منبر: الانتخابات الفرنسية ما بين المزايدات والشعبوية والمفاجآت المتتالية والمفارقات اللامفهومة وكل ما هو غير منتظر...!

خالد بريش باحث وكاتب لبناني مقيم في فرنسا

قد تكون هذه هي المرة الأولى في تاريخ الانتخابات الفرنسية

التي يصدق عليها قول الشاعر: الرفاق حائرون...!

ففي مطلع هذا العام نام الفرنسيون على شبه يقين أن ألين جوبيه هو الرئيس القادم. وأخذت كل الدوائر والمؤسسات تتعاطى مع الموضوع على هذا الأساس، وكانوا ينتظرون أن ينافسه في الانتخابات التمهيدية لليمين الفرنسي نيقولا ساركوزي. وكانوا على يقين بأن جوبيه سوف يربحها لكونه يكسب تأييد كل الديغوليين، والطبقة الفقيرة في صفوف اليمين الوسط التي استاءت وتضررت خلال الفترة الساركوزية لكون سيدها قد تعاطى مع مؤسسات الجمهورية كشركة ورثها، ولأنه وضع الفرنسيين في مقابل بعضهم، فتسببت أفكاره حول الهوية مثلا بحالة من التماهي والخلط بين طروحات اليمين المتطرف واليمين الوسط الديغولي المتمسك بمبادئ الجمهورية، مما أثر سلبا على قواعد الحزب فأحدث شرخا وتسربات في تلك القواعد باتجاه اليمين المتطرف مفضلين الأصل على الكوبي...

مفاجأة تشبه الصفعة
خلافا لكل التوقعات فاز فرانسوا فيون بفضل أصوات شريحة من الفرنسيين لم يعرها أحد كثير اهتمام. وهي شريحة متدينة ومتمسكة بأهداب المسيحية، استهوتها تصريحاته وما حواه برنامجه من وعود بإلغاء قانون زواج المثليين، والحد من الهجرة، التي تعني بالنسبة لهم هجرة المسلمين إلى أوروبا المسيحية. وكذلك طرحه للتعاون مع الرئيس الروسي بوتين والأسد من أجل حماية مسيحيي الشرق...

ومما لا شك فيه أن الكنيسة لعبت دورا مهما في توجيه بوصلة كبار السن من الناخبين، والذين لبوا النداء في الانتخابات التمهيدية بشكل مكثف، بالإضافة إلى كنائس الجاليات التي تعيش على التراب الفرنسي ولأتباعها حق الاقتراع. مما رجح الكفة لصالح فيون وأحيا آمالا لدى كثيرين بفرنسا المسيحية انتماء والعلمانية دستورا.

مفاجأة على الرصيف الآخر
أما اليسار فإنه يعيش حالة فريدة من نوعها بدأ بعض أقطابه يمهدون لها بعد مضي أقل من عامين على حقبة الرئيس فرانسوا أولاند. وذلك بتوجيه رسائل لم تكن مفهومة حينها عبر وسائل الإعلام المختلفة التي رددت فحواها دون إدراك ما وراءها. وتتمثل بمقولة إن الفرنسيين يريدون التغيير... وإن الطروحات اليمينية واليسارية قد تماهت الفوارق بينها، وتداخلت في بعضها فأصبح من الصعب التفريق بينها.

وقد شكل هؤلاء مجموعة متماسكة داخل الحزب الاشتراكي دون أن يوضحوا عن مخططهم. إلا أن بعض المراقبين كان لديهم إحساس بأن هناك طبخة تعد في مكان ما. وظن كثيرون أن هؤلاء لاعبون مع الرئيس هولاند ولحسابه، وأن ذلك من باب المناورة، ويتم ضمن سياق الصراع الخفي بينه وبين رئيس وزرائه إيمانويل فالس الذي سرق الأضواء من أقطاب الاشتراكيين، وأصبحت لا تمر نشرة أخبار دون الحديث عنه. مع ملاحظة تقدمه في استطلاعات الرأي وبفارق كبير على الرئيس أولاند الذي وصل إلى أدنى مستوى وصل إليه رئيس في الجمهورية الخامسة...

ولكن العجلة دارت بسرعة، وبدأت الغيوم بالانقشاع بعد أن استقال ماكرون من الحكومة معربا عن نيته في الترشح، وأنه لن يدخل السباق في الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي، لأنه في الأساس لا ينتمي للحزب ولا يخضع لقوانينه...!

وعندما أعلن فرانسوا هولاند عن عدم ترشحه، شكل ذلك سابقة في تاريخ الجمهورية الخامسة. مما مهد الطريق أمام فالس، وخصوصا أن كل استطلاعات الرأي رشحته بالفوز بأغلبية مريحة في التمهيديات الحزبية، حتى إن بعضها رشحه للفوز بكرسي الرئاسة، وبأنه سوف يكون سيد الإليزيه القادم. وهنا أيضا شكلت التمهيديات صفعة من القواعد الحزبية إلى الفيلة أو الحيتان الذين ظنوا في لحظة أنه بإمكانهم اتخاذ القرارات بعيدا عن القواعد. فصحيح أنهم في الانتخابات يوزعون المرشحين على المناطق كما يحلو لهم دون أن يكون للقواعد أي رأي في الموضوع، ولكن عندما يسمح للقواعد بأن تعبر عن رأيها فإنه سيكون مخالف حتما لرأي القيادات، ولا يتفق مع أرهاط الحزب في توجهاتهم...

