هيئة الحقيقة والكرامة القانون أم السياسة؟

بقلم: مصطفى بعزاوي
عضو هيئة الحقيقة والكرامة مختص في المالية

تقوم الديمقراطية على قاعدة أساسية هي احترام علوية القانون. بدون الاحتكام إلى قانون تصبح الحرية سلعة تباع وتشترى وتوزع بحسب قواعد الولاء السياسي أو العرقي أو الطائفي أو القبلي أو غير ذلك من العلاقات والروابط الاجتماعية.

كما أن الدفاع عن علوية القانون لا يتجزأ بحيث ندافع عنها في مكان ونتغافل عنها في مكان آخر. ولا يمكن السكوت على تجاوزها تحت أي ذريعة لأنها الضامن الوحيد لبناء مجتمع العدل والمساواة ولو بعد حين. ويمكن أن يتسبب التشبث بعلوية القانون في بعض المشاكل والاضطراب لكن سرعان ما تزول لأن الشعب سيدافع عنها إذا شعر حقيقة أن هناك توجها صادقا في احترام القوانين ولاحظ أن تطبيق القانون يسري على الكل وان السياسة لا تغطي أحدا ولا تمنح حصانة للمخالفين.

مبرر هذه المقدمة هو الصمت المريب - يصل حد التواطؤ – من طرف كل السلطات الشرعية على خرق كل القواعد القانونية من طرف رئيسة هيئة عمومية من مهامها القانونية المساهمة في إنجاح الانتقال الديمقراطي. فكيف يستقيم المسار الديمقراطي وواحدة من المؤسسات تدوس على علوية القانون جهارا نهارا في ظل الصمت المطبق يصل حد الامتناع عن مساءلتها أو مساءلة الأطراف الذين يدعون او ينسبون لها خرق القواعد القانونية ؟

هذا ما سمعناه خلال جلسة الاستماع مع لجنة شهداء وجرحى الثورة التي حضرتها مع إثنين من زملائي من أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة الذين وقع إعفاؤهم بطريقة مخلة ومسيئة للهيئة وكذلك للقانون المنظم لعملها. حيث واجهنا بعض نائبات مجلس نواب الشعب بدعوى أن قرار المحكمة الإدارية القاضي بإيقاف قرار إعفائنا هو حكم في الشكل وليس في الأصل – وهي بالصدفة الرواية التي تروج لها رئيسة الهيئة – ويتعين علينا انتظار الحكم في الأصل. وعلى أية حال المسالة من انظار القضاء. وعليه ليس لمجلس نواب الشعب اية سلطة لمطالبة رئيسة الهيئة بالامتثال لقرار وقف التنفيذ باعتبار انه قرار في الشكل وليس قرارا في الأصل.

ويهمني التذكير أن القانون المنظم لعمل الهيئة – الذي كتبه وناقشه وصوت عليه نواب مجلس الشعب واخص بالذكر منهم النائبتين المحترمتين - حدد نصاب مجلس الهيئة بثلثي نواب الهيئة وهو عدد لا يمكن أن يقل عن 10 أعضاء لتكون جلساتها قانونية. كما إشترط نفس العدد [ يعني 10 أعضاء ] في حالة التصويت على إعفاء أو إقالة أي عضو من أعضاء الهيئة. وشرط الثلثين شرط عام نجده تقريبا في كل الهيئات الدستورية والمستقلة.
ومع انه لم يتوفر اي من الشرطين في حالات إعفاء الأعضاء الثلاثة فإن بعض النواب لا يرون حرجا في تجاوز رئيسة الهيئة للقانون الذي كتبوه ويجدون لها الذرائع والأعذار للتنصل منه ؟ فهل كتبوا القانون كي يطبق ام كتبوه كي تكون لنا مجرد نصوص نتباهى بها

في الإعلام وأمام المنظمات الدولية ؟؟؟؟؟؟
وهنا نفهم سر فائض القوة الذي تعتمد عليه رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة وتستقوي به لتحدى المنظومة القانونية نصوصا ومؤسسات باعتبار السند المطلق من بعض الأطراف للتغطية عليها وتوفير الغطاء السياسي لكل تصرفاتها. ما نعتبره من الأخطاء غير المحسوبة لهذه الأطراف والتي يجب ان تراجع مواقفها لأنها لن تجد ما تعتذر به عندما تكتشف حجم التجاوزات.

