نحن وفلسطين: غزة ومأساوية صراع الحضارات

صدر منذ ايام في فرنسا في نسخة جيب كتاب المفكر الامريكي صامويل هينتنغتن Samuel Huntington

تحت عنوان «صراع الحضارات» او «les choc des civilisations» عن دار النشر الفرنسية المعروفة اوديل جاكوب odile Jacob في باريس .وقد اثار هذا الكتاب عند صدروه سنة 1996 ضجة كبيرة في الاوساط الفكرية والسياسية العالمية.واعتبر الكثيرون أن الزمن تجاوزه وأنه غير قادر على فهم وقراءة التحولات الدولية التي يعيشها العالم.فقد ركز هذا الكتاب على مسائل الهوية والبعد الثقافي والديني في تكوين الشخصيات الوطنية التي تكون محددتا في العلاقات الدولية وفي صراعات التناقضات والعنف الذي سيشهده العالم القادم.

رغم القيمة العلمية لكتاب للمؤلف الا انه لقيا نقدا شديدا ورفضا قطعيا في الاوساط الفكرية والسياسية.واعتبر الكثيرون ان الافكار التي دافع عنها الكاتب تسبح ضد التيار وضد التوافق الجديد الذي يعيشه العالم اثر سقوط جدار برلين ونهاية المسعكر الاشتراكي لتصبح الديمقراطية الليبرالية الافق الوحيد والجمعي الانسانية.

واثبت هذا الحلم الوردي هشاشته منذ سنوات بداية الحرب في العراق وأفغانستان وصولا الى الحرب في اوكرانيا. وقد اثبتت هذه الحروب تأثير الهويات المختلفة والبعد الحضاري في العلاقات الدولية والتي ساهمت في تفجير مخزون العنف في العلاقات الدولية. ورغم الدعوات والمؤتمرات الدولية والمنظمات العالمية التي سعت بكل جهدها الى تنظيم حوارات بين الحضارات ودعم مخزون الثقة بينها الا ان الصراع ظل طاغيا كذلك العنف الذي غلب في هذه العلاقات.

في هذا الاطار تعتبر الحرب المرعبة والدموية على غزة مواصلة لهذه الصراعات ومنطق القوة والعنف بين الحضارات والهويات المختلفة وحتى المتناقضة والتي تقود العلاقات الدولية.ورغم حجم الدمار والخسائر في الارواح التي نتجت عن هذه الحرب الدموية لم تتجرأ البلدان الغربية على نقد اسرائيل ومطالبتها بايقاف العدوان لانها تمثل امتدادا للحضارة الغربية داخل وطن وجغرافيا معادية وتنتمي لهوية وحضارة مختلفة ومناقضة لها ولا نقلل في هذه القراءة من اهمية الحركات المدنية والتعبئة التي قامت في كبرى البلدان الغربية لكن مواقف الحكومات بقيت بعيدة ومساندة لهذه الحرب المدمرة .

وقد جاءت اعادة نشر هذا الكتاب في الايام الاخيرة لتذكرنا بهذا الشرخ الكبير في عالم اليوم بين حلم العيش المشترك والمبادئ الكونية للديمقراطية وحقوق الانسان من جهة وواقع العلاقات الدولية كما تنبأ بها صامويل هيتنقتون في صراع الحضارات والتي ترتكز على العنف والحدة والقوة والهيمنة .

عالم ما بعد الشيوعية : نهاية التاريخ ام صراع حضارات

صدر كتاب صامويل هينتغتون سنة 1996.وقد كان هذا الكتاب توسعا وتعميقا لمقال نشره الكاتب تحت نفس العنوان في صائفة 1993 في مجلة Forgien affaires والتي تعتبر الاكثر تأثيرا في العالم وخاصة في مجال العلاقات الدولية.وقد لقي الكتاب نجاحا منقطع النظير رغم النقد الكبير الذي وجه إليه مما دفع الناشر الى اعادة نشره سنة 2011 بمقدمة من زبينقيو بريزنسكي (zbigniew Brezinski) والذي يعتبر مع هنري كيسنجر احد اهم صانعي الاستراتيجيات والسياسات الدولية للولايات المتحدة الامريكية .

