نحن وفسلطين (11): غزة ونهاية المثقف العضوي

نعيش على وقع تواصل الحرب المدمرة على غزة وآثارها المريعة على السكان العزل

خاصة منهم النساء والأطفال.ويتواصل هذا العدوان ويتواصل معه صمود المقاومة وذلك في ظل عجز عربي ودعم غربي متواصل.

وكان لهذه الحرب منذ انطلاقتها انعكاسات كبيرة على مستويات عديدة من السياسي للاقتصادي والاستراتيجي والاجتماعي .كما كانت لهذه الحرب انعكاسات كبيرة على المستوى الفكري والمعرفي .فقد كانت وراء شرخ كبير على المستوى الفكري مع تراجع المفكرين والمثقفين وصمتهم وان لم نقل في مساندة البعض منهم لهذه الحرب .ولم يبق الا عدد قليل من من يمكن ان نسميهم المثقفين العضويين الذي نددوا بهذه الحرب المدمرة وسط هجومات ونقد شديد من المؤسسات الرسمية.

ان هذا الشرخ العميق الذي تعيشه الساحة الفكرية وهشاشة الانتماء الى المبادئ الكونية التي دافع عنها المفكرون في كل انحاء العالم .وقد فتح الكثير من النضالات الفكرية مع حركة ما بعد الكولونيالية والسياسة مع حركة المجتمع المدني العالمية الى جانب المواقف الرسمية التي طالبت باصلاح النظام العالمي وفتح الابواب الى بناء عالم جديد متعدد ومنفتح على الهامش والاخر .الا وسرعان ما أعلنت هذه الحرب عن نهاية هذا الحلم الجمعي وأمل بناء تجربة سياسية مشتركة .

وما تراجع مساهمة المثقفين العضويين ووقوفهم مع مطلب ايقاف هذه الحرب المدمرة الا مؤشر على الشرخ الذي يشق العالم والذي سيجعل مهمة اعادة بناء الكوني الجمعي صعبة ان لم نقل مستحيلة. وقد مكنت هذه الحرب القوى الاكثر دموية من اقصى اليمين من اجهاض حلم التعايش المشترك وزرع الخوف والجبن والاحباط عند المثقف العضوي الذي ورثناه عن قرامشي .

غرامشي وتجديد الفكر النقدي

يعتبر انطونيو غرامشي احد اهم القادة السياسيين والمفكرين والمنظرين في بداية القرن العشرين .ولد في قرية اليس في جزيرة سردانيا سنة 1891 ودرس الاداب في تورينو.ساهمت هذه الدراسة في تنمية اهتماماته الادبية والفنية ليصبح ناقدا مسرحيا نشر مقالاته في اهم الصحف والمجلات الرائدة .

والى جانب نشاطه الفكري والأدبي سيساهم قرامشي في الحراك السياسي الثوري الذي عرفته ايطاليا في بداية القرن العشرين حيث سيساهم في عديد التنظيمات وسيقوده هذا النشاط السياسي الى تأسيس الحزب الشيوعي الايطالي سنة 1921.وسيكون احد القادة التاريخيين للحزب حيث سيتحمل مسؤولية اللجنة التنفيذية للحزب .وسيتم انتخابه نائبا سنة 1924 .

وقد وقع ايقافه بأمر من القائد الفاشي موسييليني الذي بسط هيمنته على كافة اجهزة الدولة وسيفارق قرامشي الحياة تحت تعذيب سجانيه في 27 افريل 1937.وعلى خلاف قادة شيوعيين بارزين في القرن العشرين فقد قرامشي الى اليوم رمزا سياسي وفكريا يتجاوز تأثيره الحدود الضيقة للتجربة والسياسة الماركسية ليصبح احد رموز الفكر النقدي العالمي .فقد عرفت هذه الفترة التاريخية تراجع البعد النقدي والمنفتح للفكر الماركسي مع هيمنة الستالينية الفكرية والاستبداد السياسي .فقدت الماركسية خلال هذه المرحلة بعدها النقدي والتعددي المنفتح على تطور مختلف المجالات الفكرية لتعرف تكلسا كبيرا وتدخل مجال الايدولوجيا الثابتة والمنغلقة على نفسها .

