للحديث بقية: لبنان وفيروز والمعجزة السياسية

لا يمكن لمن يتهادى إليه صوت فيروز الملائكي إلا أن يدرك بأن هذا الصوت قادم من عالم آخر ...وعندما تطأ الأقدام أرض لبنان وجباله الشامخة ووديانه

السحيقة مثل وادي قاديشا المقدس ، وعند الوقوف على قممه العالية المغطاة بالسحاب ، يدرك الزائر تماما بأنه لا يمكن لفيروز إلا أن تولد من رحم هذه الأرض وأن يكون مسقط رأسها بلد الأرز. لا يمكن لتلك القديسة أن تمتلك هوية أخرى سوى لبنان بكل امتداداته الثقافية والروحية والفكرية والفنية . فلبنان هو فيروز وفيروز هي لبنان بكل أوجاعه وماضيه وحضارته وجمال طبيعته. فهذا الصوت لا يمكن ان يتدفق بكل هذا الهدوء والرقي إلا من خرير تلك الشلالات المتدفقة كحلم وديع أُطلق سراحه . 

ولم تكن صدفة ان يبدأ الرئيس الفرنسي ماكرون زيارته للبنان بلقاء خاص مع السيدة فيروز ، في منزلها في منطقة انطلياس ودام حوالي ساعتين . لأنه يدرك بأن هذه الفنانة الكبيرة بصوتها القدسي أشبه بمعجزة وتختصر لبنان بكل معانيه ورمزيته ومزاياه .. لان اللبنانيين قليلا ما يتوحدون على شيء، هم منقسمون في كل شيء ومنقسمون حتى على انقساماتهم، ولكن فيروز هي كلمة السر التي توحّد الجميع ومفتاح قلوب جميع اللبنانيين لأنها رفيقة كل الدروب والذكريات وكل الأحداث الكبرى في لبنان الحديث .

ويبدو اللبنانيون اليوم مع هذه الأزمة الصعبة التي يعيشونها من انهيار في العملة الوطنية وانهيار اقتصادي ومالي وتردي الأوضاع الحياتية الصعبة مما تسبب بانقطاع الكهرباء الى ساعات طويلة وتفشي وباء كورونا الذي بات يهدد كل بيت لبناني ، إضافة الى فاجعة مرفإ بيروت وما نتج عنها من ضحايا وأضرار هائلة...أمام حجم هذا المصاب الجلل لا شيء يمكن ان ينقذهم الا معجزة كونية جديدة قد تترجم بمبادرة سياسية او باتفاق طائف جديد او ميثاق حكم جديد ..

يدرك جميع اللبنانيين ان معضلة لبنان الأولى وسبب تميزه في آن معا هي «الطائفية» ... ولكنها كانت نعمة ونقمة عليه في آن واحد. ولئن كان تجذر «الطائفية» كتراث ثقافي وكهوية متنوعة متميزة ، وانعكاسها في مرايا الفن والآداب ومختلف الأعمال الفكرية لكبار المفكرين والمثقفين اللبنانيين مثار ابداع خاص ، فإنه في عالم السياسة كان له وقع آخر ومردود سيء . فلم يعرف البلد في ظل هذا النظام وهذه المحاصصة الطائفية الزبائنية سوى الصراعات والحروب والانقسامات. وعندما انتفض اللبنانيون -وجلّهم من الشباب- في ساحات بلدهم قبل أشهر ، كانوا صوتا واحدا ينادي بإسقاط هذا النظام المتآكل مع زعاماته ورموز فساده .

اليوم هناك رئيس حكومة جديد يتمّ تكليفه هو مصطفى أديب أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية وعدة جامعات أخرى . عرفناه قبل أكثر من 18 عاما في كلية الحقوق والعلوم السياسية بلبنان كأستاذ شاب طموح مثقف يحمل أفكارا تنويريه ورؤية استشرافية ويحمل إرادة وعزما. فهل يترجم ذلك في الحكم وفي عالم السياسية المليء بالتجاذبات وصراع المصالح وفي وضع معقد مثل الوضع اللبناني . وهل أن يستطيع أن يقف أمام حيتان المال والأعمال ومافيات السياسة ، وهل أن لديه ما يكفي من الحصانة الشعبية ومن العلاقات الدولية التي تسمح له بجلب الدعم اللازم للبنان لإنقاذه من محنته بمشروع وطني إصلاحي متكامل، من أجل إعادة العملة الوطنية الى سابق عهدها وتحسين الوضع المعيشي والخدماتي المتردي، وذلك من أبسط المطالب الشعبية للمواطنين في هذا البلد وأصعبها في الوقت نفسه.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115