اما ما يتعلق بقرار المحكمة الإدارية القاضي بإيقاف قرار إعفائنا فيمكن الرجوع إلى الفصول 39 , 40 و 41 من القانون المنظم للمحكمة الإدارية للتأكد أن قرار إيقاف التنفيذ هو من القرارات التحفظية والتي لا تقبل أي وجه من أوجه الطعن.
ولا نرى طعنا أقسى من عدم الامتثال لمضمونه قرار إيقاف تنفيذ مقرر إداري (في حالتنا قرار الإعفاء) هو من المشمولات الحصرية التي أوكلها القانون للسيد الرئيس الأول للمحكمة الإدارية ويستند قرار السيد رئيس المحكمة إلى ما يتوفر لديه من معطيات ووثائق

توفرها الجهة الإدارية المعنية المصدرة للمقرر حيث ينتهي إلى إصدار قرار بإيقاف التنفيذ إذا تبين له ان هناك أسبابا جدية مخلة بالمقرر وان التمادي في تنفيذ المقرر الإداري بإعفائنا يتسبب في نتائج لا يمكن تداركها. وهو ما تم فعلا بتاريخ 24 ديسمبر 2016.
لكن رئيسة الهيئة وبعض نواب مجلس الشعب اعتبروا أن قرار إيقاف التنفيذ الصادر من السيد الرئيس الأول للمحكمة الإدارية هو حكم في الشكل ورئيسة الهيئة غير ملزمة بتنفيذه إلى حين صدور الحكم في الأصل . مع ان القضية الأصلية ليست الطعن في قرار الإعفاء بل قضية في تجاوز السلطة . وبما ان الهيئة مستقلة في قراراتها فهذا سبب إضافي يبرر حسب رأيهم امتناع رئيسة الهيئة عن الامتثال لمقتضياته.

رفض رئيسة الهيئة تطبيق قرارات إيقاف التنفيذ التي اعتبرتها ( حكما في الشكل بحسب تعبيرها ) نفهم منه أن هذه الفصول هي فصول يجب فسخها ومحوها من قانون المحكمة الإدارية لأنها لا تملأ عين رئيسة هيئة الكرامة وأن هذه الصلاحية الممنوحة إلى السيد رئيس المحكمة الإدارية هي صلاحية شكلية لا يعتد بها. ونحن نبحث عن الكرامة في هذه الصورة فلا نجد كرامة لا لأنفسنا ولا للقانون ولا للسيد الرئيس الأول للمحكمة الإدارية الذي أصدر قرارا [ شكليا ] بحسب فقه رئيسة الهيئة. وبهذه المناسبة نعتذر من السيد الرئيس الأول للمحكمة الإدارية ومعاونيه وكتبته وكل موظفي المحكمة لأننا أثقلنا كاهلهم بملف شغلهم وشغلنا وأزعجهم وأزعجنا ليفضي بنا إلى مقرر لا طائل منه ولا يطبق من طرف رئيسة هيئة الكرامة.

كما اننا نطالب المشرع - في إطار الإصلاحات التشريعية - بإصلاح أخطاء النصوص القانونية ومحو الفصول التي ذكرناها حتى ترتاح المحكمة ويرتاح رئيسها ويصبح الطرد من الإدارة حكما عاجلا نافذا في حين يبقى التظلم واسترداد الحقوق مؤجلا إلى حين اجتياز كل درجات التقاضي - إبتدائيا واستئنافا وتعقيبا - أو موت المدعي كمدا وحسرة وجريا داخل أروقة المحاكم والدوائر.

أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة ليسوا موظفين عموميين إلا إزاء الغير بنص القانون. أما بصفتهم أعضاء في مجلس الهيئة فهم أعضاء منتخبون مكلفون بمهمة محددة مهاما وزمنا وكان يفترض أن تعتبر رئيسة الهيئة ان القانون المنظم هو سقف لا يمكن تجاوزه أو الاستخفاف بفصوله ولا تذهب إلى قرارات الإعفاء إلا في الحالات القصوى مع توفر شروطها والتريث في تطبيقها لما لهذه القرارات من نتائج وتبعات سلبية على صورة الهيئة والمهام السامية المكلفة بإنجازها. عدى ان تكون هيئة فوق الشبهات.

لكن فائض القوة عند الرئيسة – بسبب الدعم اللامشروط من بعض المكونات - يشعرها أنها مسنودة وتعتبر نفسها فوق المساءلة والحساب وتتمتع بحصانة ربانية يدفعها للتصرف بعكس حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها. ويمكن تذكير السادة نواب مجلس الشعب أن قرارا بحجم قرار إعفاء أحد الأعضاء أثقل واخطر من أن يتخذ في غياب الشروط الدنيا لتمريره.

كما ان رئيسة الهيئة أصبحت سلطة تشريعية تستبدل الفصول القانونية المنظمة لعمل هيئتها - كما جاءت في قانون أساسي أعلى درجة من القوانين العادية - بمجرد قرارات تصدرها بعجلة وانفعال يدعو للعجب.فقد غيرت النصاب القانوني لمجلس الهيئة بعدد أصوات لا تتجاوز أصابع اليد ونشرته على موقع الهيئة دون ان يحرك ذلك ساكن أحد وسمحت لنفسها بتنقيح قانون أساسي تعجز عنه الأغلبية البرلمانية مجتمعة .

نضيف أن رئيسة الهيئة قامت بسحب الحصانة عن عضوين من أعضاء الهيئة قبل أن يقع اعفاؤهما بدافع الانتقام والعقاب واعتمادا على تقنية (التصويت ) التي تستعملها في كل الأحوال لتمرير ما تشاء من القرارات. الحصانة التي أعطاها القانون الأساسي المنظم لعمل الهيئة للأعضاء لا تسحب إلا بطلب من النيابة العمومية تقوم رئيسة الهيئة بسحبها بقرار لا يكلف غير عدد الأيدي التي ترتفع دائما.

وباعتبار ان رئيسة الهيئة أصبحت مشرعة وفقيهة قانونية ونيابة عمومية فإني أطلب من السيد رئيس مجلس النواب ومن ورائه كل نواب الشعب إلغاء وإسقاط القانون الأساسي عدد 53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المنظم لعمل الهيئة والكرامة لأن رئيسة الهيئة لا تحتاج قانونا ينظمها فقد أصبحت هي التشريع الموازي نفسه.

فيا معشر الإنس والجن هل تملك رئيسة الهيئة أن تقرر قواعد تؤدي إلى تعديل القواعد الرئيسية للقانون الأساسي المنظم لعملها أو إلغائها ؟ وهل يجوز أن تتجاوز الرئيسة حدود القواعد الرئيسية الواردة بالقانون الأساسي ؟
هذه الصورة تزداد قتامة إذا علمنا ان رئيسة الهيئة تفتقد لكل هذه الصلاحيات سواء في القانون المؤسس او القانون الداخلي مما يحمل من بقي من الأعضاء المباشرين مسؤولية الاشتراك في هذه الخروقات وخاصة ذوي التكوين القانوني منهم.

لو لم نكن على قناعة تامة بعدالة موقفنا وتأكدنا من المخالفات الصريحة التي أقدمت عليها الرئيسة ما كان لنا هذا الإصرار وهذا التشبث بإظهار مقدار الاعتداء الذي مسنا ومقدار الضرر الذي ألحقته رئيسة الهيئة بمسار كنا نأمل أن ينجح ليحقق أهدافه في معرفة الحقيقة وجبر ضرر الضحايا ويمضي بالانتقال الديمقراطي إلى مصالحة الشعب مع الدولة ومؤسساتها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115