رسالة إلى السادة رئيس الحكومة و نواب الشعب: إنّ إقحام الأسلاك المسلّحة في الانتخابات لا يخدم مصلحة البلاد في شيء بل بالعكس...

ما زال مجلس نواب الشعب عاجزا عن البتّ في مشروع تنقيح القانون الأساسي المتعلّق بالانتخابات و الإستفتاء و ذلك بسبب التجاذبات المتواصلة حول مقترح تمكين أعوان الأسلاك المسلّحة من جيش وطني و قوات أمن داخلي و ديوانة من ممارسة «حقّ» الإنتخاب. في الظاهر

يبدو المقترح على غاية من التقدّميّة (!) إلاّ آنّه في حقيقة الأمر لا ينسجم وروح الفصول 18 و19 و49 من الدستور ولا يأخذ في الاعتبار خصوصيّات تلك الأسلاك و لا واقع البلاد، فضلا على أنّه لا يخدم بالمرّة لا مصلحة تلك الأسلاك ولا مستقبل البلاد.
في البداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الموضوع لا يتعلّق، كما يروّج له البعض، بإقصاء فئة من المواطنين من حقوق جاء بها الدستور، بل هو «تعليق ظرفي» لعدد من الحقوق و الحرّيات لمن يحمل السلاح. ويبقى حمل السلاح و ما له من مقتضيات، المبرّرات الرئيسيّة لعمليّة التعليق تلك، حيث أنّ مفعول ذلك الإجراء، «تعليق الحقوق»، ينتهي بصفة آليّة و بدون أيّ إجراءات، حال مغادرة المعني المؤسّسة المسلّحة و يسترجع كامل حقوقه تماما كغيره من سائر المواطنين.

الجانب القانوني للمسألة
يبرّر المدافعون عن مقترح تمكين الأسلاك المسلّحة من ممارسة «حقّ» الانتخاب، بحرصهم على تمكين أفراد تلك المؤسّسات من كامل «حقوقهم» الدستوريّة بالتساوي مع بقيّة مواطنيهم كما جاءت في الباب الثاني، «الحقوق والحريات» من الدستور. صحيح أنّ الدستور نصّ في فصله 34 على أنّ « حقوق الانتخابات والاقتراع والترشّح مضمونة طبق ما يضبطه القانون» و هذا ينسحب طبعا على جميع المواطنين، إلاّ أنّ ذات الدستور نصّ في فصله 49 على أن «يحدّد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني...». فبهذا الفصل (49)، يتّضح جليّا أنّ عدم ممارسة تلك الأسلاك لعمليّة الانتخاب هو إجراء دستوري، له مبرّراته «مقتضيات الأمن و الدفاع»، و ليس كما يروّج له البعض، إنكارا لذلك الحقّ على أولائك الأعوان أو استنقاصا من مواطنتهم. و لإدراك حقيقة مقتضيات الأمن و الدفاع، لا بدّ من الإلمام جيّدا بخصوصيّات الأسلاك المعنيّة و

مقتضيات نجاحها في مهامها المؤسّساتيّة. فمن أهمّ خصوصيّات تلك المؤسّسات، الانضباط باعتباره أهمّ مقوّماتها و الحياد التام وطابعها «اللاسياسي» وانسجام مكوّناتها و نكران الذات حتّى التضحيّة، عند الاقتضاء، بالنفس من أجل الوطن. ولا جدال في أنّ الأسلاك المسلّحة وحدها تنفرد بهذه المفاهيم و فيها فقط يجوز قانونيّا للآمر أن يأمر مرؤوسيه بمهمّة وهو يعلم جيّدا أنّها قد تؤدّي بهم للإستشهاد، و حتّى إن حصل ذلك لا يؤاخذ عليه، أمّا العون الحامل للسلاح فهو كذلك المواطن الوحيد الذي عليه إطاعة آمره حتّى لو أدّى به ذلك للتضحية بالنفس كما لا يؤاخذ بدوره عن «قتل» العدوّ بل قد يكافأ عن ذلك. تلك الخصوصيّات والعقليّة، هي من متطلّبات نجاح الأسلاك المسلّحة في مهامها ولا تتماشى ومشاركة أعوانها في الانتخاب، إذ لا تساعدها بالمرّة على الثّبات على تلك المقوّمات الأساسيّة بل بالعكس لن تساهم إلاّ في تسييسها و إضعاف روح الانضباط فيها و تشتّت مكوّناتها و انقسامها. فتعليق بعض الحقوق لأعوان الأسلاك المسلّحة، عمليّة دستوريّة لا لبس فيها إذ لها ما يبرّرها طبقا للفصل 49 من الدستور ذاته باعتبارها من مقتضيات الأمن و الدفاع.

