القطيعة بين الشعب و»النخبة»: ما الحل؟

دق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تقريره الشهري حول الاحتجاجات الاجتماعية لشهر أوت الماضي ناقوس الخطر وقدم تشخيصا مرقما للوضع المأساوي الذي تعيشه البلاد.رئيس المنتدى أضاف في ندوة صحفية أن تونس تعيش انقساما وهو أمر ملحوظ في المناطق الداخلية

حيث فقد الأهالي ثقتهم في الأحزاب السياسة ومنظمات المجتمع المدني وأن الأهالي لا يعيرون أية أهمية للسياسيين والنقابيين وأصحاب جمعيات المجتمع المدني وإلى ممثليهم في مجلس نواب الشعب.
هذه القطيعة بين النخبة الحاكمة أو حتى القريبة من الحكم وعامة الشعب خطر يهدد البلاد فتعطل قنوات الاتصال بين الطرفين تدفع الطرف الأول وخصوصا إذا كان فاقدا للخبرة أو من قيادات الصف الثالث والرابع في الأحزاب القديمة إلى اتخاذ قرارات غير صائبة وإتباع سياسات غير منتجة لا أنيا ولا مستقبليا. أما الطرف الثاني الفاقد للثقة والتأطير فنراه يدفع إلى الحلول العنيفة بالسرعة القصوى طبقا لمقولة «علي وعلى أعدائي يا رب».

نحن بصدد «نخبة «تمارس في معظمها التحيّل والكذب و»التلحيس» والشعبوية المفرطة وتغيير المواقف والقفز بين الشقوق والتقية وازدواجية الخطاب همها الوحيد تحقيق المكاسب المادية والامتيازات خصوصا غير المشروعة وتسلق السلم بأكبر سرعة وعموما نحن بصدد «نخبة» لا تؤمن بالجدارة بل نراها تضرب بها عرض الحائط وتحقد على من يتمسك بها والمحصلة «أن ثورتنا المجيدة» أنتجت لنا «نخبة» لا طعم ولا لون لها فهي حربائية متقلبة «تدور مع الأرياح وين يدور».

نحن دون إطالة إزاء مشهد سريالي مفزع لم نر أي رئيس لقائمة من قائمات الحزب الفائز يقوم بإخماد حريق اجتماعي أو يتصدى سلميا لاعتصام أو عملية قطع طريق واقنع منفذيه بالعدول عن الممارسات العنيفة لم نر رئيسا دائرتي صفاقس 1و2 يتحولان إلى جزيرة قرقنة لفك اعتصام بيتروفاك ويتحاوران مع مجموعات من الناخبين المحتملين لهم ولم نر رئيس قائمة دائرة قفصة يتحول إلى الحوض المنجمي ويربط الصلة بالمحتجين ويقنعهم ويزرع في نفوسهم الأمل فروما وفرانكفورت وحتى البقاع المقدسة أقرب من أم لعرايس والرديف ولم نر رئيس قائمة دائرة سوسة يسعى إلى فك الاعتصام وفتح الطريق بين سوسة والقيروان ولم نتابع رئيس قائمة دائرة قبلي وهو يضع حدا لحروب داعس وغبراء بين أهالي القلعة ودوز وحدث ولا حرج عن القصرين ومدنين ولربما نجد عذرا لرئيس قائمة دائرة بنزرت نظرا لتقدمه في السن وندرة الاحتجاجات والاعتصامات بدائرته، وان كنا نجد عذرا لرئيس قائمة دائرة بنزرت فإننا لا نعثر على عذر للنائبة رقم واحد بالقيروان الناشطة جدا لكنها لم تخصص الوقت بعد لفك اعتصامات العطش واحتجاجات الأهالي المنكوبين فربما أجلت الأمر إلى الصائفة القادمة.

ما ذكرناه بخصوص الحزب الأول ينطبق على نواب «الحليف الاستراتيجي والشريك المنافس» وربما عذر نوابه عدم خبرتهم في مجال فك الاعتصامات والاحتجاجات ذلك أنهم تدربوا خلال السنوات الثلاثين الماضية على نقيض ذلك ولم ينقطعوا عنه حتى بعد وصولهم إلى السلطة فهم يرعون منذ حوالي سنة اعتصاما بالقصبة للمطالبة «بريع نضالي» ومدى الحياة لمن لم تشملهم سنتي 2012و2013 والتي كلفت الدولة حسب بعض المصادر أكثر من ألف مليار. ذلك هو ثمن نضال إخواننا مناضلي الحركة الإسلامية وتعويضا لهم عن سنوات السجن وهي سابقة في تاريخ تونس المعاصر.

الأخوة في الحزب الثاني الفائز بالانتخابات لا يرون ضرورة للوقوف ضد الاحتجاجات والاعتصامات وربما يحبذونها خفية فهي أولا تضعف الحليف الاستراتيجي وتأزم الأوضاع بما يتيح ربما العودة إلى الحكم من الباب الكبير. أما بقية أحزاب «الائتلاف المهمين» وما تبقى لها من نواب بعد موجة السياحة الحزبية التي شهدها الصيف الماضي ليست أفضل حال فنوابها لا يتمتعون بشعبية كبيرة في دوائرهم تمكّنهم من إطفاء الحرائق ....