وفي هذا الموقع السياسي ومع صمود الاستبداد والفاشية والانغلاق والجمود الفكري لعب غرامشي دورا اساسيا ليعلن عن القطيعة مع الستالينية ليحاول اعادة بريق الفكر الماركسي واحياء بعده التحرري والنقدي .وسيقوم قرامشي بهذا العمل النقدي والنظري المهم من خلال مساهمات سيقع تجميعها في كتاب «دفاتر السجن» والذي سيصبح مرجعا نظريا اساسيا في الفكر النقدي العالمي.وسيساهم هذا الكتاب في الصيت الكبير الذي سيحض به قرامشي على المستوى وفي اعادة احياء الفكر النقدي العالمي .وسيتواصل هذا العمل وهذا التقليد النقدي في المجال الفكري مع عدة مدارس وتيارات فكرية ومفكرين هامين نجد على رأسهم مدرسة فرانكفورت في ميدان العلوم الاجتماعية وحنا ارندت وجرجن هابرماس في المانيا وعديد المفكرين في فرنسا ومنهم جاك دريدا والان باديو وسيمون دو بوقوار وبيار بورديو وميشال فوكو وريمون ارون وجون بول سارتر.

وقد تواصلت تقاليد الفكر النقدي لفهم تحولات وتطورات مجتمعاتنا المعاصرة في المركز الغربي وكذلك في العديد من بلدان الجنوب لتشكل نبراسا لقراءة عالمنا المتغير وضبط السياسات الضرورية لتغييره نحو الافضل .وكان لتجربة ومحاولات قرامشي اهمية كبرى من حيث ابتكاره وادخاله وقراءاته لمفاهيم جديدة مثل المجتمع المدني .الا ان في رأيي كانت قراءاته المهمة لمساهمة المثقفين في الديناميكية الاجتماعية من خلال تقديم مفهوم المثقف العضوي .

المثقف العضوي وديناميكية الصراع الاجتماعي

لقد اهتم غرامشي من جملة القضايا التي درسها بموقع المثقفين في الحركة الاجتماعية ودوره في الصراع الذي تعيشه الفئات والطبقات الاجتماعية.فعند قرامشي تمر هيمنة الدولة والمجتمع السياسي في المجتمعات الحديثة بعديد المؤسسات من ضمنها الاجهزة الصلبة كالأمن والجيش والتي تفرض خضوع المجتمع لهذا النظام .كما يشير الى الاجهزة التشريعية التي ترسم وتحدد القوانين .كما يشير الى البيروقراطية التي تعمل على تطبيق القوانين والمحافظة على الاختيارات الكبرى للدولة والنظام السياسي.ويمكن ان نضيف الى هذه الشبكة المعقدة من المؤسسات جملة الاطر التي تسهر على الجوانب الايديولوجية للنظام الاجتماعي ومشروعيته ومن ضمنها المدرسة والجامعة ومراكز البحث والمؤسسات الدينية كالكنيسة.

وفي هذا الاطار المؤسساتي المركب والمعقد يأتي الدور الاستراتيجي للمثقفين حسب قرامشي الذين ينتمون لطبقات اجتماعية مختلفة ويعلمون على بسط هيمنتها وسيطرتها على النظام السياسي .ويعمل المثقفون في فترات تاريخية مختلفة على بناء تصورها للمجتمع والعالم .وتسعى كل طبقة من خلال مثقفيها لمقارعة رؤية وتصورات الطبقات السائدة في الانظمة القديمة وإبراز دورها الرجعي ومحاولاتها العودة الى الوراء. كما عمد مثقفو ومفكرو الطبقات السائدة الى نقد الافكار الثورية الداعية الى تغيير الانظمة القائمة ونقدها واتهامها بمحاولة دفع المجتمعات نحو المجهول وعدم الاستقرار. وفي اطار هذه القراءة لدور المثقفين قدم غرامشي مفهوم المثقف العضوي المرتبط بطبقة او فئة اجتماعية معينة يسعى لبسط هيمنتها ودعمها في بناء كتلة تاريخية للهيمنة على النظام السياسي.