مفاجأة اللاعب المجهول
وتعتبر المفاجأة الثالثة في هذه الانتخابات أن يلعب على ملاعبها شخص مثل إيمانويل ماكرون، والذي يأتي من المجهول بالنسبة لعالم السياسة. أي أنه لم يمارس يوما السياسة من قبل، ولم يدخل حلبة الانتخابات، ولا في أي مجلس منتخب...! وكل ما في جعبته أنه كان موظفا في مؤسسة روتشيلد المالية والمصرفية، وما أدراكم ما مؤسسة روتشيلد...؟ وهناك أيد حملته إلى الحلبة دون سابق إنذار...!

وأنه كان في تلك المؤسسة موظفا عاديا، أو بالأحرى لم يكن من مديريها الأساسيين، أو ممن شاركوا في إعادة تنظيمها أو هيكلتها، أو حتى ساهم في زيادة أرباحها... لقد تم غرسه مستشارا اقتصاديا في الإليزيه، وفجأة أصبح وزيرا عند أول تغيير وزاري...!

إنه شخصية حملته أياد لا يعلم إلا الله من هي، وما هي أهدافها. وتُسوِّقه على أنه الأمل، والمنقذ الفعلي، لكل المشاكل المتراكمة التي يعاني منها الاقتصاد، والمجتمع الفرنسي. طبعا دون الحديث عن دوره ومساهماته الفعلية في كل القرارات السلبية التي اتخذت على صعيد الاقتصاد في فترة حكم الرئيس أولاند، والتي أثارت كثيرا من الانتقادات والاستهجان...!

شعبوية بنغمات موزونة
ووسط هذه المفاجآت كلها تتابع مرشحة الجبهة الوطنية السيدة مارين لوبان التي تشق طريقها بشعارات شعبوية مبنية على كره الآخر، وهو الأجنبي العربي والمسلم عموما، والذي تحمله مسؤولية كل مشاكل المجتمع الفرنسي واقتصاده.
فهي لم يتغير برنامجها عن برنامج أبيها من حيث المضمون. بل كل ما في الأمر أنها أبدلت ألفاظا بأخرى، وأن شعاراتها العنصرية ما زالت هي هي، مع ممارسة لضبط النفس من قبل أنصارها إلى أن يأتي اليوم الموعود.

مفارقات غير مفهومة...
وإن كان من صفة من الممكن إطلاقها على هذه الانتخابات فهي « المفارقات». فمن المفارقات الغريبة في هذه الدورة الانتخابية هو أن كثيرا من الفرنسيين أصبحوا يتوقعون، بل مقتنعون أن مارين لوبان ستطل برأسها يوما وتجلس على كرسي الرئاسة في الإليزيه، على الأقل ليس في هذه الدورة بعدما كان ذلك من قبيل الكفر.

ومن المفارقات المقززة بالنسبة للبعض هي الفضائح المالية التي تلاحق مرشح اليمين الوسط فيون، والذي نسي فجأة تصريحاته من أنه سوف ينسحب فيما لو وجه له الاتهام بشأنها. فإذا به يصر على ترشحه مرددا: أنا أو لا أحد...! مناورا ومستدرا عطف ناخبيه، موهما إياهم بمؤامرة تستهدفه، وتريد إبعاده عن السباق، بل تريد سرقة الانتصار من جماهيره...!

وإذا كان فوز آمون في الانتخابات التمهيدية مفارقة بحد ذاته، وصدمة لفيلة الحزب الاشتراكي. فأن المفارقة غير المفهومة تكمن في تخلي الكثيرين من أقطاب الحزب الاشتراكي عنه. فيكون بالتالي أول مرشح تختاره قواعد الحزب ويتخلى عنه القادة والنخب...!

وفي اعتقادي فإن هذه الانتخابات يوجد فيها لاعب أساسي وإلى الآن لا يعرف أحد اتجاه بوصلته، ولا كيف سوف يصوت. إنهم الفرنسيون من أصول عربية وإفريقية الذين تسكن غالبيتهم في المناطق المهمشة والفقيرة. بالإضافة إلى الفرنسيين الذي يؤمنون بأن فرنسا بلد تعايش للجميع، ويحترمون مبادئ الجمهورية؛ أخوة، وعدالة، ومساواة... ويقدمونها على كل شيء، كما فعلوا في الانتخابات السابقة، فأدلوا بأصواتهم بكثافة، فأحدثوا المفاجأة، فاضطر اليمين إلى إلغاء احتفالاته التي كان قد استعد لها في الرابعة بعد الظهر بعدما كان ساركوزي وحسب استطلاعات الرأي يتوقع فوزا كاسحا على أولاند...

كل هذا يحدث واحتمالات كبيرة أيضا أن يُحدث الفرنسيون المفاجأة الأوروبية، ويتجهون عكس كل التوقعات إلى يسار اليسار، ويحملون إلى الإليزيه جون لوك ميلانشون الذي تسير حملته بخطى ثابتة إلى الآن. وبالتالي تكون نهاية الجمهورية الخامسة، وبداية مرحلة جديدة من مراحل الحكم الفرنسي. وتنتهي بذلك مرحلة قطبي اللعبة؛ يمين جمهوري، ويسار ديمقراطي. والأيام القادمة وحدها الكفيلة بالرد على على كل ذلك...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115