Print this page

مكانك قف

مع كل أزمة تمرّ بالبلاد التونسية نتوقّع من الفاعلين السياسيين أداء مختلفا ولكن ما باليد حيلة «وها أنّ الطبع يغلب التطبّع» وكأنه لا إمكانية للتغيير... وكأنّه يعسر على السياسيين بالفعل تجاوز خلافاتهم والارتقاء بسلوكهم ومراعاة السياق العصيب الذي تمر به البلاد . فأينما صوّبت نظرك

تجد قيادات حزبية تتراشق بالتهم وتحمّل المسؤولية لبعض «الأطراف» في هذا الحزب أو ذاك.
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الفاعلين في مواقع التواصل الاجتماعي فهنا تُتداول صور قيادات النهضة وتعاليق تحمّلها مسؤولية استشراء الإرهاب وتدعو إلى محاسبة من تورّط في تجنيد الشباب ومن تستّر على معاقل المتشدّدين... وهناك تنتشر مقاطع الفيديو التي تمثّل حجة قطعية الدلالة في نظر أصحابها، على إدانة النهضة ... ونظرا إلى أنّ ردود الفعل تتكرّر مع كلّ حادث إرهابي وكأنّها أضحت طقسا من الطقوس التي تحتل مكانة في نفوس أصحابها فإنّ المسألة تحتاج إلى معالجة فورية في تقديرنا، إذ لا معنى للتظاهر بأنّ هذا السلوك لا يؤثر في أتباع حزب النهضة وليست له تبعات على مستوى تمثل التونسيين لتجربة حكم النهضة، ولا جدوى أيضا من الاستمرار في القول: إنّ هذا التصرف سيتغير مع الزمن.
ومادامت عبارات من قبيل :«التوافق» و«الوحدة الوطنية» شعارات ترفع زمن الاعتداءات الإرهابية ولا يستطيع السياسيون تحويلها إلى حقيقة مرئية تطمئن التونسيين على مصيرهم فإنّ المشكل لا يزال قائما ولا مفرّ من مواجهة الأمر بكلّ شجاعة ومسؤولية.
يعنّ للقيادات النهضوية أن تدافع بكلّ شراسة عن «براءتها» مستعملة كل المبرّرات ...ويجتهد الأتباع في مواقع التواصل الاجتماعي في إدانة وسائل الإعلام التي «تفتح الملفات القديمة» وتذكّر «بماض ولّى وانقضى» بحثا عن الإثارة ولكن هل عولج الأمر وهل طويت الصفحة؟

متى يقتنع «حكماء النهضة» بأنّ عليهم اتخاذ زمام المبادرة وفتح حوار وطني حول تقييمهم لفترة أدائهم أثناء تجربة الحكم ومتى يقتنع هؤلاء بأنّ المراجعات الفكرية والسياسية لا غنى عنها لأنّها تسمح بالخروج من مرحلة «السرّ» التي يقيد التنظيم نفسه بشروطها إلى مرحلة العلن حيث المكاشفة والمصارحة والقبول بالحوار والمساءلة ثمّ المحاسبة ، وإن كانت الثمن الذي لابد من دفعه حتى تطوى صفحة الماضي ويتجه التونسيون بجميع انتماءاتهم إلى مشروع البناء الذي يتطلب التضامن الفعلي والتضحية المشتركة.
متى يقتنع قياديو النهضة ، وهو الحزب الذي استطاع أن يحافظ على تماسكه النسبيّ وأن يطوّر أداءه، أنّ الاعتذار عن الأخطاء والزلات بسبب نقص التجربة أو سوء التقدير أو الطموح الجارف أو...فضيلة بل هو شرط من شروط العمل الديمقراطي ذلك أنّ التجارب السياسية مرتبطة بالسياقات والاستعدادات والمهارات والتراكم المعرفي... وهي تقتضي التعديل والمراجعة والتصويب وتحمل المسؤولية التاريخية.

فماذا تراكم فاعلون: تتجرّؤون على معالجة الجرح النازف: تطهرّونه بكلّ الآلام التي ستترتب عنه ، وتسيرون قدما بكل شجاعة في سبيل بناء نمط علاقات تحقق الإدماج الفعلي أم ستلجؤون إلى المسكّنات «الرعوانية» التي سرعان ما يزول مفعولها لتعودوا إلى المربع الأول؟ أم أنكم ستظلون تكابرون وترفضون فتح الملفات القديمة متمسكين بمقولة «مكانك قف».

ليس خطاب المراجعة وما يقوم عليه من اعتراف بالأخطاء المرتكبة بدعة في المشهد الإسلامي فأدبيات الحركات الإسلامية تعج بكتب المراجعات والشروح والتبريرات والسير الذاتية التي أبان فيها أصحابها أن الماضي لا يمكن أن يجب بجرّة قلم عبر المراوغة والتضليل بل لابد من قرار جريء وشجاعة أدبية.

وليس خطاب تقييم تجربة العمل السياسي موجها الى حزب النهضة فقط بل هو خطاب موجه إلى جميع الفاعلين السياسيين علهم يحولون عملية التقييم والمراجعات المفتوحة والمعلنة للجميع : الأتباع والمناصرون والمنافسون والخصوم إلى تقليد سياسي جديد في العمل السياسي.

المشاركة في هذا المقال