نحن وفلسطين (9): وتتواصل ثورة الجنوب مع غزة

دخلت علاقة بلدان الجنوب مع القوى الكبرى والبلدان الرأسمالية في ازمة كبيرة في الفترة الاخيرة .

وقد بدأت هذه الازمة اثر انطلاق الحرب الروسية على اوكرانيا ورفض الكثير من بلدان الجنوب الاصطفاف وراء موقف البلدان الرأسمالية وخاصة بلدان المعسكر الغربي الداعية الى فرض حظر شامل على روسيا .وقد رفضت بلدان الجنوب الهجوم الروسي واعلانه الحرب على اوكرانيا مؤكدة ضرورة احترام مبدا السيادة الوطنية للبلدان داخل حدودها .لكنها في نفس الوقت لم توافق ولم تلتزم بالقرارات التي سعى المعسكر الغربي الى فرضها على روسيا ومن ضمنها بصفة خاصة قرار الحظر الشامل .

وقد تحول هذا الخلاف الى غضب واستياء من قبل بلدان الجنوب والتي أخذت تبرز كقوة جديدة على المستوى العالمي .ولا يقف هذا الامتعاض والسخط على موقف المعسكر الغربي من الحرب في اوكرانيا بل يتجاوزه ليعبر عن رفض دفين وثورة لبلدان الجنوب على النظام العالمي وعن تواصل هيمنة البلدان الرأسمالية على المؤسسات الموروثة من الحرب العالمية الثانية وعجزها عن الانفتاح على الازمات التي تعيشها هذه البلدان والقيام بتغييرات وإصلاحات كبيرة لمواكبة التحولات الكبرى والتغيير الكبير في موازين القوى العالمية .

تحول هذا السخط الى ثورة لبلدان الجنوب على النظام العالمي ودعوة صريحة لإصلاح حقيقي وجدي للمؤسسات الدولية .وقد اعطت كل المؤتمرات الدولية وبصفة خاصة قمة مجموعة البريكس في جنوب افريقيا في اوت 2023 الفرصة للتعبير عن هذا الغضب والضغط على البلدان المتقدمة لتغيير النظام العالمي واصلاح قواعده بكل جدية .

الى جانب التهميش وعدم التوازن الذي تعاني منه بلدان الجنوب ساهمت سياسة المكيالين في الغضب والاستياء العام لهذه البلدان من النظام الموروث من الحرب العالمية الثانية .

وقد كانت الحرب على غزة فرصة جديدة لبلدان الجنوب لنقد سياسة المكيالين الذي يتعامل به الغرب مع قضايا السياسة الدولية والعدوان على غزة .ففي جمع المعسكر الغربي كل امكانياته المالية والسياسة والعسكرية للوقوف مع اوكرانيا باسم الدفاع على الديمقراطية فقد غض النظر على المجازر التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية من جراء القصف المتواصل والذي ذهب ضحيته الالاف من الضحايا اغلبهم من النساء والاطفال .كما رفضت اغلب القوى الغربية دعم مطلب وقف اطلاق النار وفسحت المجال لإسرائيل لمواصلة اعتداءاتها .

وقد لعبت بلدان الجنوب دورا اسياسيا في رفض العدوان الاسرائيلي على غزة بالرغم من العلاقات الكبيرة التي تجمع البعض منها باسرائيل .ولئن أدانت البعض منها هجوم حماس يوم 7 اكتوبر الا ان اغلب بلدان الجنوب -ان لم نقل كلها- ادانت بشدة الاعتداءات الاسرائيلية والحرب المدمرة على القطاع .وقد صوتت اغلب بلدان الجنوب الى جانب مقترحات ايقاف اطلاق النار في كل المؤسسات الدولية من الجمعية العامة للامم المتحدة الى اغلب المؤسسات الاممية الاخرى وبصفة خاصة منظمة اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسف.

الى جانب دور المنظمات الدولية لعبت البلدان الصاعدة دورا مهما في النقد والتنديد بالاعتداء الاسرائيلي على غزة .وقد كانت مجموعة البريكس في الصف الأول لحشد بلدان الجنوب، اذ دعت افريقيا الجنوبية والتي تترأس المجموعة منذ قمة اوت 2023 التي استضافتها الى قمة استثنائية انعقدت يوم 21 نوفمبر وتم تخصيصها للحرب في غزة وقد توجه رئيس القمة ورئيس افريقيا الجنوبية سيريد رامافوزا بخطاب افتتاحي شديد اللهجة قالي فيه: «ان هذا العدوان جريمة حرب» وطالب بايقاف فوري لإطلاق النار.

وقد لعبت اهم بلدان مجموعة البريكس دورا هاما في تعبئة بلدان الجنوب ضد اسرائيل وضد العدوان على غزة وكان موقف افريقيا الجنوبية هو الاقوى من ضمن مجموعة البريكس والذي يمكن تفسيره بالعلاقات التاريخية والنضالية بين الثورة الفلسطينية ومنظمة الؤتمر الوطني الافريقي (ANC) والذي قادت النضال الوطني ضد نظام التمييز العنصري بقيادة الزعيم نلسون مانديلا .وقد اتهم الرئيس امافوزا اسرائيل بالقيام بجرائم حرب واعتبر العدوان على غزة ابادة جماعية .وقد قامت جنوب افريقيا بدعوة كل ديبلوماسييها للعودة الى بلدهم ومغادرة اسرائيل .كما قرر البرلمان في جنوب افريقيا اغلاق مقر سفارة اسرائيل بالاجماع .

