سلاح التجويع، عندما فشلت كل الأسلحة

مع تواصل الحرب المدمرة و فشل الخيار العسكري في تحقيق الأهداف

التي رسمتها الحكومة الاسرائيلية من خلال عملية اجتياح القطاع لجأت الى سلاح جديد لهدم صمود الشعب الفلسطيني وهو سلاح التجويع .فقد عملت السلطات العسكرية على وقف دخول المواد الغذائية والصحية طيلة أشهر الحرب الطويلة .وقد بدأت نتائج هذه الحرب تبرز للعيان امام العالم بأكمله مع تصاعد المجاعة حيث أشارت تقارير المؤسسات الاممية المختصة كمنظمة الاغذية والزراعة للأمم المتحدة او برنامج الغذاء العالمي الى التدهور الكبير للوضع الغذائي للسكان في كامل القطاع فتوالت صيحات الاستغاثة على مواقع التواصل الاجتماعي وظهرت بعض هاشتاغات مثل «انقذوا شمال غزة» و«›انقذوا غزة من المجاعة» و«شمال غزة يجوع».

وقد انتشرت مقاطع فيديو على نفس المواقع لأطفال والشباب يؤكدون انهم لم يأكلوا إلا وجبات قليلة منذ ايام .ويؤكد بعض الملاحظين ان الوضع الغذائي وصل الى حدود لا تطاق خاصة في شمال القطاع حيث يتساقط الناس مغشيا عليهم اثناء مشيهم في الشوارع بسبب سوء التغذية والجوع الذي اخذ منهم كل طاقاتهم وقوتهم .وقد اكدت تقارير عديد المنظمات الدولية الى أن « سكان غزة مهددون بالموت جراء الجوع والمرض أكثر من الغارات» وقد عزز موقع اكسيوس الامريكي هذه النتيجة في تقرير يشير فيه الى أن «الخطر المتعلق بالمجاعة ونقص المياه النظيفة والأدوية والظروف غير الصحية في غزة يزيد من المخاوف من ان يؤدي الجوع والمرض وجفاف الجسم ، لموت فلسطينيين بنفس القدر إن لم يكن اكثر ، من الحملة العسكرية الاسرائيلية».

ولعله من المشين ومن المأساوي ان يدفع الجوع وغياب الذرة والقمح العائلات الفلسطينية الى طحن اعلاف الحيوانات لصنع الدقيق منه وتغذية اطفالهم الجياع .ان اللجوء الى سياسة التجويع من قبل الجيش الاسرائيلي ليست نتيجة الظروف الامنية والحرب بل هي محصلة لسياسة منهجية لإبادة الفلسطينيين من الجوع وكسر صمودهم امام الة الحرب المدمرة .

سياسة الحصار والتجويع على القطاع

ان سياسة الحصار الغذائي الممنهجة التي تمارسها السلطات الاسرائيلية ليست وليدة هذه الحرب بل تعود الى سنوات حيث عملت على ايقاف المواد الغذائية القادمة على القطاع لتجعل اغلب السكان الفلسطينيين في حالة تبعية وفي غياب امن غذائي .فقد اشارت تقارير المنظمات الدولية الى ان اكثر من نصف سكان القطاع كانوا يعانون من فقدان المواد الغذائية ومن غياب الامن الغذائي . إلا ان هذا الوضع الغذائي سيشهد تدهورا كبيرا مع انطلاق الغزو البري للقطاع حيث ستشهد اغلب القطاعات الفلاحية ارتفاعا كبيرا والتي جعلت من احد اهدافها تدمير المزارع ومراكز تربية الحيوانات والأسماك .

الانعكاسات المباشرة للعمليات العسكرية لن تكون العامل الوحيد وراء المجاعة بل ستعمل سياسة الحكومة الاسرائيلية بطريقة ممنهجة لإيقاف الامدادات الغذائية على القطاع .

وقد انطلقت هذه السياسة بعد يومين من بدء الحرب حيث اعلن وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت عن قراره بمنع دخول الغذاء والماء والوقود الى القطاع «.وستغلق اسرائيل بداية من هذه اللحظة جميع المعابر مع قطاع غزة والتي كانت تستقبل قبل الحرب 600 شاحنة يوميا من معبر كرم ابو سالم .ولم تمكن اسرائيل المساعدات الانسانية التي وفدت على مطار العريش من الدخول إلا بعد 5 ايام والتي لم تكن تمثل إلا %1 من حاجيات القطاع .وسيعرف هذا الحصار ارتفاعا في حدته مع بداية الاجتياح البري لشمال القطاع في 31 اكتوبر .وسيحمل تدريجيا الى تقسميه الى ثلاث مناطق عمليات عسكرية : الشمال ، المنطقة الوسطى ورفح .

وستتجه سياسة التجويع بداية الى الشمال حيث منعت قوات الاحتلال دخول المساعدات الغذائية وإغلاق الطرق والمسارات المتجهة الى جنوب القطاع .وفي هذا الطوق تم متع السكان من التوجه لمناطق اخرى.

