريات الراديكالية مجالها للتطبيق في السنوات الاخيرة عند العديد من المؤسسات الدولية وفي عديد المجالات ومن ضمنها نظام الاسعار العالمي لمنع التهرب الجبائي نحو الملاذات الضريبية. ولم يقتصر نقد النظام العالمي على الجوانب الاقتصادية كما كان الشأن عند سمير امين وأصحاب نظرية التبعية بل شمل كذلك الجوانب الفكرية والرمزية.

• ادوارد سعيد ونقد الاستشراق

شكل كتاب «الاستشراق» لادوارد سعيد الصادر سنة 1978 في الولايات المتحدة الامريكية تحولا كبيرا في الدارسات النقدية للنظام العالمي وبصفة عامة للصورة السائدة حول تفوق الغرب على الاخر .كان هذا الكتاب واعمال ادوار سعيد بمثابة الثورة الفكرية في القراءات النقدية ليعتبر ان الشرق هو نتاج تاريخي للتيارات الاستشراقية وأعمالها في عديد المجالات الفنية والفكرية والسياسية.وأشار سعيد الى ان هذه الانتاجات الفكرية والفنية ساهمت بدرجة كبيرة في بناء الصورة السلبية للشرق والتي تصفه كما أشار الى ذلك «بالبدائي اللاعقلاني، العنيف، المتطرف والاستبدادي».

ويؤكد سعيد ان هذه النظرة التي ترتكز على «تمييز فكري وابستمولوجي» بين الشرق والغرب وتبني مقولة الشرخ العريض والواسع بين العالمين. واكد ان الاستشراق «هو تحيز خفي ومستمر محوره تفوق الحضارة الاوروبية ضد الشعوب العربية والإسلامية».

الى جانب المسائل الفكرية فإن للاستشراق حسب سعيد انعكاسات سياسية ليصبح اداة في يد الهيمنة السياسية للغرب على الاخر المختلف.يؤكد ادوارد سعيد ان المستشرقين عملوا في مختلف مجالاتهم الفكرية والفنية على بناء صورة نمطية ودونية للآخر . ويمر التغيير الاجتماعي حسب المستشرقين ودخول عالم الحضارة باستبدال المبادئ والأفكار الرجعية والقيم التقليدية السائدة عند الاخر بأفكار جديدة يقع جلبها من مجال الحداثة الغربية.

لقد وجه عديد المفكرين في الغرب كما في الشرق الكثير من النقد لتحاليل وافكار ادوارد سعيد ونقده للاستشراق الا انه سيكون وراء تجديد كبير للفكر النقدي وظهور تيارات فكرية جديدة ستنطلق من افكاره الكولونيالية الجدية.

• ما بعد الكولونيالية نقد النظام العالمي

كان لأفكار ونظريات ادوارد سعيد وكتاب نقد الاستشراق تأثير كبير على المجال الفكري والفلسفي ساهم في ظهور حركية فكرية راديكالية في نقدها للنظام العالمي وللهيمنة الغربية على العالم وعلى الاخر .وستكون افكار ونظريات ما بعد الكولونيالية اولى هذه التيارات الفكرية النقدية الجديدة التي ستظهر في بداية ثمانينات القرن الماضي بداية في الجامعات الامريكية ثم في اوروبا ثم بلدان العالم الثالث.

الى جانب ادوارد سعيد ونقده للاستشراق فان نظريات ما بعد الكولونيالية تنهل من مراجع فكرية اخرى ومتعددة لعل اهمها فرانز فانون واهم مؤلفاته «معذبو الأرض (les damnés de la terre) الصادر سنة 1961 و»بشرة سمراء ،وأقنعة بيضاء (Peau noire masques blancs) الصادر سنة 1952. كما تأثرت هذه التيارات بأفكار الكاتب من اصول تونسية البار ممي (Albert memi) وكتابه «بورتريه المستعمر» (Portrait du colonisé) الصادر سنة 1957.

وانخرطت هذه التيارات من الناحية المنهجية في التيار الفكري الماركسي الذي فتحه القائد الشيوعي والمفكر الايطالي قرامشي .ويعتبر المؤرخ الهندي هومي بهابا (Homi Bhabba) وڤياتري سبيفاك (Gayatri spivak) من اهم مؤسسي هذا التيار الفكري النقدي.

ويؤكد هذا التيار على تواصل العلاقات الكولونيالية حتى بعد وصول بلدان العالم الثالث الى استقلالها وتعتمد هذه الهيمنة على الجانب الفكري والثقافي وتحاول البحث والتنقيب في اليات هذه الهيمنة الثقافية وأدواتها والتي تحمل وتعيد انتاج النظرة الدولية للأخر. وتسعى هذه النظريات لنقد الخطاب الثقافي المابعد كولونيالي والتأكيد على هوية وخصوصية مجتمعات الجنوب ومكوناتها الثقافية وتؤكد هذه النظريات ان الخطاب الكولونيالي ساهم في بناء شرخ كبير بين العالم الغربي المتقدم والمتحضر وعالم الجنوب المُستَعمر الذي لازال يعيش في عالم الخرافة وهيمنة الاهوت.

وقد طرحت هذه النظريات ضرورة تحوير الخطاب الكوني من هيمنة الغرب وجعل اوروبا اقليما من اقاليم العالم (Provincialiser l’Europe) والذي كان عنوان احد كتب المؤرخ الهندي ديباش شكرابارتي (Dipesh Chakrabarty) وهو احد منظري تيار ما بعد الكولونيالية .

عرف تيار ما بعد الكولونيالية الكثير من النقد في عديد المنابر الفكرية والسياسية. وقد اعتبره الكثيرون من المدافعين عن الفكر الكوني وتأسيس لتيار يؤكد على خصوصية الاخر وبالتالي يفسح المجال لشرخ كبير في مجال المبادئ وأسس لقاء الحضارات وبناء انسانية جديدة .كما ان هذه التيارات باسم خصوصية مجتمعات الجنوب فتحت المجال من الناحية السياسية لتراجع المبادئ الديمقراطية ودعم الاستبداد الشرقي.

ورغم هذا النقد فإن نظريات ما بعد الكولونيالية تفتحت المجال منذ بداية الثمانينات لحراك فكري تعددي سيكون هاجسه الاساسي نقد النظام العالمي والهيمنة الموروثة من النظام السياسي.وستعرف حدة وراديكالية هذا الخطاب تطورا كبيرا على مر السنين ليصبح اليوم العدو الاساسي للأفكار التقليدية وللحداثات الاوروبية. كما سيكون الى جانب الثورة الفلسطينية أحد المساندين الاساسيين لصمود غزة

يتبع

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115