مقتضيات «الحياد التامّ» و ممارسة عمليّة الإنتخاب
يقضي دستور جانفي 2014 في فصليه 18 و 19 بأن تؤدّي كلّ من المؤسّستين العسكريّة و الأمنيّة « مهامها في حياد تامّ». إلاّ آنّ ممارسة عمليّة الإنتخاب تفترض من الناخب، العسكري و الأمني في هذه الحالة، أن يولي اهتماما بالشأن السياسي من أحزاب و مترشّحين و برامج و خيارات سياسيّة حتّى تتبلور لديه مواقف و قناعات شخصيّة يصوّت للجهات السياسيّة التي تتبنّاها. و بالتصويت فهو يعبّر عن قناعات سياسيّة يمكن أن تتطوّر إلى ميولات و من ثمّ إلى ولاءات، من المستحيل ضمان عدم تأثيرها على كيفيّة أداء أصحابها لمهامهم و على التزامهم بالحياد التام المطالبين به بالدستور ذاته. و الحياد السياسي لا يقف في الأصل عند حدّ عدم الانتماء الحزبي، بل يقتضي من حاملي السلاح و مؤسّساتهم المحافظة على صبغتهم الّلاسياسيّة وهو ما يعني البقاء بعيدا كلّ البعد عن الشأن

السياسي، عدم الاشتغال بالسّياسة و لا لعب أيّ دور سياسي بل بالعكس الخضوع لسلطة مدنيّة. و ليس من الصعب تصوّر ما يمكن آن يحصل داخل الوحدات من انقسامات و انخرام الانضباط بسبب اختلاف توجّهات أفرادها السّياسيّة ونتيجة لمحاولات الفاعلين السّياسيين لاستمالتهم. يكفي تصوّر ما كان يحصل بتونس أثناء أحداث 0201 / 1201 أو ما عرف «باعتصام الرحيل» في صائفة 2013 ، لو لم يكن الجيش الوطني والمؤسّسة الأمنيّة بعيدين عن كلّ ما له علاقة بالسياسة. إذن لا شكّ أنّ تمكين حاملي السلاح من ممارسة عمليّة الإنتخاب تتناقض تماما مع روح الدستور إن لم نجزم أصلا بلا دستوريّته. أمّا القول بأنّ دراية الأعوان بالشأن السياسي و المشاركة في الانتخابات لا تمنعهم من الإلتزام بالحياد التام، فهذا غير واقعي، نحن نتعامل مع بشر يتأثّر لا محالة بما يجري حوله في محيط لا زالت السياسة تطغى فيه على كلّ كبيرة وصغيرة، ولا بدّ من ضوابط و ضمانات تساعده على البقاء فعلا محايدا.

حقوق المواطنة و ممارسة عمليّة الإنتخاب
لا يتورّع المدافعون عن ذلك المقترح من وضع مواطنة حاملي السلاح في الميزان مقابل تمكينهم من ممارسة «حقّ الانتخاب»(!) و كأنّ مواطنتهم تلك هي موطن شكّ أو ناقصة، وهذه مغالطة كبرى تتجاهل خصوصيّات أولائك الأعوان. بطبيعة الحال يبقى هؤلاء الأعوان مواطنون كاملي الحقوق، إلّا آنّ صفتهم «حاملي السلاح» تجعل منهم مواطنين ذوي خصوصيّات عديدة و هامّة تفرضها طبيعة مهامّهم، فبحوزتهم بالقانون أسلحة تمنع بنفس القانون على بقيّة المواطنين، و يخضعون لأنظمة أساسيّة خاصّة تفرض عليهم العديد من القيود على حرّيات يتمتّع بها غيرهم من مواطنيهم. إلّا أنّ ذلك لا يجعل منهم بالمرّة، مواطنين من درجة دنيا بل بالعكس هم بذلك مواطنون من درجة خاصّة و في الواقع و نظرا لنبل مهامهم و ما يقدّمونه للبلاد، هم مواطنون من «درجة أولى» و كذلك يتعيّن اعتبارهم و معاملتهم في المجتمع. في الحقيقة، لا تشوب مواطنة حاملي السلاح أيّة شائبة تستوجب التدارك إذ هم يكتسبون مواطنتهم تلك كلّ يوم بالعرق و الدّم 24/24 ساعة، 365 يوما في السنة و عند الاقتضاء التضحية بالنفس. فهل مع ذلك، هم في حاجة لبرهان مواطنة

إضافي؟ أمّا إن كان هناك إصرار على اعتبار حاملي السلاح متساوي الحقوق، بالمفهوم البسيط المطلق، مع بقية المواطنين و إن كان الفصل 49 لا يسمح بتعليق أيّ حقّ مهما كانت المبرّرات، فلماذا لا نمكّنهم من باقي حقوقهم الدستوريّة كاملة، بدءا بحقّ الترشّح للمناصب النيابيّة الوارد في نفس الفصل 34 مع حقّ الانتخاب؟ و ماذا في تلك الحالة عن «حرّية الرأي و الفكر و التعبير والإعلام و النشر» (الفصل31) و«حرّية تكوين الأحزاب والنقابات و الجمعيّات» (الفصل 35) و«حريّة الاجتماع والتظاهر السلميين» (الفصل37). وماذا عن القيود الواردة بالأنظمة الخاصّة والتراتيب الداخليّة من تراخيص للزواج وللتنقل خارج البلاد وحتّى داخلها والحال أنّ الدستور يضمن «لكل مواطن الحرية في اختيار مقر إقامته وفي التنقل داخل الوطن وله الحق في مغادرته» ( الفصل24)؟ عليكم الإجابة و تقدير جدّية الطرح الذي تقدّمون.

