العالم نصّا وتأويلا شذرات من خطاب يدور على نفسه إلى روح محمّد الغزّي

قد كتبتَ نفسَك. فلماذا إذن تكتب عن كتابة نفسك؟

وهل تراني انتظرتُ إلى الآن حتى أكتُب عن كتابتي نفسي؟ كتبتُ عنها منذ وضعتُ لها عنوانًا. يظنُّون العنوان متلفِّتا إلى النَّص، ملخِّصًا له، مسْتجمعًا لمضامينه، موحِيًا به لدى عتبة الدُّخول إليه، وباختصار مُغْنِيا عنه أو مرغِّبا فيه. يظنُّون العنوانَ تنزيلا للنصِّ، ومَوْضعةً له بموقِعٍ ما. هل هو حقًّا كذلك؟

سأضع نفسي موضعَ الذي يريد الدُّخول إلى النصِّ. وسأفترض أنّه عديمُ الحيلة، أنه بشكل ما طيِّبُ السريرة، لا يُخفي غيرَ ما يُظهر. سأفترض ذلك رغم أن الذي يقرأ ليس دائما طيّبَ السّريرة. فللقارئ دوما حيله المخصوصة. أنا مثلا لا أبدأ الكتاب من حيث يبتدئ الكتاب. بين "بدأ" وابتدأ" نوع من التناظر، أو من "المناظرة" الصامتة. هي صامتة لأنها تتم بالنظر، بالعيون، تستعمل لغة العيون. كثيرا ما نَستعمل عبارة "لغة العيون" ونحن نفترض الصّمت، رغم أنّنا لا نقول الصّمت، ولا نصف السياق على أنّه سياق صمت. بل هو غالبا سياق ضجيج وضوضاء وهرج ومرج، تمرُّ من خلاله، تخترقه لغة العيون لا صوتا يعلو على الأصوات وإنما هي صوتٌ يخفُت عنها فيُسمع ويُتبيَّن أكثر منها جميعا: "حذار، لا تنفعل الآن" /"انتبه إنهم يكيدون لك" / "نلتقي بعد الجلسة"/ "أحضرتُ لك ما طلبت"/ "ما يقوله صاحبنا سخيف تافه" (هكذا كان يفعل صديقنا، بلقاسم، فيلسوف التعاسة عندما يلتفت في صمت إلى أحدنا فيمطّط شفتيه إلى الأمام ثم يعيدهما كأن لا شيئ، ولسان حاله يقول في صمت متواطئ: "ما يقوله هذا الغبي تافه وسخيف").
لكنَّ صاحبنا الذي (تركناه عند الباب) وهو يريد الدخولَ إلى النص، ليس له من مفتاح إلا العنوان. ولكن العنوان ليس مفتاحه هو. إنه مفتاحي الذي حدّدت له به من أيّ باب يدخل. ولكنّ الدّخول في الأصل ليس إليه باب واحد. أما وقد أعطيتَه مفتاح الدخول فقد حدّدتَ له باب الدخول إلى النص. ولكن هبه لم يأبه به، هبه قد الهته الصفحات التي تؤلف الكتاب عن العنوان ، هبه تفطَّنَ وحصّن نفسه من الوقوع في خدعة العنوان.. ألا تراه من بعد ذلك يبحث عن صلة تربط العنوان بما بعد العنوان، حتى لو كان سيجده في النّهاية بعيدا، غير معبّر، غير ملائم، مراوغا ...إنّ مجرّد البحث عن تلك الصّلة أثر من آثار العنوان، أعني أنّه أثر من آثار المراوغة التي "زيّفتُ" بها الدّخول إلى النّصّ (un zigzag par lequel j’ai falsifié l’entrée dans le texte).
هل الكتابة عن النص تزييف للنص في المعنى البوبّري، أعني أنها ضمانة معقوليَّتِه، ضمانة حقيقَتِه: قابليةُ تزييفِه، أو كما قال مترجمو بوبر: "تفنيديّتُه"، قابليةُ تفنيدِه وتكذيبِه؟ لا يكون النّص نصّا إذن إلا متى كان قابلا للتفنيد، وعلى من يكتب عن شيء ما أن يبحث في كل مرة عن حالات عدم صدقه، أن يختبر إمكانيات أخرى لروايته وسرده. ما يجري على النّص العلمي، بما هو بنية موصلة إلى حقيقة علمية، أو إلى إقرار علمي، يجري كذلك على النص الجمالي، في المعنى العام، بما هو نص يفي بروايةٍ أو بسرديَّةٍ أو بإخراجٍ للعالم أو للأشياء (une mise au jour du monde ou des choses)، وهو قابلٌ للتّزيف، للتفنيد. ماذا تعني تفنيديّة النّصّ هنا؟ هل تعني إنزالَه من حُرمته (son intégrité) التي هو بها غيرُ قابل للمسّ، ولا للمعالجة (non manipulabilté) ، إنزالَه من تلك الحرمة، إلى ضرب من "العولجية" (une espèce de bricolabilté)، أو إلى ضرب من تحويلية النفس وعلاقتها به (convertibilté, transférabilté, de soi)؟ ما الفرق بين المعالجة والعولجة والتّحويل ؟
تفرض علينا المعالجة ضربا من الالتزام بحدود الشيء الذي نعالج بحيث لا يمكننا ولا يجوز لنا إخراجه من مدى، من مجال، الوجود المخصوص له: مَاعُونيتُه أو أداتيتُه مثلا (son ustencilité)، أو قربُه منّا (sa proximité)، أو ارتباطُه بذاكرتنا (mémoriellité)، أو قداستُه (sacralité)، أو جلالُه الفنّي (sublimité)، إلخ. لا يمكننا مثلا معالجة أداة أو آلة أو جهاز إلا في اتجاه تشغيلها وفق قانونها المخصوص.
وتبيح لنا العولجة تكييف عجلة من عجلات السّيارة مثلا إلى نافورة مياه متعددة المخارج؛ أو تبيح لنا تغيير استعمال مظلة من سعف الجريد إلى نجَفة أو عنصر في فانوس؛ إنّها إعادة تكييف تتم بتغيير السياق المصاحب، وبالخروج خاصة عن السياق الأصلي. هي شيء من قبيل تمديد الصلاحية وتوسيعها، بوسائل أخرى: ففيها من عناصر المعالجة معرفة بالشيء، أما الجديد فيها فهو احتفاظه ببعض عناصره الأصلية من أجل مواصلة القدرة على مخاطبتنا خطابا آخر.
أما التّحويل فيمكّن من تغيير رؤيتنا لحدث ما من حدثٍ ذي إحداثيات مكانيةٍ وزمانية محدّدةٍ إلى وشم للذاكرة يستدعي ضربا من العود الموسمي المتجدد في معناه في كلّ مرة. لن نتحدث اليوم عن هذا المستوى الثالث.
إنني هنا في وضع شبيه بوضع البرّاني الإيلي في محاورة السّفسطائي لأفلاطون وهو يحاول الإمساك بالسّفسطائي عبر التداول على تعريفاته. إلى أيّ جنس تنتمي الكتابة عن النّص إذن؟ لاحظوا أنني لا أطرح السؤال عن كتابة النص، وإنّما عن الكتابة عن الكتابة. إلى أي جنس تنتمي الكتابة عن الكتابة. إلى أي جنس ينتمي "الكلام على الكلام"؟ هي تنتمي دائما إلى إحدى هذه الإمكانيات الثلاثة التي استعرضناها، وبحسب كل واحدة منها يتحول النص وتتحول علاقتُنا به.
المعالجة: تنتمي إلى الجنس العام للتفسيريات، هي تُسرِّح انسدادات النّص المختلفة، أو تُفرِّجُها، بحيث تجعله مفهومًا، ولذلك هي دائما تقوم على تقنيات ومناهج ومدارس
العولجة: رفع تطريسي للنص يتم بواسطته تحصيل الموازن للنص (نفس موادّه) في اختلاف عن تركيبته واستعماله الأصلي: هي مثلا ترجمته، إخراجه مسرحيا، رسمه تشكيليا . في حالتنا نحن تفترض عولجةُ الحياة قصَّتَها الخطّية المعروفة، والتي أصبح من الممكن اليوم حتى تسجيلُها في تفاصيلها. عولجتُها تفترض أنّ حدثية وقوعها، أو أنّ "وقائعيتها" كما تقول بعض التّرجمات، لم تعد حاسمة ولا محدِّدة: مات أبوها (كما قال سقراط متحدّثا عن النصّ المدوّن المكتوب)، ولذلك هي تترامى اليوم بين مساقات الكتابة، لا إعادةَ كتابة وترتيب (فهذا من سبيل المعالجة (le maniement/ la manipulation) حيث تبتغي الكتابة إرجاع الوعي إلى الوعي، وتسريح الذاكرة على انسداداتها، وتعمير بياضاتها وفراغاتها (كما في التحليل النفسي، أو في المعالجة التحليلية، تحليلا، أي "حلًّا" للمعروف على المعروف (une ouverture, une désobstruction des deux côtés du connu, permettant de rétablir entre eux un passage)) حتى تظفر من جديد بقصتها الوقائعية المتطابقة مع المعروف: ها نحن إذن أمام ما سماه فتحي انڨزّو، مسترجعا عبارة الفيلولوجي أوغست بوك، "معرفة المعروف".
أمّا عولجة الحياة، أمّا عولجة الأشياء، فلا تحتفظ منها إلا بمادّتها التي تقبل إعادة الاستعمال في غير ترتيبها، وعلى غير أصلها. عولجة الحياة هي حُلمها: ما معنى أننا نحلم حياتنا عندما نكتبها (Que signifie que nous rêvons notre vie en l’écrivant ?)؟ لا يحتفظ الحلم من الحياة إلا بمادتها التي يجردها من كل ارتباطاتها وسياقاتها، ويصنع بها أشيباء أخرى وقصصا أخرى. هو يصنع منها أضغاثا. ما هو الضَّغث؟ إنه ما لا خبر فيه. كل الذين بحثوا عن تفسير الأحلام (من أرتيميدورس إلى ابن سيرين إلى فرويد إلى لاكان)، إنما حاولوا إنكار الطبيعة الضَّغْثية للحلم، تلك الطبيعة التي لا تجعله أصدق إحالة على هذا الشيء منه على ذاك، وإنما تجعله بكل بساطة لا يحيل.
للكتابة عن النص إذن أنموذجان: أنموذج المعالجة التي تردّ النص إلى معناه، وتحيله على مرجعه، وتربطه بوقائعيته المخفية، وأنموذج العولجة التي لا تحتفظ من وقائعية النص إلا بمواد تحتفظ بماديتها، ببعض ماديتها، من دون أن تحتفظ بدلالتها .. ما شأن مادّة بلا معنى؟ هي مادة ماذا؟ إنها مادة الحلم – ولكن على شرط فصل الحلم عن كل معنى تبحث عنه المعالجة. للكتابة عن الحياة إذن إمكانان: إمكانية تبحث عن تطابق النص المكتوب مع الحياة (روايتها كما وقعت، ربطها بتسلسلها الزمني، إعادة رسم العلاقات بينها ضمن ما يسمى موضوعية الحدث أو الأحداث)، وإمكانية ثانية أعتقد أنها هي ما يعنيني: حلمُها، أعني الاحتفاظ بشذرات من مادّيتها، من بقايا مادتها، وإعادة الزجّ بها ضمن نص ليس له من المنطق لا قواعد عدم التناقض، ولا قواعد القبل والبعد ولا قواعد الدوام ضمن هوية. هذا النص هو حلمُ الحياة، حلمٌ يحلمُ الحياة: في هذا النص لا تبقى عناصر الوقائع إلا كما يبقى سعف الجريد في النّجَفة: لا يمكنك استرجاعه إلا إذا ما تخلّيت عن النّجَفة، ولكنّك في تلك الحال، أعني في حال تخلّيك عن النّجفة، لا تسترجع السّعف، وما تسترجع إلا حطاما كأيّ حطام.
سيكون من الصعب جدا عليّ أن أحوّل هذا الخطاب الذي تكلّم مجازات واستعارات وتقريبات إلى خطاب مفهومي. أتراني أقول في يومٍ ما إنّ محاصرة الفلسفة بالمفهوم باب من أبواب التوهّم على الفلسفة؟

 

 

 

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115