Print this page

وهم امتلاك الحقيقة

ترسّــخ فــي المتخيّل الجماعي أنّ شهر رمضان هو شهر المغفرة والتوبة والتسامح والتنافس في فعل الخيـر وتهذيــب السلوك... ولكن شتّان بين ما تضمّنته النصوص الدينيّة من توصيات وتصورات و ما نعاينه من تصرّفات وممارسات في مختلف الأفضية : في المؤسسات الرسمية

والتعليمية والإعلامية وغيرها تبين عن التحولات الطارئة على مستوى التديّن ورؤية الذات والتفاعل مع الاختلاف والتنوّع والتعددية الفكرية والدينية. والظاهر أنّ بعض التونسيين الملتزمين بأداء الفرائض أو المسلمين السلوكيين على حدّ عبارة الأستاذ الطالبي ،ما عادوا قادرين على تحمّل الاختلاف وصاروا ينبذون كل تصرّف لا يتطابق مع قناعاتهم ويعملون على «تطهير الأرض من الرجس» وإحلال شريعة الله بالقوّة.

لقد انطلق الشهر بإعلان «حرّاس الشريعة» مراقبة المفطرين في رمضان والتشهير بمن اختار أن يقلع عن الرياء الديني. وليس التشهير والفضح والاستهزاء والإهانة إلاّ شكلا من أشكال العنف الممارس على الآخر المختلف، من جهة وتجاهلا لما جاء في دستور البلاد من مواد تنص على حرية المعتقد وحرية الضمير، من جهة أخرى.

ولكنّ المتأمّل في مثل هذه المبادرات سرعان ما يتفطّن إلى أنّ تأويل الدستور قد سار في اتجاهات متعددة ومتباينة تفضح علل الفهم من ذلك أنّ فتح المقاهي في رمضان، حسب «المتخصصين في الدعوة» لا يخص التونسيين بل الأجانب فحسب. فإذا عصى التونسي المسلم فلابدّ أن يستتر و يلزم بيته ولا يجاهر بما اقترف من ذنوب ذلك أنّ قلوب المؤمنين ضعيفة لا تقوى على رؤية «العصاة». ويغيب عن ذهن هؤلاء أنّ حق الاختيار مكفول في النصوص الدينية والقانونية على حد سواء ، وإن حاول البعض تغييب فقه الاختلاف وإظهار

التأويلات التي تسير باتجاه تنميط أشكال التدين.وعلاوة على ذلك تتنزّل عمليات ردع العصاة في إطار إصلاح تونس وتجنيبها غضب الله وسخطه من ذلك بروز عبدة الشياطين، وأصحاب النزوات...

ولا غرابة بعد هذه الممارسات التي تروّج للفكر الخرافي الذي يربط الكوارث بسخط الربّ أن يتطاول أحدهم على صاحب مطعم في توزر وأن يحرق الإطارات المطاطية تعبيرا عن غضبه وسخطه لرؤية الطعام والمفطرين في رمضان... يصرخ مطالبا الآخرين باحترامه وفي المقابل يرفض مبدأ الاحترام المتبادل والعيش معا على قاعدة المواطنة.

ولم يتوّقف الأمر عند «اقتناص» المفطرين أو منع أصحاب المطاعم من العمل إذ شهدنا تعنيفا لفنانة وتهشيما لأعمالها الفنية التي كانت تضفي جمالية على المكان بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وشهدنا كذلك كيف تحاكي القناة المتطاولة على القانون الفضائيات المشرقية فتدعي تقديم العلم الصحيح والحقيقة الدينية وتزعم النطق نيابة عن الله وحماية الدين ضاربة بذلك الوصاية على عوام التونسيين في القرن الواحد والعشرين. ولا عجب في ذلك مادامت هذه القناة قد احترفت الحض على الكراهية والدعوة إلى تكفير المثقفين بانتزاع أقوالهم من سياقاتها وتوظيفها توظيفا يتماشى مع غايات لا تغيب على غرّ.

وهكذا ها نحن نعود بعد سنوات من الجدل والاستقطاب الحدي والنقاش وفي شهر رمضان الكريم إلى نصب محاكم التفتيش من جديد والتشهير بمن قاموا بـ«نسف الدين» وأصحاب «القاذورات» و«منكري السنة» و«المشككون في أصل الدين» ومن يضربون «المنظومة الفقهية» وأصحاب الفتنة...وكأنّه يعسر على هؤلاء مواجهة الفكرة بالفكرة والنقاش وجها لوجه مع المختلف وفي إطار علمي رصين يؤمن بفقه الاختلاف وبتنوع التأويلات والقراءات ...

بالشتم والسبّ واللعن والتكفير والحط من الآخر تتضخم الذات ويعلى من شأنها وتعرض صولاتها وجولاتها علّها تشفي غليلها وتسدّ النقص الذي تشعر به وتتشفّى من أصوات ترفض الوأد والتصميت واحتكار الحقيقة . ...لا تزال أمامنا أشواط ومسارات وعقود من الزمن حتى نتدرب على قبول الرأي المختلف وإدارة التنوع والخروج من وهم التنميط.

المشاركة في هذا المقال