الشركات الأهلية: نظام اقتصادي بديل أم زبونية جديدة مكلفة؟

الواضح والجلي الآن ان المنظومة السياسية الحاكمة اليوم والقائمة على فلسفة النظام القاعدي الذي يلغي دور الوسائط

والنخب طمعا في ديمقراطية مباشرة تذهب من أسفل إلى أعلى، لن يكتمل في ذهن أصحابه الا متى رافقه تحول اقتصادي واجتماعي عميق يغير بصفة جذرية من «علاقات الإنتاج» لا بواسطة التأميم كما في كل الاشتراكيات بل بالتملك الجماعي لآلة الإنتاج عبر الشركات الأهلية بدعم ضخم من كل مؤسسات الدولة وتهميش النخب الاقتصادية المهيمنة إذ لا معنى لتهميش النخب السياسية والفكرية والمالية والنقابية والجمعياتية لو بقيت النخب الاقتصادية والمالية «القديمة» هي المهيمنة على الدوام.
صحيح اننا لا نجد هذا التصور بالوضوح الذي تحدثنا عنه في مرسوم الشركات الأهلية الصادر منذ سنة ونصف (20 مارس 2022) ولكن الخطاب السياسي الرسمي عندما يركز في كل مناسبة - وآخرها عيد المرأة في 13 اوت الجاري - ان الشركات الأهلية هي البديل الاقتصادي المنشود نفهم ان الهدف المنشود يتجاوز كثيرا مجرد إحداث صنف جديد من الشركات يشبه في بعض مظاهره شركات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني إلى خلق نسيج يمتد على كامل تراب البلاد ويشمل كل الأنشطة الاقتصادية - باستثناء تلك التي تحتكرها الدولة-والغاية ان يصبح هذا الصنف من الاقتصاد هو المهيمن والا لما تحدثنا على نظام بديل.
هنا نفهم ارتباط كل الاستراتيجيات السياسية الجوهرية لمشروع 25 جويلية: من الصلح الجزائي المفترض فيه تمويل الشركات الأهلية إلى تطهير الإدارة التي لا تبدو راغبة في تحمل مسؤولية تطبيق بعض فصول مرسوم الشركات الأهلية وخاصة تلك المتعلقة بالتصرف في الأراضي الاشتراكية او الأراضي الدولية، اي غالبية الأراضي التي يمكن أن تخصص للفلاحة في البلاد..

والسلطة السياسية لا ترى أن بعض هؤلاء الموظفين قد يكونون يخشون من مساءلة قضائية لاحقة بل ترى فيهم غرفا مظلمة هدفها افشال مشروع الرئيس فقط لا غير..
مشروع «الشركات الأهلية» ثوري في ظاهره َلكنه ينم على تصور ماضوي للاقتصاد مفاده ان «الإصلاح الزراعي» هو اصل كل شيء وان الاقتصاد كله يقوم على الفلاحة ناسيا - او متناسيا - ان الفلاحة تمثل ما بين 12 % و14 % من الناتج المحلي الإجمالي وان قرابة الثلثين يتأتى من قطاع الخدمات بكل اصنافه.
يشكل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني رافدا مهما في اقتصاديات متطورة عديدة في العالم يناهز في بعض الحالات عشر الناتج المحلي الإجمالي، لكن هنالك فرق كبير بين شركات ومؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وبين الشركات الأهلية.
في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني نحن إزاء فاعلين اقتصاديين حقيقيين (جل الحرفيين وجمعيات المجتمع المدني وبعض شركات التأمين والبنوك ..) لا يبحثون اساسا على الربح المادي ولكن على نوعية خاصة من الحياة ومن الأنشطة ذات النفع العام أو من مهن لا تحتمل المنافسة الكلاسيكية كجل الصناعات التقليدية او أصناف من الفلاحة والسياحة والخدمات ولهذا خلق هذا الإطار القانوني ليحمي هذا الصنف من النشاط الاقتصادي ذي التشغيلية المحترمة، اما الشركات الأهلية فهي مشروع سياسي يتصور انه بإمكانه خلق الثروة الاقتصادية دون شروطها الدنيا فقط بخلق شركات شبه تعاضدية تحت إشراف السلطة المحلية والجهوية والمركزية، وهذه السلطة هي التي ستبحث عن تمويل هذه الشركات من المال العام لانه يستحيل على مجموعة من المواطنين والمواطنات من ذوي الدخل المحدود او المحدود جدا أن يشغلوا بصفة مرضية قطعة فلاحية بمئات الهكتارات دون استثمارات في البداية تقدر بآلاف ملايين الدنيانير ودون قدرات عالية في التسيير والتسويق، والواضح هنا ان الدولة هي التي ستتكفل بالاستثمارات والتسيير والتسويق وايضا باجور العاملات والعاملين على أمل أن يتمكن هذا النشاط من إيجاد توازناته المالية، علما وان الشركات الأهلية، ككل الشركات الاقتصادية قد تعترضها مشاكل وصعوبات تهدد وجودها وتحكم على بعضها بالافلاس..
لا نعلم وجود دراسة جدوى جدية إجمالية لهذا الصنف من الشركات بل فقط، إلى حد الآن، ارادة سياسية تريد تسخير كل مقدرات الدولة وحتى مقدرات عموم المواطنين في الاراضي الاشتراكية لتمويل وإنجاح هذه الشركات.

هل قدرنا حظوظ ربحيتها وعدم تحويلها الى شركات عمومية تخفي اسمها، تحتاج الى دعم مالي سنوي من الدولة لكي تصرف اجور اعوانها دون قدرة،-احيانا - على خلق قيمة مضافة ذات بال؟
التنمية العادلة والمستدامة قيمة نبيلة لا يمكن أن نختلف فيها، وإخراج المواطنين من الفقر والخصاصة هدف علينا جميعا العمل على بلوغه، ولكن خلق الثروة فن ليس متاحا للجميع وهو يتطلب قبل كل شيء، ارادة وتصميما وحبا للمخاطرة وللمغامرة قبل أن يتطلب الإمكانيات المادية والعلمية
هل فكرنا في هذا؟ وهل يرغب حقا المواطنون والمواطنات الذين تم اقحامهم بتشجيع من السلط المحلية والمركزية في هذه الشركات الأهلية.. هل يرغب هؤلاء في خلق الثروة ام في اجر يحقق كرامتهم وشغل لائق وانساني؟
قديما قيل ان جهنم محفوفة بالنوايا الطيبة، كما أن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كان دوما يردد «يقادون الى الجنة بالسلاسل» ففي اي طريق نحن اليوم؟ وهل نعلم اين سنرسي؟ ام نترك أمرنا للامواج العاتية؟
ذلك هو السؤال!

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115