سياسات أمنية تحتاج إلى مراجعات ، وإعادة نظر (1)

بقلم / محمد خليفة الشيخ
وزير الداخلية الليبي الأسبق

السياسات الأمنية في الدول العربية نواقصها وسبل معالجتها والاشكال المثير للجدل المطروح في عديد الدول حول عودة الإرهابيين من بؤرو التوتر وآليات التعامل معهم.. كل هذه النقاط تناولها بالنظر كاتب المقال محمد خليفة الشيخ السياسي الليبي ووزير الداخلية الأسبق في حكومة علي زيدان 2012 - 2013. الجزء الأول من المقال طرح واقع السياسات الأمنية في الدول العربية والاشكاليات التي تعانيها، اما الجزء الثاني الذي ينشر في عدد الغد الأحد فيتعلق بسبل وآليات معالجة معضلة هذه السياسات.

ان أخطر ما يهدد الأمن و السلم الدوليين اليوم أكثر من أي وقت مضى هو ما يشهده العالم من تنامي الجماعات الإرهابية ، و عصابات الإجرام المنظم و ما تقوم به من هجمات ، ممنهجة ، و منسقة بشكل غير مسبوق فاقت كل تصور حملت أفكاراً وسلوكاً بخلفية دينية أو جنائية ، مؤطرةٌ في تنظيمات غاية في الدقة ، و الانضباط ، هدفها السيطرة وتحقيق غاياتها من خلال إشاعة الرعب والذعر ، و تسكين الخوف في نفوس من يخالفونها الفكر ، و التوجه ، وهذا الإرهاب ليس نمطياً في سلوكها ، بل له صور متعددة بحيث صار هاجساً يقلق الإنسان أينما كان يهدد حياته ، و مصالحه في كل لحظة ، لدرجة باتت الأجهزة الأمنية عاجزة عن استئصاله .

وما يزيد من الاهتمام بهذه الظاهرة كونها أصبحت سلوكاً دعمت ممارسته مفاهيم أيدلوجية ، و اجتماعية، و سياسية ، وثوريه ، أو بكل هذه الجوانب مجتمعة باعتبارها تسلك أسلوباً له دور محدد ، و هادف في نطاق إستراتجية الصراع بين الشعوب ، و المجموعات ، والأفراد ، و ليس مجرد عمل فردي عفوي .

ومن الغريب أن تتبنى بعض النخب من إعلاميين، و ساسة ، و مراكز أبحاث دولية إطلاق التهم جزافا ـ دون موضوعية و حيادية في طرحهم ـ باختزال كل فعل يرتكب موصوفاً بالإرهاب أنما مصدره ومرده الإسلام وأتباعه ، هدفهم من ذلك المساس بحقيقة الدين ، وإلصاق النقائص به ، و تشويهاً لسماحته و سموه طالقين العنان لأقلامهم و أفكارهم في طمس حقيقته ، وتلبيساً على مفاهيمه فاتهام الإسلام بالإرهاب كدين أمر يجانبه المنطق ، وتجافيه الحقيقة الإلهية لكونه رسالة ربانية تهدي للتي هي أقوم .

كل هذا الشحن للكراهية ساهم ، و زاد من عمليات الانتقام ، و أدى إلى ارتفاع مؤشر العداوة بين الشعوب و الأمم ، فكان سبباً في حالة الاحتقان ، نتيجة قيام أتباع هذا الفريق أو ذاك بعملياته الإرهابية ، سرعان ما رُدَّ عليها بأخرى انتقامية كردة فعل ، كانت نتائجهما إزهاق المزيد من أرواح الأبرياء ، وتعطيل الحياة المعيشية ، وعرقلة مسيرة التنمية في بلدانها .

و في هذا الإطار تحاول الدول ، و تسعى جاهدة الى وضع الخطط التي تلبي سياساتها الأمنية لمقاومة الإرهاب ، و مكافحة التطرف ، بكافة الوسائل والتصدي له بكل الأساليب ، فتعددت المدارس ، و المذاهب ، والمناهج التي تحاربه ، فهناك من انتهجت سياسة المناصحة ، و المراجعات ، وأخرى دخلت مع تنظيماته في مواجهات عسكرية مباشرة ، و بعضها الآخر انخرطت في تحالفات دولية ، أو إقليمية في محاولة منها لقطع دابره ، وهناك من تبنت فكرة عدم السماح بعودة مواطنيها من بؤر التو ثر الذين تورطوا في عمليات إرهابية ، و منها من وظَّفت كل تلك الوسائل دون أن تحصر مكافحته في إحدى صورها.

و للأسف و بالرغم من ذلك فهناك البعض من دولنا العربية ، أن لم تكن جميعها قد أخفقت في تحديد وجهتها الصحيحة ، وفقدت بوصلة اختيار الوسيلة الناجعة للقضاء على الإرهاب ، نتيجة تخليها عن تطبيق ما تم إقراره و الاتفاق حوله في مجلس وزراء الداخلية العرب عبر الأتي :

أ ) - الإستراتجية الأمنية العربية التي سبق و أن أقرها مجلس وزراء الداخلية العرب في دور انعقاده الثاني في بغداد الصادر برقم 18 بتاريخ 7 / 12 / 1983 و التي مثّلت أرضية لتوحيد الرؤى و الجهود العربية ، يمكن الاعتماد على جزء من مقوماتها المتعلقة بالتحصين ، والتعاون و التنسيق ، و تبادل المعلومات الأمنية والى تقنية ، وغيرها .