مدى واقعيّة هذا الإجراء و البلاد على الحالة التي نعلم !
الكلّ يعلم مدى انشغال الأسلاك المسلّحة، المعنيّة بهذا الإجراء، بالحرب على الإرهاب وبالعديد من المهام الأخرى كتأمين الانتخابات ذاتها و إسنادها لوجستيّا. فمن يتولّى تلك المهام يوم ممارسة العسكريّين والأمنيّين عمليّة الانتخاب، حتّى و لو كانت في يوم مغاير و بالمراسلة؟ هل يعقل دعوة الآلاف من القيادات والضباط وضباط الصف والجنود والأعوان المسخّرين لمهام الحرب على الإرهاب والتهريب و الجريمة بأنواعها ومجابهة الانفلاتات والمنتشرين على الحدود وفي الصحراء وفي المياه الإقليميّة والأرياف، للتفرّغ لعمليّة التصويت ولو لبضع دقائق؟ هل للسادة النواب أيّ فكرة عمّا يتطلّب تنظيم عمليّة انتخابيّة لعشرات الآلاف من المنتخبين من مجهودات و موارد بشريّة و لوجستيّة دون المساس من المنظومتين الدفاعيّة و الأمنيّة ؟ لعلّكم تأملون عقد هدنة يومها مع الإرهابيين و المهرّبين؟

رجاءا شيئا من الواقعيّة بل قل من المسؤوليّة! زوروا تلك الوحدات والمناطق و اطلبوا رأي أهل الاختصاص إن كنتم لا تعلمون.. إن قدّر لهذا الإجراء أن يعتمد في المجلس، فسيبقى ربّما من القوانين الانتخابيّة الأكثر تقدّميّة في العالم (!) لكن في الواقع سيطرح العديد من الإشكاليّات التنفيذيّة، لن تقدر المؤسّسات المسلّحة تنفيذه بالشفافيّة والشموليّة المطلوبتين، وبذلك ستوفّر فرصة للجهات السياسيّة ضعيفة النتائج الانتخابيّة، للطعن في مصداقيّة لا انتخابات الأسلاك المسلّحة فحسب بل كلّ الانتخابات برمّتها، في حين كان يتمّ اللجوء إليها لدعم مصداقيّة كامل العمليّة الانتخابيّة !!!. و لا ننسى أنّ تونس مدعوّة لتنظيم انتخابات تقريبا كلّ سنتين، 2014 :تشريعيّة/رئاسيّة – 2017 :بلديّة – 2018 أو 2019 :جهويّة – 2019 :تشريعيّة رئاسيّة...
أمّا بخصوص التفكير في الاستئناس ببعض الدول المتقدّمة، فيكفي مقارنة أوضاعهم بأوضاع بلادنا لا الاقتصاديّة والاجتماعيّة و الأمنيّة فقط، بل خاصّة من حيث تركيز المؤسّسات بما فيها المسلّحة و تكريس مبادئ الديمقراطيّة في السلوك اليومي للمواطن، فهل تجوز المقارنة أصلا؟ أمّا للحفاظ على درجة من التفاؤل المسؤول والواقعيّ، يمكن تصوّر إعادة النظر في هذه المسألة بعد أربعة أو خمسة عقود من الاستقرار المؤسّساتي والسياسي و الأمني و النمو. أمّا في المرحلة الراهنة، فلا تندرج هذه المسألة ضمن أولويّات البلاد. فاتركوا تلك الأسلاك تؤدّي مهامها وادعموها بالإحاطة الاجتماعيّة المعنويّة وبالتكوين و التدريب و بالمعدّات الضروريّة، حافظوا على مناعتها ضدّ كلّ ما يضعفها عوضا عن غرس فيروس السياسة والاختلاف والتمزّق الداخلي ومن ذلك ضياع البلاد. الرّهانات كبيرة وأخطاؤكم في

هذا المجال لن يتسنّى تداركها !!!
إنّ مقترح تشريك الأسلاك المسلّحة لا يستجيب لا لأولويّات تلك الأسلاك و لا يدعم قدراتها على حماية البلاد، ولا للواقع، بل ستقحمها في التجاذبات و المناورات السياسيّة وستنال حتما من قدراتها. و يبقى السؤال، لماذا يحظي هذا المقترح بإصرار لامتناهي من طرف أحزاب سّياسيّة عبر ممثّليها في مجلس النّواب إلى حدّ التضحيّة بالانتخابات البلديّة؟ سرّ لا يعلمه إلاّ ساكني القبّة.
أمّا الإعلام، فلا أراه يتناول الموضوع إلاّ باحتشام و حياء، ربّما حتّى لا ينغّص على أصحاب المقترح تحقيق أهدافهم.
اتقوا الله في تلك المؤسّسات، آخر ما بقي من الدولة !

بقلم : محمد المؤدب أمير لواء (متقاعد)

- حفظ الله تونس -

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115