اليســـار وحكومة الشاهد

أثارالموقف من حكومة الشاهد مرة أخرى جدلا داخل اليسار التونسي بتعبيراته المتعددة الحزبية و النقابية والمستقلة والناشطة في المجتمع المدني وعاد النقاش حول علاقة اليسار بالحكم و الدولة من جهة وقضايا الإستراتيجية و التكتيك والتحالفات وهي ليست المرة الأولى التي تهتز فيها بداهات

ومسلمات طالما تمسكت بها تيارات يسارية لتتبنى بعدها قناعات أخرى سواء كان ذلك إزاء موقف من حكومة أو جبهة أو مهمة أو تحالف فتتفرق الآراء وتتباين و في إختلاف الآراء ذاته علامة صحية وإختبار للديمقراطية إذا صحت العزائم .
ليس هذا المقام مناسبا للعودة إلى محطات العشريتين الأخيرتين قبل سقوط بن علي و بعده لبيان المسافات التي كانت تباعد وجهات نظراليسار التونسي الذي لم تجمعه جبهة موحدة في النضال من أجل الحريات و لمواجهة الإستبداد لأسباب واهية وحتي مع مختلف الحكومات المتعاقبة بعد 14 جانفي ومنذ حكومة الغنوشي الأولى وصولا إلى حكومة الشاهد كانت للعائلة اليسارية الموسعة مواقف متباينة في قراءة المرحلة وتحديد أولوياتها وبناء الممارسة السياسية على أساسها فقد تأججت الخلافات إلى حد الوصول الى التلاسن بين القيادات وتبادل التهم و التخوين أحيانا وشيئا من العنف حينا آخر.

وإن يتجه على مدار هذه المحطات كل موقف إلى التّحصّن داخل قلعته البلاغية و الخطابية لخوض حلقة من حلقات الخلاف فإن تغير الأوضاع و المواقف يفضي إلى تبني كل طرف لخطاب الطرف الآخر الذي كان يرفضه و يستهجنه في مشهد سريالي يصعب على الرأي العام متابعته وفهمه. وكأننا بالتاريخ يعيد نفسه في الشكل الذي لا يتوقعه أحد.

ما يهمنا اليوم هو المنعرج الجديد الذي رافق الدعوة الرئاسية منذ جوان الفارط لحكومة وحدة وطنية والتي لم يستحسن أسلوبها رئيس الحكومة السيد الحبيب الصيد نفسه ورفض حمله على الإستقالة ليعيد الأمر في حركة تاريخية ورمزية مهمة إلى المؤسسات الجمهورية والدستورية أي إلى البرلمان الذي سحب الثقة من حكومة حكم عليها مساندوها السّابقون بعد عام ونصف بالفشل الذريع ثم تتابعت مظاهر إرتباك اليسار مع مراحل الإعداد و التشكيل ومنح الثقة للحكومة الجديدة.
وبعيدا عن إنزلاق الجدل والسجال أحيانا إلى مساحات غير مقبولة أخلاقيا بإستهدافها للأشخاص والإغراق في ردود الفعل المتبادلة العديمة الجدوى والتي حفل بها ولا يزال الفضاء الإفتراضي والإعلامي أو محاكمة النوايا فإن ما حملته حكومة الشاهد من تموقع جديد لجزء

من اليسار التونسي داخل مؤسسات الحكم و ما دفعت إليه من دعوات جدية من داخل الجبهة الشعبية وقريبا منها إلى قادتها بغاية إبراز حاجتها الملحة لتحيين خطابها و رؤيتها فنحن ومع هذه العودة السياسية إزاء منعرج لافت و ليس حدثا عابرا ولا عديم الدلالة السياسية.
إننا أمام قراءتين و ممارستين سياسيتين بإسم اليسار أو إنتسابا إليه الأولى تقوم على أرضية الوحدة الوطنية لإنقاذ أوضاع البلاد وفق رؤية بلورها اتفاق قرطاج وصاغها بنبرة حماسية مقصودة رئيس الحكومة الجديد في خطاب التكليف أمام البرلمان و الثانية تبقي على أرضية المعارضة الرافضة للتوافق المغشوش و تستمر في القيام بدورها في التشهير بالحكومة و التحريض عليها سياسيا بناءا على يأس من قدرتها علي وضع سياسات عمومية تنفع البلاد وتقطع خطوات جديدة في مسار التحول السياسي والإجتماعي و الإقتصادي وقبل أن تقوم الحياة بهمة الحسم بين الموقفين وتوضيح صوابية أي خيار لنسعى بدورنا إلى المساهمة في محاولة فهم ما يجري وإلى الإنخراط في المعركة السياسية بالدفع بالإتجاه الذي نراه اتجاه الحق و العدل و الحرية أو بلغة لم تعد تروق للبعض إتجاه ما حملته الثورة من مطالب و ما حلمنا به منذ إنتمائنا الفكري والسياسيي لليسار التونسي.