ب )- عدم تفعيل الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب المعتمدة من مجلسي وزراء الداخلية ، و العدل العرب في دورة انعقاد خاص جمع بينهما في القاهرة في شهر أبريل 1998 م ، و التي احتوت على تعريف الإرهاب ، ووضعت أسس التعاون العربي لمكافحته في المجالين الأمني والقضائي .

واستعاضت عنها باستنساخ مقاربات أمنية بعيدة عن الواقع الاجتماعي و الثقافي العربي ، فبعضها قامت خططها على أساس محاكاة تدابير أمنية تبنتها وأقرتها بعض الدول الأوروبية في شكل تشريعات ، و إجراءات ـ بالرغم من وجود خلاف معها حول ماهية الإرهاب وبواعثه ـ دون أن تضع في الاعتبار بأن تدابيرها تلك قد لا تستجيب لواقعها في مواجهة التطرف ، و التصدي للمنظمات الإرهابية بحكم ما تتمتع به تلك المجتمعات من خصوصية ، و قد نسوا أو تناست تلك العصبة من المخططين الأمنيين في الدول العربية بأن العنف ، والإرهاب ، إنما نشأ، وانتشرا، في المجتمعات الغربية التي فقدت نور البصيرة وعم فيها ظلام الجهل ، وغابت عنها الحكمة ، و الكياسة في معالجة قضياها فظهرت من بين ظهرانيها عصابات جنائية منظمة ، وفِرق دينية تبشيرية تحت مسميات عديدة عبر السنين تدعو الى

تغييب الآخر و طمسه في وجوده ، و موروثه وميراثه، واحتلال أراضيه،واستباحة سيادته ، و سلب مقدراته، وقمعه وقهره، غذتها وسائل أعلامها الموجهة، وفرضت على المواطن الغربي رأياً عاماً تبلور حول ترسيخ فكرة الخوف من الإسلام ، و أقنعته بأن الإرهابي والعربي ، والمسلم هي كلمات مترادفة تحمل نفس المعنى ، و تهدف إلى قتل كل ما هو جميل في الوجود كل ذلك تم بتحريض ودعم و تأييد من المؤسسات الصهيونية العالمية التي لم تبد تلك الوسائل الإعلامية اهتماما كافياً بترويج الفظائع المرتكبة بمعرفة منظمات إرهابية يهودية ، وغربية ضد مدنيين أبرياء أو بمعرفة أشخاص أو منظمات لحساب حكومات أو حتى بمعرفة الأجهزة الحكومية لدول لا تعبأ بالرأي العام العالمي ، و أهمل الإعلام حقيقة أفعال دولة إسرائيل بأنها هي من وضعت بذرة الإرهاب في المنطقة ، و إنها رعتها حتى

أصبحت شجرة بشعة تطرح ظلالها المخيفة على جيرانها ، و لعل آخر جرائمها ترصّد وقتل المناضل التونسي المهندس محمد الزواري الذي أشرف على تطوير مشروع طائرة الأبابيل القسّامية بعد ملاحقته وتصفيته في بلده في مدينة صفاقس من قبل الموساد الصهيوني .
إن ما شجع تلك الدول الأوروبية على اتخاذ قرار بعدم عودة المتورطين في عمليات إرهابية من مناطق التوتر ـ و التي تبنتها بعض الدول العربية ـ أنما جاء نتيجة عدم وجود معارضة تذكر ، لأن هناك إجماعا واتفاقا مجتمعيا بضرورة منع عودة الموصفين بالعناصر «الجهادية» بحكم أن المستهدفين بالعملية مسلمون ، وأن أصولهم غير أوروبية ترجع في أغلبها إلى رعايا بعض الدول العربية ، والإسلامية ـ لاسيما من رعايا الدول المغاربية ـ محبذين ، ومفضلين التخلص منهم بقتلهم في مناطق التو تر بعيداً عن بلدانها ، معتقدين بأنها

أفضل وسيلة لإنهاء ضررهم لأنه لو سمح لهم بالعودة ربما سيتحولون الى خلايا نائمة متطرفة ، وقنابل موقوتة ستنفجر في أي لحظة ، وستعمل على عدم استقرار بلدانها ، وتعكير صفوها بتغيير ثقافة شعوبها والتأثير على نمط سلوك حياتهم .

فرب قائل بأن هناك من الملتحقين بالمنظمات الإرهابية في صفوفها لا يقتصر على ما ذكرنا من رعايا ذوي أصول عربية، و أسلامية ، فمنهم من تعود جنسياتهم لأصول أوروبية، وأمريكية ، وروسية ، نقول هذا كلام صحيح و لكن الرقم لا يمثل نسبة كبيرة تذكر ، وهو ما جعل مسألة التضحية بهم أمر ميسَّر ، ولا غضاضة فيه في سبيل الحفاظ على السلم الأهلي لتلك الدول وعدم إرباكه، و ضمان استقراره .

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115