نحن وفلسطين (12): غزة وما بعد عبثية الشر la banalité du mal

تتواصل الحرب المدمرة على غزة قرابة ثلاثة اشهر مخلفة

وراءها الآلاف من الشهداء والجرحى وخاصة من الاطفال والنساء. كما أتت هذه الحرب على المؤسسات الصحية والتربوية في كل مناطق القطاع لتترك خلفها الدمار والخراب واليأس .وعلى الرغم من قوة آلة الحرب الاسرائيلية الا أنها لم تنجح في انجاز اهدافها الثلاثة وهي اجتثاث المقاومة في القطاع وتحرير الاسرى واجتثاث الفلسطينيين ودفعهم الى الهجرة مع نكبة جديدة كالتي عاشها الشعب الفلسطيني في 1948. كما لم تنجح هذه الحرب في نفس الوقت في تدمير القدرة العسكرية للمقاومة وهي التي نجحت في حرب الشوارع ووجهت ضربات قاصمة الى جنوده وآلياته.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبعد هذه الايام والليالي الطوال من القصف والتدمير يهم البعد الانساني للذين يقودون هذه المجزرة مع اعتى الديمقراطيات التي تساندها او تغمض أعينها رغم ضخامة الهجومات وبربريتها .اسئلة عديدة تطرح نفسها على الاخلاقيات والعقل الانساني .كيف نسمح لهذه الجرائم ان تدور امام اعيننا دون التجند لإيقافها؟ طبعا عرفت اغلب البلدان الكبرى واعتى الديمقراطيات في العالم والعديد من بلدان الجنوب هبة مواطنية لايقاف هذه الحرب من خلال مظاهرات ضخمة في شوارع اكبر العواصم. إلا ان هذه التعبئة والرفض المواطني لم يكونا كافيين للضغط على الدول الكبرى لايقاف هذه الحرب المدمرة لتتواصل المجازر والتدمير وحرمان الشعب في غزة من الطعام والماء وادنى مقومات التغطية الصحية.

وتتواصل المجزرة أمام أعيننا

تتواصل هذه المجزرة اليومية امام اعيننا مع عجز تام عن إيقاف هذه الحرب المريعة. وتعجز الألسن عن وصف الهول والفظاعة مما تعيشه غزة يوميا. فقد استهدف القصف المتواصل المستشفيات بحجة وجود مخابئ وانفاق للمقاومة بداخلها الا ان الوقائع وحتى التي قدمها الجيش الاسرائيلي اثبتت عدم وجاهة هذه الحجة. كذلك استهداف المؤسسات التربوية وتهديم المدارس على رؤوس اللاجئين الذين ظنوا للحظة ما أن أماكن العلم تحظى بحماية ولا يمكن ان تتعرض للقصف. كما تم قصف المراكز الدينية من جوامع وكنائس وحتى العبث بمحتوياتها والاستخفاف بالشعور الديني الدفين لأهل غزة وظهر ذلك من خلال فيديوهات وصور توثق هذه الاعتداءات على المقدسات.

وكانت الاعتداءات الاشنع على البيوت والمراكز السكانية التي كان جيش الاحتلال يعلم انها ملأى بالسكان العزل لتترك حولها الالاف من الشهداء والجرحى وخاصة من النساء والأطفال.

ولم ينج من هذا التدمير الشامل الصحفيون اذ وقع استهدافهم مع عائلاتهم وكأن الجيش المعتدي يسعى ان تكون هذه المواجهة والجريمة في فضاء مغلق. ورغم هذه الاعتداءات تمكن الصحافيون من ايصال صور هذه المجزرة اليومية الرهيبة الى احرار العالم ليساهموا في التنديد بفضاعة هذه الاعتداءات.

وقد خلف هذا القصف أطفالا موتى ومعاقين ويتامى .كما خلف آلاف المشردين في الشوارع بعد ان تم تهديم مساكنهم ليواجهوا البرد والجوع ويلملموا جراحهم ويحاولون دفن موتاهم الذين بدأت الكلاب تنهش أجسادهم.