وقد عرف مفهوم المثقف العضوي رواجا كبيرا لقراءة وتحليل دور المثقفين في الصراع الاجتماعي الا ان القراءات الحديثة تحررت من تعريف قرامشي ليصبح المثقف العضوي هو المثقف المرتبط بقضايا التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي والذي يدافع بدون هوادة على قضايا المضطهدين في المركز الرأسمالي كما في بلدان الجنوب.

وقد عرفنا في العقود الاخيرة عديد المثقفين العضويين والذي انخرطوا في النضال من اجل التحرر والانعتاق نذكر منهم جان بول سارتر وستيفان هيسيل وناعوم شمسكي.الا ان المحير والمثير للإحباط هو غياب هؤلاء المثقفين العضويين اليوم وصمهم المخيف امام احدى الحروب الاكثر تدميرا في السنوات الاخيرة.

غزة وتراجع المثقف العضوي

اثبتت الحرب المدمرة على غزة تراجع المثقف العضوي الذي لعب دورا كبيرا على مدى القرن العشرين في الدفاع على التحرر والمضطهدين .كانت هذه الحرب وراء شرخ كبير بين المفكرين والمثقفين على المستوى العالمي .فقد اختار العديد منهم الاصطفاف وراء اسرائيل وحقها على الدفاع على نفسها امام الارهاب العربي وحركة حماس .اما النسبة الكبيرة من المثقفين فقد اختارت الصمت المشوب بالخوف من فقدان مناصبهم وتأثيرهم في المؤسسات العالمية .ومن بين هؤلاء نذكر الكثير من المثقفين من ذوي الاصول العربية والذي تبوؤوا عديد الاماكن المهمة والذين لاذوا بالصمت ولم نسمع اصواتهم حتى للتنديد بالمجازر اليومية التي ترتكبها الة الحرب الاسرائيلية ضد المدنيين العزل.

ورغم هذا الصمت المدقع لابد من الاشارة الى بعض الاصوات التي ولئن نددت بهجوم حماس يوم 7 اكتوبر الا انها وقفت الى جانب الشعب الفلسطيني ودعت بكل قوة لايقاف هذه المجزرة.ومن بين هذه الاصوات لابد من الاشارة الى الفيلسوف جوديت بتلر Judith Butler والأستاذة في جامعة بركلاي (Berkley) والتي دافعت على الشعب الفلسطيني وطالبت بايقاف الحرب.وكان من نتائج هذه المواقف قرار بلدية باريس بإلغاء المحاضرة التي كانت ستلغيها جوديت بتلر في احدى مسارح باريس يوم 6 ديسمبر الفائت.

كما عبر عدد كبير من المثقفين الفرنسيين على (نفس المواقف) وقوفهم ضد الحرب في عريضة تم نشرها يوم 16 نوفمبر على موقع ميديابارت Mediapart وتم من 1300 مفكر .وقد اكدت هذه المواقف على ضرورة الخروج من اشكالية الابادة التي ارتبطت في المجال الفكري بعلاقة المثقفين مع اسرائيل بعد هولوكست النازية في الحرب العالمية الثانية الى اشكالية نهاية الاحتلال والخروج من الكولونيالية التي تسيطر على السياسات الاسرائيلية والغرب بصفة عامة بعلاقة بفلسطين .كانت الحرب المدمرة على غزة وراء شرخ كبير في المجال الفكري والثقافي العالمي ووراء تراجع كبير للمثقفين العضوي المناهض للهيمنة الاستعمارية والمساند للتحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي كما حدده قرامشي .وسيكون لهذا الشرخ تاثير كبير وسلبي على محاولات اعادة بناء اطار فكري وسياسي كوني يؤسس لتجربة جمعية تحترم التعدد والاختلاف .

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115