نحن وفلسطين (10): غزة ونهاية ما بعد الكولونيالية في الفن

تتواصل الحرب المدمرة على غزة على مرأ ومسمع من العالم

بل وبدعم متواصل من قادة المعسكر الغربي تاركة خلفها آلاف الشهداء من النساء والاطفال وعددا مهولا من الجرحى .كما كانت هذه الحرب وراء تدمير كلي للبنية التحتية الصحية والتعليمية وكل مرافق الحياة في غزة.الا انه وبالرغم من هذا التدمير الانتقامي فلم تتمكن هذه الحرب من القضاء على المقاومة وتدمير قدراتها العسكرية والقتالية.

وكانت لهذه الحرب عديد الانعكاسات على مستويات عدة من الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والإستراتيجية.الا ان هذه الانعكاسات لم تتوقف عند هذه الجوانب بل تجاوزتها الى عديد المسائل الاخرى ومن ضمنها المسائل الفكرية والفنية والابداعية .

وسنتوقف في هذا المقال على مجال الفن وبصفة خاصة مجال الفن التشكيلي المعاصر حيث كانت انعكاسات الحرب على غزة صادمة للكثيرين الذين اقتنعوا بان هذا المجال يعيش ثورة فكرية وإبداعية منذ سنوات سمحت بنقد التعبيرات الفنية والتقليدية الموروثة من هيمنة الفكر الغربي وتهميش كل اشكال الفن. لقد عرف ميدان الفن الماصر في العقود الاخيرة ثورة فكرية وابتسمولوجية لم تعرفها مجالات وميادين فنية اخرى .فقد استفاد الفن المعاصر من تطور نظريات ما بعد الكولونيالية في المجال الفكري والفلسفي لنقد التعبيرات التي هيمنت على هذا الميدان الابداعي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ساهمت في اعادة بناء السيطرة الرمزية للانا الغربي على الاخر .وقد نجحت هذه الديناميكية في تهميش ابداعات الاخر لتجعل من تعبيرات الفن الغربي المرجع والمعيار للجمالية والابداع في الفن المعاصر، إلا ان هذه النظرة ستعرف تمردا كبيرا على المستوى العالمي لنقد هذه النظرة الكولونيالية للابداع ولظهور حركية فنية جديدة ستقطع مع هيمنة المركز وستفتح الفن المعاصر على تجارب الاخر وتساهم بالتالي في هيكلة مشهد ابداعي عالمي جديد وجعل التمرد على الانماط الفنية سائدا وبصفة خاصة على القوالب الجمالية الغربية.

وقد ساهمت المجالات المختصة والمعارض الكبرى للفن المعاصر على المستوى العالمي في دفع هذه الديناميكية واعطاء هذا التمرد عنوانا كبيرا من خلال اعطاء هذا التمرد عنوانا كبيرا باعطاء حيز كبير لفناني الهامش من افريقيا والعالم العربي واسيا وأمريكا اللاتينية. كان الاعتقاد راسخا ان هذه التمرد ساهم في دك اسس الكولونيالية في ميدان الفن المعاصر وبناء عالم ما بعد كولونيالي جدي قوامه الاختلاف والانفتاح على عالم الاخر واماله وأحلامه .الا ان اندلاع الحرب في غزة جاء ليبدد هذه الاحلام لتتوقع للمؤسسات الكبرى الفن المعاصر على نفسها وتقطع مع التمشي المنفتح وتعود الى هيمنة الكولونيالية الغربية في اهم مظاهرها وتثبت بالتالي هشاشة التمرد والثورة في الفن المعاصر في السنوات الاخيرة.

• الحرب على غزة ونهاية الفسحة في الفن المعاصر

منذ بداية الهجوم على غزة عرفت السوق العالمية للفن المعاصر وبعض المعارض رفض دعوة الفنانين الفلسطينيين او العرب او الذين عبروا عن مساندتهم للشعب الفلسطيني.

وكانت القطرة التي ستدخل عالم الفن المعاصر في ثورة مضادة هي العريضة المساندة للشعب الفلسطيني والتي نددت بالعدوان على غزة والتي تم امضاؤها من قبل 8000 فاعل فني على المستوى العالمي والتي تم نشرها يوم 19 اكتوبر في مجلة Art Forum (منتدى الفن) الامريكية المعروفة والتي تتمتع بمصداقية كبيرة في ميدان الفن المعاصر.

وستثير هذه العريضة ردة فعل عنيفة من قبل فاعلين اخرين مساندين لإسرائيل وستكون اولى ردات الفعل هي طرد رئيس تحرير هذه المجلة دافيد فيلاسكو(David velasco) والذي يعتبر احد اهم نقاد الفن المعاصر في العالم .كما عرفت فرنسا نفس التعبئة حيث جمعت عريضة مساندة لغزة ولفلسطين من الفنانين الاف الامضاءات وتم نشرها على موقع Media part يوم 7 نوفمبر 2023.

