وراغبة في ترسيخها حتى تُحقّق مشروع المواطنة الكاملة وتُغيّر الواقع. ولم تكن الديمقراطية شعارا أو مطلبا يُرفع في الاحتجاجات بقدر ما كانت هدفا سعت مختلف مكوّنات المجتمع إلى تجسيده من خلال الضغط والمناصرة والإيلافات وغيرها من أشكال مقاومة الأنظمة القهرية.هذا دون أن نغفل المناخ العام الذي وفّر فرصة لجميع الفاعلين/ات حتى يتعلّموا/يتعوّدوا/ على الممارسات الديمقراطية أو يفتحوا النقاش حول معانيها ودلالاتها، وينطلقوا في تأسيس الهيئات والمنظمات والجمعيات القادرة على مراقبة أداء مختلف السياسيين والمسؤولين ومدى التزامهم بمبادئ الديمقراطية. ولعلّ معركة التناصف كانت خير معبّر عن هذا المشروع الديمقراطي الذي لا يلغي النساء من المشاركة السياسية بل يضمن لهن المواقع والحقوق والتمثيلية في مختلف المؤسسات والهياكل التي طالما احتكرها الرجال.
غير أنّ المطلّع على مختلف الخطابات والتشريعات والسياسات التي انتجت خلال العشرية الأخيرة، لا يسعه إلاّ الإقرار بأنّ انطلاق مسار ترسيخ الممارسات الديمقراطية لم يكن سهلا إذ برزت أشكال مختلفة من المقاومة تبنّتها فئات مختلفة وأدّت في النهاية، إلى تعثّر مسار الانتقال الديمقراطي. ولئن كان وقوف الحركات السلفية والفئات المرتبطة بالنظام القديم ضدّ مسار ترسيخ الديمقراطية مفهوما لاختلاف التصوّرات والمصالح وغيرها من الأسباب فإنّ ما نُعاينه اليوم، مثير للقلق إذ نحن إزاء حرص واضح على: أوّلا تغييب الإحالة إلى الديمقراطية في الخطابات الرسمية في إحالة واضحة إلى أنّها ليست الإطار الجوهري لممارسة الحكم، وثانيا: على ربط مسار ترسيخ الديمقراطية بالفساد وبالنخب الفاسدة واللاوطنية و... وثالثا: على اعتبار الديمقراطية التمثيلية أسوء أشكال الديمقراطية، ورابعا: على العمل على إيجاد المبرّرات والحجج التي تجعل «الشعب» متبنّيا لهذا الفهم أو السردية...
ويدفعنا هذا الوضع إلى التساؤل عن وجاهة الحديث عن «أزمة الديمقراطية» و»ضعفها» باعتبار أنّ الدولة لم تعد قادرة على حماية المواطنين من الأوبئة الجديدة: التفقير والبطالة و«الحرقة» والعنف، والتلوّث والانقطاع المبكّر للأطفال أو التقهقر في مستوى التعليم.. يُضاف إلى ذلك عودة المحافظة وتقلّص المساحات والشروط التي تسمح باستئناف مشروع ترسيخ الديمقراطية «في التعددية والتنوّع». فهل توقف الحلم بترسيخ الديمقراطية؟ وهل بات أغلبهم يكرهون الممارسات الديمقراطية التي تعريهم وتفضح تعلّقهم بالسلطة ورغبتهم في الهيمنة على الآخرين؟
ليس رفض التعددية والتنوّع والامتناع عن تجذير الحريات الفردية والعامة، وبناء العلاقات على التواصل المستمر والتشاركية إلاّ مؤشرات دالة على الانزياحات ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى طريقة إدارة الانتخابات «فوقيا وأحاديا»، وتأديب الآراء المغايرة (مرسوم 54) مثلا إلاّ علامة على «التراجع» في مسار الديمقراطية التي تقوم بالأساس على التعددية والتنوّع وإتاحة الفرص للجميع حتى يعبّروا عن تصوّرات ومطالب مختلفة ومتباينة. أمّا البحث عن التجانس السياسي والاجتماعي فإنّه يفضي لا محالة، إلى الانغلاق والإقصاء.
والظاهر أنّه كلّما عجز المسؤول عن إدارة الأزمات صار أكثر ميلا إلى استعمال وسائل الضبط والتطويع والردع، وليس التحقيق مع الصحفي نزار بهلول ودعوة والي صفاقس السلطة إلى إغلاق الفايسبوك إلاّ أمثلة دالة على هذا المأزق المتمثّل في عسر تبنّي الممارسات الديمقراطية أو تحمّل تبعات الحريات التي تمثّل العمود الرئيس للديمقراطية المسؤولة.
لاشكّ أنّنا نشهد اليوم، خروجا واضحا عن التصورات المتداولة حول تدبير الحكم وتحوّلا دلاليا في معاني الديمقراطية، وإعادة تشكيل للمسار الديمقراطي ينفلت من المألوف والمعهود والمتعامل به ليفرض تصوّرا «أحاديا وفوقيا» يراه البعض «مشوّها» لما تمّ التوافق حوله أو مقوّضا لمسار جاء بعد حوار وجدل وتفاوض وجهد طويل من أجل بناء معرفة قانونية وحقوقية وسياسية تجلّت في الأكاديميات المختلفة التي حاولت أن ترسّخ الثقافة الديمقراطية وتدرّب مختلف الفئات على الممارسات الفضلى.
لا تختزل الديمقراطية في السلطة والقوانين بل هي فتح للآفاق وتوسعة للمجال العامّ وتجاوز للحدود: الخاص/العام... ولبنى الهيمنة التي تنتج عنها. إنّها نمط تفكير وأسلوب حياة وطريقة في الكلام وفي صياغة الخطابات...إنّها في تواشج مع الفنّ والإيطيقا والاستيطيقا.