كما تبنت الصين نفس الموقف الرافض للعدوان الاسرائيلي في عديد المناسبات وبصفة خاصة عند قبولها لوفد وزراء خارجية الدول الغربية والاسلامية يومي 20 و21 نوفمبر 2023 والذين كلفهم اجتماع القمة العربية والإسلامية المنعقد في 11 نوفمبر بزيارة كافة البلدان الاعضاء الدائمين في مجلس الامن للتعريف بالموقف العربي والمطالبة بوقف اطلاق النار .

كما عبرت عديد البلدان الاخرى من الجنوب عن مساندتها المطلقة للشعب الفلسطيني ومطالبتها بايقاف اطالق النار .وهنا لابد من التنويه بالموقف التونسي الرسمي والشعبي حيث كانت بلادنا من أوائل الدول التي ارسلت مواد اساسية غذائية وصحية لقطاع غزة عبر معبر رفح.كما فتحت بلادنا ابواب مستشفياتها للعديد من الجرحى من غزة لتمكينهم من التداوي .كما كان الموقف الشعبي داعما لنضالات وصمود الشعب الفلسطيني من خلال تنظيم المظاهرات والتظاهرات الثقافية في كل المدن التونسية .

لقد كانت الحرب والعدوان على غزة لحظة تاريخية مفصلية في العلاقات الدولية وفي انهيار وتشتت النظام الدولي الموروث منذ الحرب العالمية الثانية.

وكانت هذه الحرب وراء اشتعال جديد لثورة بلدان الجنوب على المعسكر الغربي وتزايد تمردها على سياسة المكيالين التي تقود العلاقات الدولية .

وقد التقت بلدان الجنوب حول ثلاثة مطالب رئيسية في هذا الصراع يهم المطلب الاول ايقافا فعليا وشاملا لإطلاق النار والسماح للقوافل الصحية والغذائية بالدخول الى غزة لتمكين السكان من اساسيات الحياة وإحياء شيء من الامل الذي أطفأت جذوته هذه الحرب المدمرة .

اما المسالة الثانية فهي ذات طابع قانوني وتهم تقديم اسرائيل للعدالة الدولية ومثولها امام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكابها لجرائم حرب. وقد انطلقت قصة المماطلة التي تمارسها المحكمة الجنائية مع القضية الفلسطينية منذ وضع شكوى رمزية في 2008.ثم في مارس 2021 قررت المدعية العامة فاتو بن سودة (Fatou Ben Souda) فتح تحقيق حول الانتهاكات الاسرائيلية في الاراضي الفلسطينية وذلك ثلاثة اشهر قبل نهاية ولايتها الا ان هذه المبادرة بقيت تراوح مكانها مع المدعي العام الجديد البريطاني الجنسية كريم خان .وهذا التراخي كان نتيجة للضغط الكبير الذي سلطته اسرائيل -التي ليست عضوا في المحكمة- ضد البلدان الاعضاء.

وفي نوفمبر 2023 قررت افريقيا بمعية اربع دول اخرى وهي جزر القمر ودجيبوتي وبوليفيا وبنغلاديش رفع دعوى جدية ضد اسرائيل وجرائمها في غزة .قد قررت عديد الدول مغادرة المحكمة اذا واصلت مماطلتها في متابعة اسرائيل. والى جانب هذه الدعوى التي اثارتها هذه الدول، لابد من الاشارة الى الائتلاف الذي يضم اكثر من 800 محام والذي قرر مقاضاة اسرائيل .

في نفس الشهر قدمت بعض الجمعيات وضحايا هجومات 7 اكتوبر من الاسرائيليين دعوى ضد حماس .ويؤكد هذا المسار القضائي هيمنة مبدا المكيالين الذي يسود العلاقات الدولية .ففي حين لقيت مبادرة المدعي العام للتحقيق في الجرائم الروسية في اوكرانيا في فيفري 2022 دعم 40 دولة غربية أما اليوم تعارض جلّ هذه الدول فتح تحقيق في القضية الفلسطينية .

أما المسالة الثالثة التي تؤكد عليها بلدان الجنوب فتهم ضرورة وأهمية الحل السياسي الذي يضمن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني .

لقد اضافت الحرب في غزة عنصرا جديدا في الشرخ الذي يقسم العالم بين القوى التقليدية التي تهيمن على النظام العالمي الموروث من الحرب العالمية الثانية وبلدان الجنوب التي تدعو الى اصلاحات جذرية لبناء نظام عالمي متوازن واكثر عدلا .

والأكيد ان هذه التراكمات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستقود الى مفاوضات جدية بين كل الدول لبناء نظام جديد يضمن الاستقرار والسلم والتنمية .

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115