ولم يقتصر الحصار في الشمال على وقف دخول المساعدات بل تعداه الى خطوة جديدة في التنكيل حيث عمل الى تحويل العدد القليل من الشاحنات التي تتمكن من اجتياز هذه الحواجز العسكرية مصائد لقنص السكان المتجمعين حولها للحصول على شيء من الغذاء.وكان لاستهداف شاحنات المؤسسات الاممية الحاملة للغذاء نتيجة كارثية حيث اخذت قرارها بإيقاف المساعدات المتجهة للشمال مما ساهم في الاثار المأساوية للحصار .وأصبح شمال القطاع يعيش حالة ابادة جماعية صامتة من خلال استخدام الجوع سلاحا لإيذاء وقتل المدنيين .

وقد اعتبرت منظمة هيومن رايتس ووتش ان سياسة التجويع التي تستعملها الحكومة الاسرائيلية هي جريمة حرب حسب القوانين والمواثيق الدولية .ولئن بقيت الاوضاع المعيشية افضل نسبيا في الجنوب والمنطقة الوسطى الا ان الارتفاع الكبير في اعداد اللاجئين شكل ضغطا كبيرا على هذه المناطق والتي اصبحت تعاني تدريجيا من المجاعة .شكلت سياسة التجويع الممنهجة التي قامت بتطبيقها القوات الاسرائيلية سلاحا لإيذاء المدنيين وكسر صمود المواطنين وصبرهم امام هذا الجنون العسكري .وستكون لهذا الحصار انعكاسات انسانية خطيرة وكارثية على ظروف السكان المعيشية في كل مدن القطاع.

المجاعة والموت البطيء في القطاع

كانت لهذه السياسة العدوانية لتجويع الشعب الفلسطيني انعكاسات كبيرة على الامن الغذائي في كامل قطاع غزة .وقد اشار التقرير الاخير لمنظمة التغذية والزراعة للأمم المتحدة الى النتائج الكارثية لهذا الحصار الممنهج حيث اكد ان جميع سكان غزة مصنفون في المرحلة الثالثة من التصنيف المتكامل للأمن الغذائي او اكثر .ويعيش حسب هذا التقرير %79 من السكان في حالة طوارئ او في مرحلة الكارثة الغذائية .وأعطى هذا التقرير ارقاما اكثر فضاعة حيث اشار ان اسرة على اربعة تعيش ظروفا معيشية كارثية نتيجة الافتقار الشديد للغذاء .

وقد انعكس هذا الوضع الكارثي بصفة خاصة على الاطفال حيث تؤكد التقارير الاممية انهم يعيشون اوضاعا مأساوية ويعانون من خطر الجفاف وأمراض الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والأمراض الجلدية وفقر الدم.

ويجعل الجوع والجفاف من الصعب على الجسم مقاومة الامراض وكانت لغياب المواد الغذائية وندرتها انعكاسات كبيرة على الاسعار التي شهدت ارتفاعا جنونيا في اغلب مناطق القطاع مما زاد الطين بلة والأزمة الغذائية حدة .

وقد اطلقت المديرة التنفيذية لبرنامج التغذية للأمم المتحدة صيحة فزع من الحالة الغذائية وقالت «لا يمكننا أن نقف مكتوفي الايدي ونشاهد الناس يتضورون جوعا هناك حاجة الى ضمان الوصول الانساني كي تتدفق الامدادات الى غزة في جميع انحائها وكي يتمكن المدنيون من الحصول على المساعدات المنقذة للحياة بأمان».

وخيار التجويع ليس فقط للتشفي بل يأتي في اطار سياسة عامة تسعى من خلالها اسرائيل الى الوصول الى الاهداف التي وضعتها لهذه الحرب.

سلاح التجويع وأهداف الحرب

لقد وضعت اسرائيل أهدافا محددة عملت على تحقيقها من خلال الحرب المدمرة التي تخوضها منذ اشهر على قطاع غزة.وهذه الاهداف تدور حول تحرير الاسرى وهزم حركة حماس والمقاومة ودفعها للخروج من غزة كما كان الشأن اثر حصار بيروت في 1982.كما سعت اسرائيل من خلال هذه الحرب ال تهجير الفلسطينيين كما كان الحال في النكبة سنة 1948. إلا ان اسرائيل فشلت في تحقيق اي من هذه الاهداف بعد اشهر من هذه الحرب المسعورة على غزة وعجز الحل العسكري على هزم كتائب المقاومة التي ابرزت قوة صمود كبيرة .وقد اضافت اسرائيل الى جانب الحل العسكري سلاحا جديدا وهو سياسة التجويع من الضغط على المقاومة والسكان للقبول بشروطها لإنهاء الحرب والمأساة.

وقد ابدت المقاومة بعض المرونة في المفاوضات للتخفيف من الاثار الكارثية لهذه الحرب والتي يعيشها الشعب الفلسطيني يوميا في القطاع .إلا ان هذه المرونة لم تجد آذانا صاغية عند الجانب الاسرائيلي مما يهدد يتواصل المأساة خاصة امام صمت الدول الكبرى امام المجاعة وأهوال الحرب في قطاع غزة

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115