إجمالا يمكن القول بأن الانتخابات التشريعية الأخيرة لم تفض إلى إفراز قيادات جهوية ومحلية جديدة تتمتع بالمصداقية والحضور وقادرة على تعبئة المواطنين وإشاعة الأمل في أوساطهم وكسب ودّهم وتعاطفهم، «النخبة الجديدة» غير قادرة على التحكم في الديناميكية التي يعيشها المجتمع ومواكبتها وغير قادرة على السيطرة على الانفلاتات. انتقلوا من دوائرهم إلى قصر باردو وبعضهم حوّل قصر باردو إلى محطة للانطلاق نحو القصبة وعموما فان المجلس فقد عددا لا بأس به من النواب وخصوصا من رؤساء القائمات وتحديدا من الحزب الأول فلقد فقِد رؤساء قائماته في كل من تونس وبنعروس وأريانة ومنوبة وبنزرت ونابل 1 و2 والكاف والقيروان وتوزر وقابس وسليانة وزغوان وباريس والعالم العربي أغلبية من بقوا من رؤساء القائمات رجال أعمال في حاجة إلى تمتين علاقاتهم مع الأهالي في ولايات سوسة وصفاقس ومدنين والقصرين بالرغم من ترؤسهم لجمعيات رياضية لأغراض سياسية.

أما المنظمات النقابية والتي لا تتعدى تمثيليتها للقوى النشيطة العاملة 13 % ويمكن أن تنزل إلى ما بين 2 إلى 3 % في القطاع الخاص فهي تضم في صفوفها عددا اقل من جمهور المعطلين عن العمل والبالغ حوالي 700 ألف. عدد المعطلين يفوت عدد المنقّبين في صفوف الحركة النقابية وهي غير قادرة على السيطرة على الحركات الاحتجاجية في صفوف منظوريها فما بالك بحمايتهم من سياسة الصد عن العمل التي بات يمارسها المعطلون وأحيانا العصابات التي تندسّ في صفوف المعطّلين وتحكم قبضتها على الحركات الاحتجاجية طورا لفائدة دوائر الفساد والأموال المشبوهة وطورا آخر لفائدة بعض التنظيمات السياسية التي تجنّد هذه العصابات خدمة لأغراضها.

فإحدى المنظمات النقابية العريقة لم تر حرجا في شن إضراب عام بجزيرة قرقنة ترتب عنه حرق مقرات الأمن والرمي بوسائل عمله في البحر الأمر الذي أدى لمغادرتها للجزيرة منذ موفّى أفريل الماضي ونفس المنظمة العريقة التي أسهمت في بناء تونس الحديثة ولم تمارس حقا إضراب منذ سنة 1975 إلى نهاية سنة 1963 ولم تر مانعا من شن الإضراب العام لأكثر من مرة في مدن بنقردان والمكناسي والرقاب ومنزل بوزيان وسيدي بوزيد وقبلي وتوزر وفي عدد من المدن الأخرى في شكل إضرابات تضامنية لأسباب تافهة وشعبوية.

أما ما يسمى بالمجتمع المدني فقد سبّب دمارا غير مسبوق في المشهد السياسي من خلال ممارسة شعاره المفضّل «ديقاج» فلا يمكن للمرء أن ينسى ما قامت به لجان حماية الثورة سيئة الذكر أو الجمعيات الخيرية التي تشرف على بيع شباب تونس للمنظمات الإرهابية.
هذا المجتمع المدني الذي تعسف بسبب وبدونه على مئات المديرين والمعتمدين والولاة وحتى عمداء الكليات وغيرهم وأراد في إحدى المرات طرد مئات الصحافيين ضمن ما سُمّي «اعتصام إعلام العار» الذي رعاه و دعّمه باسم المجتمع المدني أحد السياسيين الذي أصبح أحد «حمائم» حزبه وبات يمجد صباحا مساء «إعلام العار» ويتمسح على عتباته ويعمل على الحضور في منابره بضعة أشهر فقط من ممارسته السلطة جعلته يتحول من ثوري لا يشق له غبار إلى أعمدة الولاء لكل ما هو قائم حتى الفاسد منه والمؤسف أن أمثاله يعدون بالمئات أن لم نقل بالآلاف في فضاء»الائتلاف المهيمن على السلطة» وفي رحاب المجتمع المدني.

لاشك أن الهوة ما انفكت تتعمق بين النخبة» السياسية والنقابية والجمعياتية والأهالي في المدن والقرى والأرياف وان درجة الثقة انحدرت إلى أدنى المستويات والمهم اليوم ليس أن نسجل وجود الهوة إنما أن نتداركها وان نجسّر العلاقة مجددا وترميم ما يمكن ترميمه

خصوصا وان المواعيد الانتخابية القادرة نظريا على إفراز النخب لا يحل موعدها إلا سنة 2019 للتشريعية والى تاريخ غير معلوم بالنسبة للانتخابات البلدية. إن الوضع ما انفك يتأزم والبلاد تسير قدما نحو الخراب والحكمة تقتضى أن يقوم من تبقى من عقلاء في الأحزاب والمنظمات والبلاد عموما بخطوة شجاعة لاستنباط جملة من الإجراءات لتجنيب البلاد الكارثة وحتى لا تخرج الأوضاع عن السيطرة الحل ربما يكمن في استعجال الانتخابات البلدية مع احترام مقتضيات القانون والدستور حتى نتجاوز الفراغ المفزع الذي تعيشه المدن والقرى الداخلية في ظل غياب ملحوظ لكل مظاهر السلطة وإن بروز نخبة محلية قد يكون اليوم من أوكد واجبات السلطة العمومية والمجتمع خاصة.

مختار بوبكر

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115