وقد اشار المؤلف الى انه سعى في كتابه الى صياغة نظرية جديدة في العلاقات الولية بعد سقوط جدار برلين والمعسكر الاشتراكي في 1989.ويعتبر أن العالم للقادم والعلاقات الدولية لن يرتكزا على الخلافات والصراعات السياسة والإيديولوجية بل سيحتكمان الى المخزون الحضاري للدول والذي تلعب فيه الاديان دورا اسياسيا ومركزيا. وفي هذا الاطار تنبأ هينتقتون بأن العلاقات الدولية المستقبلية لن تكون هادئة وسلمية بل ستكون عنيفة وشرسة وستهدد استقرار العالم والسلم العالمية.

لقد اثار هذا الكتاب وفرضية صراع الحضارات الذي ستقوم عليه العلاقات الدولية المستقبلية الكثير من النقد والجدل في الاوساط السياسية والفكرية .فقد كان العالم تحت تأثير سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة التي وضعت العالم على شفا حرب عالمية جديدة وكانت هذه نهاية سلمية للحرب الباردة وكانت مصدر هدوء واطمئنان في الاوساط الفكرية والسياسة التي لم تكن مهيأة ومستعدة لسماع ما اعتبره الكثيرون تنبؤا بالشؤم والمصائب القادمة.

وقد أعطى الجامعي والكاتب فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) قراءة وتحليلا نظريين لهذا الاحساس بالطمأنينة والهدوء اللذين سادا النخب الفكرية والسياسية في تسعينات القرن الماضي .فقد اصدر قبل سنوات كتابا مهما تحت عنوان «نهاية التاريخ» او «la fin de l’histoire et le dernier homme» سنة 1992. وقد اكد فوكوياما ان سقوط جدار برلين ونهاية المعسكر الاشتراكي أنذر بنهاية الايدولوجيا التي طبعت العلاقات الدولية وبظهور عالم جديد ستكون الديمقراطية الليبرالية افقه ومداه.وقد كان لنظرية فوكوياما وفرضية نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية الليبرالية تأثير كبير على الاوساط الفكرية والنخب كذلك عند السياسيين وراسمي السياسات والاستراتيجيات الدولية.

وكان هذا العالم الايجابي والوردي الذي رسمه فوكويامكا وساهم سقوط جدار برلين في تثبيته موضع تساؤل وشك، فقد عرف العالم بعد فترة قصيرة من الهدوء والسلم عودة الحروب المدمرة: من نهاية وسقوط يوغسلافايا والحرب بين مختلف الديانات والجهات ثم الحرب في العراق وأفغانستان الى اوكرانيا وغزة اليوم.وقد أعادت هذه الحروب والعنف المدمر في العلاقات الدولية الى الاضواء صامويل هينتنغتون في الآونة الأخيرة ونظرية صراع الحضارات عند الكثير من المفكرين والمحللين.

هل سيقود صراع الحضارات العلاقات الدولية ؟

اكد صامويل هيتنفتون في كتابه ان العلاقات بين الدول ستقودها في المستقبل المكونات الدولية وسيلعب فيها الجانب الديني دورا محوريا. وفي تقديره يمكن تقسيم الحضارة الى ثماني حضارات كبرى ستحدد طبيعة العلاقات الدولية والصراعات التي سيشهدها العالم.

وهذه الحضارات هي:

- حضارة العالم الصيني والتي ترتكز على الصين لكنها تضم بلدان جنوب اسيا .وتلعب الديانة والعقيدة الكونفيشيوسية دورا مهما في تحديد اختيارات وتوجهات هذه الحضارة التي انطلقت 1500 قبل عصرنا .

- حضارة العالم الياباني والتي تفرعت عن الحضارة الصينية وبدأت في التشكل بين القرنين الاول والرابع.