• من سردية الحداثة و العدالة الإجتماعية إلى سردية الوحدة الوطنية
كل خطاب سياسي بالضرورة سلطة وهذا مفهوم عبر التاريخ غير ان تحوله إلى سلطة مطلقة إقصائية فهذا نفي للديمقراطية لان للحرية معنى حين تمنح للآخر لا للشبيه والشريك , سردية الوحدة الوطنية التي إنخرط فيها اليسار الحكومي (حزب المسار و القيادات النقابية المشاركة ) فضلا عن أنها توحي بالصّمم تحمل في ثناياها فخاخ عدة إذ قامت على أساس تقييم للوضع ومصارحة للشعب و الوقوف على فشل الحكومات المتعاقبة في تحقيق أهداف الثورة في مجال التشغيل و التنمية و مقاومة والفساد و هو ما أدخل البلاد في مرحة حرجة بسبب تنامي خطر الإرهاب و تدهور المؤشرات الإقتصادية مما يبررالحاجة إلى حكومة وحدة وطنية واسعة ( ضمت سبعة أحزاب ودعمتها منظمات وطنية وازنة ) قادرة على رفع التحدي فنحن لسنا أمام حالة أخرى من تشريك لوجوه وزارية يسارية بعنوان

إنفتاح الأغلبية المهيمنة إيديولوجيا على فضاءات ثقافية وإيديولوجية و مدنية أخرى خدمة لصورتها في الداخل و الخارج بل بصدد متابعة تنظير سياسي مستجدّ يقر حتمية الوحدة الوطنية حول محور النهضة و النداء لإنقاذ تجربة الإنتقال الديمقراطي المعطّل
وهو ما يعني أن سردية الحداثة و مشروع التنويرالمضاد لمشروع الإسلام السياسي و مساءلة و محاسبة المسؤولين سياسيا عن تفشي الإرهاب والإغتيالات و مناخات العنف فضلا عن سردية التصدي للثورة المضادة و عودة رموز النظام السابق وتفعيل مسار العدالة الإنتقالية قد فقدت جاذبيتها أو علي الأقل تراجعت إلى الوراء هذا التغيير الذي سبقه تردد في الموقف من حكومات سابقة و حتى من تكليف الشاهد نفسه تغيير كشفت عنه الساعات و الأيام القليلة السابقة لإعلان الفريق الحكومي وهوما يعني انه متسرع و آني في نظر الرأي العام ويعدّ في نظر العديدين إضعاف للمصداقية السياسية لدعاته ولا يمكن إدراجه في سياق عام وجدي من المراجعات الفكرية و السياسية المسنودة والبعيدة المدي والتي قد نتفق معها أو نرفضها ولكنها تؤصل الفعل السياسي فكريا وتحميه من الإرتجال

الوهن الآخر الكامن في سردية الوحدة الوطنية هو وضع نداء تونس كحزب أول عجز في الحفاظ عن وحدته أولا رغم فوزه في إنتخابات 2014 مخيبا بذلك آمال ناخباته و ناخبيه ولا زالت إلى اليوم تتآكله الصراعات التي تأججت فجأة أيام سفر رئيس الجمهورية إلى الولايات المتحدة والتي يستمر سببها الأساسي إصرار نجل الرئيس على لعب دور سياسي حزبي ووطني متقدم يراه معارضوه و أهم مؤسسي الحزب غير قادر عليه .فالثقة في وحدة وطنية ممكنة في هذا السياق مغامرة غير آمنة خاصة وأن خلافات النداء ستنتقل إلى أجهزة الدولة ومؤسساتها وستزيد في تفكيكه حمى التعيينات في مختلف مستويات المسؤولية كما سيمتد التوتّر بالنتيجة إلى الحكومة ذاتها المهددة بفقدان تضامنها ووحدتها تحت تأثير الإصطفاف و الإصطفاف المضاد مع نجل الرئيس وطموحه أوضده وستضيع في هذا الغمام صورة الوزراء اليساريين وإن صدقت نواياهم خاصة و أنهم بلا سند برلماني غير سند الإتفاق القائم بين النهضة و النداء.

آراء أخرى لا ترى في حكومة الشاهد فعلا حكومة وحدة وطنية منسجمة والسبب ليس تباعد مكوناتها إيديولوجيا وبرنامجيا بل غايتان خافيتان للشيخين فرئيس حركة النهضة يريد إنهاك الجميع حتي تعود حركته أقوى في الموعد الإنتخابي القادم ورئيس الجمهورية يريد إسترجاع كل السلط التي لم يمنحها له الدستور عبر رئاسة الحكومة الجديدة . فنحن إزاء تركيبة حكومية مرجعيتها الخطابية سردية الوحدة الوطنية وبنيتها هشة ووحدتها مشكوك فيها وتضامن وزرائها غير مضمون وهو ما سيضع الأطراف اليسارية الداعمة لها والمشاركة فيها أمام محن عديدة و وضعيات صعبة السكوت عنها و الحياد إزاءها خيار مكلف سياسيا وأخلاقيا .