كيف يمكن للإنسانية ان تواكب صامتة هذه المجزرة المروعة ؟ وكيف يمكن للأخلاق ان تنسى ان هذه المجازر ترتكب في حق اناس ينتمون الى الجنس الانساني.ولعل السؤال الاهم، كيف يسمح سياسيو اسرائيل لقادة الجيش الاسرائيلي وضباطه وجنوده بارتكاب هذه الجرائم في حق الشعب الفلسطيني في غزة وفي كل فلسطين؟ كيف يمكن لهم ان ينفوا صفة الانسانية على الاخر ليرتكبوا في حقه هذه الجرائم المروعة؟

«حنا أراندت» وعبثية الشر والإبادة

حاول عديد المفكرين والفلاسفة التفكير فهم تحول الانسان الى شخص كاسر يسعى إلى تدمير الآخر والقضاء عليه بتشف. ولعل من اهم الفلاسفة الذين تعرضوا لهذه المسالة «حنا اراندت» الفيلسوفة ذات الاصول اليهودية والتي هاجرت الى امريكا مع صعود النازية في المانيا .وقد طلبت اراندت من الاسبوعية المعروفة في امريكا وذات الشهرة في الاوساط المثقفة The New Yorker او النيويوركي تغطية محاكمة المسؤول النازي ادولف ايشمان (Adolphe Eichman) بين سنتي 1961 و1962 بعد ان وقع اختطافه من قبل مخابرات الكيان الصهيوني .وقد جمعت جملة هذه المقالات في كتاب تحت عنوان «تفاهم الشر» او «la banalité du mal» والذي اثار ضجة وانتقادات كبيرة باعتبار ان الكثيرين اعتبروه تبرئة ذمة لهذا المجرم النازي.

وقد أصبح مفهوم تفاهة الشر مفهوما متداولا في المجال الفلسفي لفهم كيفية خروج الانسان العادي من انسانيته ليصبح ذلك الوحش الكاسر الذي يتشفى من تدمير الآخر. واعتبرت «حنا اراندت» أن هذا التحول يقع عندما يتخلى الانسان عن طاقته في التفكير ليطبق الاوامر بطريقة اوتوماتيكية دون تفكير. ويكون هذا التخلي وراء عدم قدرة الشخص على القيام بحكم اخلاقي والفصل بين الخير والشر.

لقد أثارت هذه القراءة الكثير من النقد بالرغم من ان حنا اراندت اشارت في نهاية كتابها الى ان ايشمان مسؤول عن افعاله وان المحاكمة ضرورية. الا انها في رأيي تقلل من اهمية الايديولوجية النازية والعنصرية التي شرعت وأعطت الغلاف الايديولوجي لهذه الماسي .

بالعودة إلى الحرب المدمرة التي تشنها القوات الاسرائيلية على غزة تطرح مسألة الايدولوجيا العنصرية التي تقود الحكومة الاسرائيلية والتي اعتبرها الكثيرون الاكثر دموية وعداء الفلسطينيين. فقد أعطت هذه الايدولوجيا الغطاء لهذه التصفية العرقية ومحاولة الابادة الجماعية للشعب الفلسطيني لدفن حق البقاء والعودة نهائيا.

وفي هذا الاطار تكمن اهمية الدعوى التي رفعتها جنوب افريقيا ودعمتها ماليزيا وعدد كبير من المحامين ومن ضمنهم محامون تونسيون ضد اسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. وستفسح هذه الدعوى المجال الى إدانة المسؤولين المباشرين عن هذه الحرب والجرائم كذلك الايدولوجيا العنصرية التي وفرت الغطاء لهذه المجازر.وقد تعطي هذه الدعوى وقراراتها والإدانة الصارخة لهذه الاعتداءات الاطار السياسي للخروج من ايديولوجيا التصفية العرقية وإعادة بناء اطار فكري كوني يجرم كل محاولات وسياسات تصفية الآخر.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115