وستكون هاتان العريضتان اللتان حظيتا بعدد كبير من الامضاءات نقطة انطلاق لحرب معلنة ومحاكم تفتيش ضد الفنانين الذين امضوا عليها او عبروا عن مساندتهم للشعب الفلسطيني .فالفنان الصيني الكبير Ai weiwei ( اي ويوي) عرف الغاء ثلاثة من معارضه القادمة في لندن وباريس وبرلين بعد نشره لتدوينة مساندة للشعب الفلسطيني وفي المانيا قررت ادارة متحف ايسن بالغاء مشاركة الفنان الهايتي Anaïs Duplan (انييس ديبلان) لنشره لتدوينة مساندة لمجموعة تنشيط في اطار مقاطعة اسرائيل واسمها DBS اي (Boycott Sarctions désinvestissements)

وسيتواصل هذا الهجوم على الفنانين الذين دعموا الشعب الفلسطيني في الايام الاخيرة فقد وقع الغاء البينالي للصور الفوتوغرافية الذي كان مبرمجا في مدينة منهايم في مارس 2024 نظرا لان مدير الدورة المصور البنغالي شهيدول علم قد عبر عن مساندته للشعب الفلسطيني في عديد المناسبات .

وقد خيمت هذه الاجواء ومحاكم التفتيش المنتصبة على اجواء اهم المعارض للفن المعاصر في العالم le documenta والتي تنظم مرة كل خمس سنوات وتجمع اهم التعبيرات الفنية في العالم .فقد قدم كل اعضاء الهيئة المديرة استقالاتهم مؤكدين ان سببها يعود الى التراجع هامش للحرية التي يتمتعون بها في اختياراتهم مما قد يؤدي الى الغاء هذه التظاهرة الضخمة .ولعل المثال المضحك المبكي عن هذه الحملة والتي اطلق عليها البعض الماكارتية المعاصرة نسبة الى الحملة في امريكا ضد الشيوعيين هو ما تعرضت له الفنانة من جنوب افريقيا candrice breitz وهي من جذور يهودية والتي اتم الغاء المعرض التي كان مبرمجا في ربيع 2024 في متحف مدينة ساربروك في المانيا لأنها لم تندد بهجومات حماس لـ7 من اكتوبر خلقت ردات الفعل العنيفة من قبل مؤسسات الفن المعاصر جوا من الخوف والذعر والفزع عند الفنانين دفعت الكثير منهم الى الانسحاب من الفضاء العام والحوار والنقاش والاكتفاء بأعمالهم الفنية .

• عودة الخوف في الفن المعاصر

اعلنت الحرب في غزة عن نهاية الفسحة والتمرد والثورة في مجال الفن المعاصر وعودة هيمنة المؤسسات الرسمية على المبدعين وبصفة خاصة تقييد اصواتهم والحرية التي تمتعوا بها في السنوات الاخيرة .فبعد ربيع الابداع يعيش هذا المجال شتاء قاسيا حيث اصبح الخوف والذعر يسودان مما نتج عنه انسحاب عدد كبير من الفنانين من النقاش في القضايا السياسة العامة والتقوقع حول اعمالهم الذاتية.

ويعتبر الفنان الجزائري كادر عطية اهم مثال على ذلك حيث كان احد المساهمين بطريقة كبيرة في النقاش العام حول القضايا السياسية وبصفة خاصة نقد الفكر اللكولونيالي ومحاولة فتح افاق جديدة للإبداع. الا انه منذ اندلاع الحرب فقد التزم الصمت ورفض الادلاء باي تصريح او اي موقف.

ان التطورات التي عرفها ميدان الفن المعاصر هي لعمري تعبير عن الوهم والسراب الذي مثله العالم ما بعد الكولونيالي وهشاشته .فعند اول ازمة حقيقية عاد كل اللاعبين الى مواقعهم التقليدية للدفاع عن العالم القائم وكأن النقد المابعد كولونيالي يهم عالم الامس والاستعمار ولا يجب له ان يعترض على اعادة انتاج هذه الهيمنة في عالم اليوم .

ويبقى الخطر الكبير الذي يمكن ان يعيشه عالم الفن المعاصر هو القطع مع التمرد الذي ميزه ليعود الى عالم اقل مغامرة و يتميز بصعود الرقابة الفنية الذاتية عند المبدعين لتفادي المواجهة مع مراكز القوى في هذا المجال .

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115