- الحضارة الهندية والتي ظهرت 1500 قبل عصرنا

- الحضارة الاسلامية والتي ظهرت في القرن السادس ميلادي وتشمل هذه الحضارة بعض الفروع كالعربية والتركية والإيرانية

- الحضارة الارتوذكسية والتي تشكل روسيا محورها

- الحضارة الغربية والتي تشمل حسب الكاتب اوروبا وامريكا الشمالية وزيلندا الجديدة واستراليا

- حضارة امريكا اللاتينية والتي تشمل مزيجا من الديانات المسيحية وثقافات السكان الاصليين

- الحضارة الافريقية

وفي قراءة الكاتب ستحدد الحضارات العلاقات الدولية والصراعات والتعاون الدولي وبما ان الدول الكبرى تنتمي الى حضارات مختلفة فإن عالم ما بعد الشيوعية سيكون عالم الخلافات والصراعات التي ستؤدي الى حروب مدمرة وعنيفة .وفي هذا الاطار وجه هيتنغتون نقدا شديد اللهجة إلى فوكوياما وللعالم الوردي الذي رسمه معتبرا ان المبادئ الكونية المشتركة التي دعا اليها مجرد أضغاث احلام ولن تصمد امام حدة صراع الحضارات.

الإسلام والعرب في صراع الحضارات

تعرض الكاتب في مؤلفه باطناب إلى الحضارة العربية والاسلامية وأكد على عمق التناقض بين الاسلام والمسيحية. وقال «في القرن العشرين لا يرتقي التناقض والخلاف بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية الليبرالية الى المستوى والشرخ الذي تحمله العلاقة بين الاسلام والمسيحية «.وقد انتقد بطريقة حادة السياسيين الامريكيين وبصفة خاصة وقتها الرئيس بيل كلينتون الذي اشار في احد خطبه- كذلك الرئيس اوباما من بعده- الى ان مشكلة امريكا والغرب بصفة عامة ليست مع الاسلام بل مع الحركات الجهادية والإسلام العنيف.

وقد اكد هيتنفون في كل كتاباته على الشرخ الكبير والاختلافات بين الاسلام والعرب والغرب .وفي هذا الاطار اعترض على حرب الخليج وعلى مشروع المحافظين الجدد حول الرئيس بوش لتصدير الديمقراطية وغرسها في المنطقة العربية.

في اتون هذه الحرب المدمرة على غزة لابد من العودة قليلا الى الوراء لفهم اسباب هذا التحالف الغربي الداعم لإسرائيل بكل قوة. وفي هذا الاطار تشكل افكار هيتنغتون وفرضية صراع الحضارات المجال والسياق الذي ترسم فيه العديد من الدوائر سياساتها وتوجهاتها الاستراتيجية لتجعل من العنف والحرب وقودا للعلاقات الدولية واطارا للحفاظ والدفاع عن مصالحها. وقد رفضت هذه الدوائر مبادئ التعدد ومحاولة بناء المبادئ الكونية للديمقراطية وحقوق الانسان لتتشبث بأفكار وفرضيات الاختلاف والتناقض الجوهري بين الحضارات والتي تجعل من القوة والعنف المجال الوحيد للتعاطي والتعامل .

لئن وجدت هذه الافكار اذانا صاغية قادت العالم الى المزيد من الماسي والحروب الا أننا نعتقد اننا نحتاج الى بناء علاقات وعالم ارحب يبعد عنا شبح الحرب وأهوالها واعادة بناء المشترك الكوني وذلك يتطلب منا التخلص من هذه الرؤى والتصورات والخروج من النظرة الاستعلائية والكولونيالية في التعاطي مع الآخر .

وهذا ما بدأت بعض التيارات الفكرية الديكولونيالية تقوم به في الغرب .فهل ستكون قادرة على تهميش فرضية صراع الحضارات وإقناع النخب الفكرية والسياسية بأن الحوار مع الآخر والحضارات المختلفة ممكن لبناء مشترك كوني .

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115