• مهام اليسار المعارض
معجمية اليسار المعارض من جهتها لا يمكنها أن تكتفي بالمزاج الإيديولوجي المتحدث بإسم الكادحيين و الفقراء ولا بمهاجمة المؤسسات المالية الدولية وربطها بالمخططات الإستعمارية فهذا الخطاب حتى وإن إستحسنه المناضلون لايمّر في أوساط واسعة من الرأي العام بل هو بصدد عزل اليسار وخاصة الجبهة الشعبية عن فئات عديدة تنتمي للطبقات الوسطي و أجسام مهنية متنوعة . ونخب ديمقراطية من أجيال جديدة لها زمنيتها الخاصة و روحيتها اليسارية المنفتحة التي وإن إستغربها محافظو اليسار لا زالت تدافع عن ذاتها وتبحث عن مكانها ودورها.

للمعارضة اليسارية البرلمانية للحكومة في مقابل ذلك منبر هام حين يفعّل في ضوء المعطي الحكومي الجديد سيصير قادرا علي تغير ميزان القوي السياسي في معركة الإرادات القادمة لا في معركة الأحجام الكمية بين حكومة وحدة وطنية لا يثق في توحد ها مكوناتها ذاتهم و معارضة برلمانية محورها نواب اليسارفي مجلس نواب الشعب وحلفاؤهم كما أن تصاعد نسق وتيرة الإحتجاجات الإجتماعية الحاملة لوعي مواطني إجتماعي عميق لدى المعطلين و سكان الجهات المهمشة و النساء و تنوع مرجعيات الحركات الإجتماعية الجديدة الناشطة في مجال الحقوق الإجتماعية و البيئية و الثقافية و المدنية المتصدية لمحاولات تجريمها وعزلها تمثل كلها حاضنة سوسيولوجية غنية لصعود سياسي ممكن لفاعلين سياسيين جدد و ليسار ديمقراطي يحمل بدائل و قادر على كسب ثقة المزيد من الناخبين مستقبلا.

مهمة تاريخية مزدوجة تقع اليوم على عاتق اليسار بعد أن اهتزت الثقة في ما بقي من النداء في هذه المرحلة الإنتقالية التي لم تكتمل محورها الأول نضاله من أجل دولة القانون واستكمال بناء المؤسسات الديمقراطية الضامنة للحريات و حقوق الإنسان وترسيخ ثقافتها و قيمها في المجتمع والمحور الثاني هو التبني الصريح و العلني للمطالب الإقتصادية و الإجتماعية لاصحاب المؤسسات المنتجة و المشغلة و التي أنهكها فساد الإدارة والمحسوبية و التجارة الموازية و المطالبة بمنافسة اإقتصادية شفافة داخل إقتصاد سوق عصري و بدورحمائي للدولة لسوق الوطنية من منافسة غير متكافئة مع مؤسسات إقتصادية عالمية ضخمة وتبني هذه المهمة يستوجب الإنفتاح على المنظمات المهنية و النقابات الممثلة لهم وخطة إتصالية وإنفتاح تنظيمي وتشبيك يغير وجه اليسار وصورته في نظر عموم التونسيين.

فنحن في حاجة إلي يسار يتبني مطالب العدالة الإجتماعية ويعمل من أجل دور فاعل للدولة في وضع السياسات الإقتصادية و في توجيه الإستثمارات و تفعيل آليات إعادة توزيع الثروة وكذلك إلى يسار يساعد على تحرير كل القوى المنتجة وتمكينها من الإستثمار و خلق الثروة بذلك يصير جزء من مهام اليسار هو توسيع مدى مجال الممارسة الديمقراطية داخل المجتمع لتشمل المؤسسات و الفضاءات العامة و المنافسة الإقتصادية وعالم الإنتاج و العمل وعلى دفع و تشجيع مبادرات المستثمرين الشبان و مشاريع الإقتصاد الإجتماعي و التضامني.. تلك بعض مقدمات بناء قوة سياسية وطنية تقف في وجه الفساد و مجموعات الضغط و تجاوز القانون و ضعف ثقافة العمل و الكفاءة وبيروقراطية الإدارة و توحّد بالنتيجة قاعدتها المجتمعية المشتتة دون وجه حق وتوسع دائرة جاذبيتها في مجتمعها الواسع .

قدرة هذا اليسار الجديد على الإظطلاع بدوره و مد يده لحلفائه الحاليين و المحتملين هي التي ستدفعه إلى الأمام بل هي التي ستوجه الأنظار إليه كقوة بناء يثق فيها التونسيون لا صوت رفض وإحتجاج حتى و إن إختلفوا معها في الرأي فدستور الجمهورية الثانية كان ثمرة صراع فكري و مجتمعي و مقاومة ميدانية بين مشروعين مجتمعيين و إدراك مطالب الديمقراطية الإجتماعية و ووضع البلاد على سكة نهوض إقتصادي واجتماعي يحد من الفقر و التفاوت بين الجهات لن يتحقق دون صراع و مقاومة مما يهيؤنا أن نكون أكثر إقتدارا حين نتجه نحو عقد إجتماعي جديد يكون عادلا فعلا هذه المرة.

بقلم: ما هر حنين

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115